واهم من يظن أن الاتفاق قريب بين فتح وحماس. فكل منهما راضٍ بما بين يديه. حماس راضية بسيطرتها على قطاع غزة. وفتح راضية بسيطرتها على الضفة. وكما نرى، فحماس تعزز من وجودها في غزة، بحيث تلغي فتح نهائياً. وكذلك تفعل فتح في الضفة. فلا غزة تتسع لفتح بعد اليوم، ولا الضفة تتسع لحماس بعد اليوم أيضاً. وإنّ كلّ ما قيل في الأسابيع الأخيرة عن مساع جدية للمصالحة، إن هو إلا كلام جرايد: كلام أنهاه إسماعيل هنية ومشعل في احتفال حركتهما بذكرى انطلاقتها العشرين. وأنهاه أبو مازن في غير مكان وغير تصريح.
لا نساوي بين الطرفين طبعاً. ولكننا نقول إنّ الطرفين لا يريدان اتفاقاً وربما لا يستطيعان. ودليلنا: هذه الحرب الإعلامية الشعواء بينهما _ ما إن تخفت حدّتها حتى تندلع من جديد. ودليلنا: ارتباط كل واحد منهما بأجندة إقليمية، لا تسمح له ببدء حوار حقيقي فاتفاق.
لقد غدا الحديث عن [المصالح العليا للشعب الفلسطيني] حديثَ خرافة، أو شيئاً يمتّ للماضي، وغير قابل للصرف في بنك الحاضر. ففي كل يوم، تزداد الهوّة ويتعمّق الشرخ. وفي كل يوم، يعاني الشعب التائه، ما لم يعانيه في يومه السابق. فلم تعد المسألة مسألة خلاف أو انشقاق سياسي فحسب. بل وصلت إلى مستويات أعمق وأخطر: مسّت النسيج الاجتماعي برمّته.
وحين يُمسّ هذا النسيج، فيبدأ في التداعي والتفكك، فحينها قُل على الشعب والقضية السلام.
لا أذكر ولا أعرف، طوال حياتي، فترة مررنا بها تشبه هذه الفترة السوداء. الحقد والكراهية والبغض بين الجار وجاره، وبين الموظف وزميله. الريبة والحذر في تعامل الناس مع الغرباء. الخوف من الآخر في الشارع والسيارة. نظرات الشكّ إياها. ثم هذا الرعب من الكلام على مقربة من مجهول. فلعلّ هذا المجهول يكون من فتح فيرفع بك تقريراً إلى رام الله، فيقطعون راتبك. ولعلّه يكون من حماس فيرفع بك تقريراً إلى الجهات المختصة، فتُعتقل.
لم يعد أحدٌ يأمن أحداً.
ولو كان هنالك علماءُ اجتماع بيننا، لكتبوا العجب. ولكننا بلا علماء اجتماع.
لقد وصلنا حقاً إلى ابتذال المهزلة.
لم يعد للمأساة التي رسخت في ضمير العالم، من جلالٍ أو نبلٍ في ضمير أبنائها.
وإلا: ما معنى أن يتسابق أبو مازن وحكومته إلى التفاوض مع إسرائيل، وكذلك تفعل حماس عبر مناشدة إسماعيل هنية لها لتوقيع هدنة عاجلة، فيما الأخوان العدوان لا يرغبان ولا يفكران بالتحاور مع بعضهما بعضاً؟
هل هي المفارقة فقط أم هو شيء أفدح من ذلك؟
ثم إلى متى؟
إلى متى هذا التيه وهذا العناد؟ هذا الضرب الرعاعي من التفكير؟
المؤلم أن عموم الناس هم من يدفعون الثمن. سكان قطاع غزة تخصيصاً: المليون ونصف المليون مواطن. إنهم رهائن حصار إسرائيل المجرمة، من الخارج، ورهائن الطلاق الفلسطيني البائن، من الداخل.
لقد غدوا ضحايا مزدوجين: ضحايا دولة محتلة محترفة في صناعة الجرائم، وفي نفس الوقت، ضحايا حسابات الفصيل الفلسطيني، المرفوعة فوق آمال وآلام الكلّ الوطني.
حين تستمع إلى تصريحات قادة الطرفين، تتمنى لو لم تكن فلسطينياً. ما هذا التدني وما هذا الانحطاط! ومن أين جاء هؤلاء الناس؟ أمن بين ظهرانينا ومن طينة المعاناة ذاتها؟ والله إننا لنشكّ. فكأنهم جاءوا من كوكب آخر. يكذبون ويكذبون إلى حدّ الهزل الماسخ. يكذبون ويظنون أنهم قادرون على خداع شعبهم. فيما شعبهم يبصق عليهم وعلى صورهم خفاءً وعلنا. فهو يعرف، بالتجربة وعلى جلده، ومن خلال مئات التفاصيل اليومية الصغيرة والكبيرة، أنهم مجرد ديكة يتصارعون على مزبلة. مزبلة اسمها السلطة وكراسي الحكم، في منطقة من العالم، هي الوحيدة التي لا سلطة فيها إلا للاحتلال.
المؤلم حقاً، أو المضحك [فلم نعد ندري] أنّ كلا الأخوين العدوين، يريد منا نحن المثقفين، أن نكون شهود زور. نشهد زوراً لهذا الطرف على حساب ذاك. وعلى ما يبدو، فقد نسيَ الطرفان، ماهية ووظيفة المثقف، ودوره النقدي العام، الذي لا يستقيم مثقفاً، إلا به. نسوا أن مرجعياتنا من داخلنا لا الخارج. نسوا أننا فلسطينيون، فوق حماس وفتح، فلسطينيون بما هي فلسطين فوق الجميع، وبما هي خيار الذهاب إلى بهاء المستقبل.
ولأنّ فلسطين فوق الجميع، ولأنها معذبة ومنكوبة، بهم قبل غيرهم، كما لم تكن ذات يوم، فنحن معها وضد كل من يسيء لها من أبنائها العاقين.
لقد جوّعونا وبهدلونا، وقبل ذلك وبعده، أخجلونا من فلسطينيتنا. أفلا يكفي هذا لنقف ونقول للطرفين: كفى؟
إنّ جريمة فصل غزة عن الضفة، هي مصلحة إسرائيلية في المقام الأول. هي خطوة كبرى لها ما بعدها أكيداً. وإلا لمَ ترضى إسرائيل بذلك، وهي القادرة على خلط الأوراق؟
فهل تكفي هذه الحقيقة السياسية البسيطة لكي يعود الخصمان إلى رشدهما، خصوصاً ونحن أمام استحقاق التفاوض العسير والأصعب في التاريخ؟
لقد علّمنا التاريخ البعيد والقريب، أنّ إسرائيل محترفة في استغلال نقاط ضعف عدوها. تبتزّها حتى آخر نقطة، ولا أكبر ولا أفضل لها من هذا الانقسام الفلسطيني، الذي جاءها هدية من الأغبياء، لكي لا تعطينا حقوقنا المشروعة.
إنّ أخشى ما نخشاه، هو استمرار العماء السياسي لدى قياداتنا في الجانبيْن [وبالذات وبالأخصّ في حماس]. وذهاب كل واحد منهما بأجندته الخاصة منفرداً للمفاوضات أو الهدنة. فحينها نكون في غاية الانكشاف والضعف والهوان على عدونا. وحينها لن يأمل عاقل بأن يتمخض الجبل سوى عن فأر.
فلسطين الضحية الكلاسيكية لإسرائيل طوال الستين عاماً الماضية، صارت اليوم ضحية جديدة لأكبر فصيلين على أرضها: فتح وحماس. أما القادم فهو أخطر. ذلك أنه ينبثق من معلوم لا مجهول هذه المرة. فهو أسير معادلة طرفاها: عدو قادر وذكي وخبير في جانب، مقابل دوغما وغوغاء ورعاع في الجانب الثاني.
إنّ أسوأ ما نُكب به شعبُ التيه هذا، هو أنّ مقاليد أموره غدت في أيدي مَن لا يؤتمنون على شيء: لا على الحاضر ولا المستقبل. ولا على الآلام ولا على الآمال.
فكيف سنأمل فيهم، مع حلول السنة الجديدة؟
كلا
لا أمل.
لنكن مرةً غير رغَبيين [فالتفكير الرغبي من سمة الأطفال] ولنقل الحقيقة عارية مُدمّاة، كما هي في الواقع والعيان.
لا أمل!

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه