عندما هبطت quot;بنظير بوتو quot; سلالم الطائرة التي أقلّتها إلى أرض الميعاد المستعجل مع الموت بتوقيت الغدر، تابعتُ متفرّسة عبر الشاشة الصغيرة التي اتسعت بحضورها ومن خلال ملامحها التي كانت تبثّ بثّا حيّا ومباشرا، نظرة التفاؤل التي غطّت سماء الباكستان قاطبة كسحابة بيضاء محمّلة بالغيث الوفير الذي امتدّ إلى سماء نساء الأراضي المجاورة التي تحتاج إلى صحو مماثل بعدما أدمنّ الخمول والكسل والبلادة والسلبية واللامبالاة، بدتْ بنظير وهي تتهادى فرحا إلى ساحة نضالها أكثر إشراقا وجمالا وحضورا وثقة ورونقا وشبابا وإصرارا وعزيمة من أي وقت مضى، بدتْ وكأنها تُدرك في قرارة نفسها خطورة العودة، ووعورة الزمن القادم لطموحاتها الفادحة، بدتْ جديرة بقدرها المحتوم وبمخاوفنا الضارية المفتوحة على كافة الاحتمالات والغصّة، بدتْ مميّزة باختصار شديد قادني إلى مرآتي لأتصيّد من نسائيَ الكثيفات امرأة تشبهها، كانت أميزهنّ جميعا، مما جعلني أتأهّب لعقد العزم معهنّ كي أضاعف اجتهادي لأكون جديرة بإعداد مساحة تليق بواحدة على شاكلة تلك المرأة التي تتقدّم نسائي الشغوفات بquot;نظيرها quot;، كما تقدّمت بوتو بنات جنسها وتربّعت كدرّة فريدة فوق نون النسوة، لتحرّك تاء التأنيث والتأسيس عن كثب وإدراك ووعي وإحساس وسعي ومسؤولية وحميميّة وحرارة، كان بودي أن أكون في عداد المرحّبين والمحتفين والمهللين لعودتها، كان بودّي أن أطلق العنان لذراعيّ لاحتوائها، للاغتراف من وهجها، لاقتناص بصيص الحركة من صميم وجدانها، لاختطاف قبس من نور كبريائها وعليائها وشموخها وألقها، لاحتباس قسط من أجيج حرارة اندفاعاتها المُحكمة ومواقفها الشرسة في وجه الظلام، كان بودّي أن أفتح باب الطائرة التي أقلّتها وأدير محركاتها وآمر جناحيها لحمل بنظير ثانية إلى منفاها القسري الذي واراها عن الفعل لثمان سنوات متتالية ليكمّل دورة الحجب والحماية، ريثما ينقشع ضباب الإرهاب والعنف والدمويّة، لكنّ القتلة كالعادة لا يسعهم سوى أن يتربّصوا بكل معنى جميل ليغتالوا صاحبه، مُفْرَغين من كافة المعاني كأدوات قابلة للاستعمال فقط، قابلة للاستخدام لا غير... قابلة للوحشية والشر تحالفا مع شياطين المرحلة، إكراما لأبالسة السياسة والمصير.
الخبر الذي تصدّر نشرات الأخبار أول أمس كان صاعقا ومدوّيا ومُرْبِكا وشرسا للغاية، تعاقبت على إثره تصريحات الشجب والاستنكار من كافة رؤساء الدول تقدمهم جميعا خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، وكأن بموقفه هذا اختزل رؤية رجل يعي تماما ما تعنيه المرأة عندما تكون مستقلّة ومثقّفة وصاحبة قرار، فتح آفاق الرياض أمامي على اتساعها برحابة مُضاعفة، ينغّص الحديث عن الرياض وأنا زائرتها في معرضي هنا، رحيل بوتو المدوّي على يد آثمة خطط له، كما يخطط لغيره كثير من الآثمين، جعلهم الله الذي يقتلون باسمه خالدين مخلدين في النار وبئس المصير.

على صفحات الحياة اللندنية عبر إيلاف من يوم الجمعة، تابعت مقالة غسان شربل بغصّة فائقة واختناق شديد، كانت مقالة عسيرة جدا على المتابعة، مقالة تصبّ الزيت الحار على الجرح، تلهبه بضراوة فجرّت على إثرها كل ما احتبس لدي من شهقة الأمس، وجعلتني أجهش كالأطفال، وأشرق فائض الدمع وبقايا الماء المالح كالمشردين، وبعد وصلة مقتضبة ومكثّفة أقطعها بوقار مفتعل، أعاود الاستغراق بما كتبه غسان شربل وبما خطّه القدر لquot;بنظير quot; وعائلتها، أتناوب فيها بين القراءة والحسرة والتصميم والغضب والبكاء.
ما أحوجنا إلى بوتو لتظل رديفا ورافدا لأخواتها في نون النسوة، أخواتها اللواتي لم يكتمل نموّهنّ الفكري والنضالي بعد، أخواتها اللواتي آثرن الانكفاء على خيباتهنّ، وحيادهنّ، وغيبوبتهنّ، وخوائهنّ، واستسلامهنّ، وعدم الاكتراث، لتمضي بوتو وحيدة وواثقة أنها قد وضعت أمام المرأة عموما حجر الأساس لخطوات قادمة، وما أحوجنا إلى وقفة مضاعفة كموقف الملك عبد الله خادم الحرمين الشريفين من المرأة ليمهّد أمامنا طريق النهوض، بدعم متين واضح ومباشر وصريح يوازي استنكاره لاغتيال بوتو، قبل أن يواري أحدهم طموحاتنا الثرى، ويُردي جملتنا المفيدة ومعانيها برصاصة غادرة، أيتّها المرأة العتيدة الشهيدة quot;بنظير quot; بلغي تحياتي إلى من انضممت إليهم في موكب النور، رفيق الحريري، جبران تويني، سمير قصير، لكِ، ولمن كان مثلي شهيدا في عداد الأحياء.

www.geocities.com/ghada_samman
mail: [email protected]


اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه