من مفكرة سفير عربي في اليابان

كتبت كارن تانينو في جريدة اليابان تايمز يوم الثامن من أبريل عام 2007 تقول، quot;أنا وزوجي كنديين ونتنقل في اليابان للعمل والسياحة. وفي يوم الأحد الموافق للتاسع عشر من نوفمبر عام 2006، كنا مع صديق في محطة قطار موريوكا جي أر. بينما كنت خارجة من مكتب المحطة ومتوجه نحو السوق الموجودة في نفس البناية، لم ألاحظ بأن حقيبة يدي كانت مفتوحة. ولاحظت بعد عشرة دقائق بأن محفظة النقود خالية! فأصر ألأصدقاء أن نرجع للمحطة، فقد يكون أحدهم قد وجد النقود وينتظرنا. وحينما قربنا الوصول لمكتب التذاكر, ركض أحد موظفي المحطة نحونا ليقول بأنه كان يبحث عنا. وكان يحمل الأوراق النقدية والمعدنية في يده! لقد سقطت النقود رويدا رويدا من الحقيبة على طوال الممر. وقد قام هو وشخص أخر بالتقاط جميع القطع النقدية وبدقة متناهية. لقد ترك هذا التصرف انطباعا جميلا عن أخلاقيات هذا الشعب ، وبالأخص بلطف وصدق الناس في مدينة موريوكا اليابانية.quot;
هذه القصة تذكرني بقصة أخرى سمعتها من صديق لوالدي رحمه الله يقول، quot;كنت مسافر في الخمسينيات إلى سوريا. فوصلنا لدمشق، وأقترح صديق بأن نزور سوق الحميدية. فذهبنا للسوق وأعجبتنا أنواع البضاعة المعروضة ورخص ثمنها. فاشترينا بعض الهدايا وذهبنا لمطعم لنأكل الأيسكريم. وفجأة لم أجد المحفظة في جيبي. فأقترح صديقي، بأن نرجع لصاحب المتجر الذي تبضعنا عنده. وما أن وصلنا، تفتحت أسارير صاحب المتجر، وقال لنا بأن أحد المارة وجد حقيبة النقود على الأرض، ووقف وسلم، وأعطاها إياه فعسى أن يأتي صاحبها. فأخذنا محفظة النقود وشكرنا صاحب المتجر على أمانته.quot;
تلاحظ عزيزي القارئ بأن أخلاقيات الشرق متقاربة. وقد حافظ الشعب الياباني على هذه الأخلاقيات مع الحداثة خلال الخمسين سنة الماضية. وبالرغم من أن الاحتلال فرض عليهم أنظمة وقوانين لا تتناسب مع ثقافتهم وقيمهم. فقد منعوا من تدريس الشنتو في المدارس الحكومية، ومع ذلك أصروا على الحفاظ على تعليم الأخلاقيات فيها. وقد يستبعد البعض استمرار مثل هذه القيم والأخلاقيات في المنطقة اليوم. والسؤال الذي يطرح نفسه، أليس غريبا أن تتأثر الأخلاقيات والقيم بالمنطقة مع أن هناك مد ديني بارز؟ فمن المفروض أن يغذينا التدين بالأيمان، وبالقيم والأخلاقيات. كما يترافق بغناء الشخصية بالخلق والصدق والأمانة والإخلاص. ويعلمنا التضحية والوفاء والنزاهة والسماحة والعفو عند المقدرة والسلم. فالكلمة الأولى التي ننطقها كمسلمين حينما نلتقي بشخص ما هي السلام عليكم. دينانا حرم العنف وقتل النفس والانتحار. فأين نحن من كل هذه الخلق والأخلاقيات؟ كيف تغيرت مفاهيمنا للدين فجأة؟
نطالب بالديمقراطية ونريد تطبيقها لصالحنا ولكننا نحرمها عن الآخرين. نصرخ بأهمية الدستور والقانون والأنظمة، ولكن حينما تتعارض مع مصالحنا نطبق الأرض على السماء. نستفيد من عواطف شبابنا الذين لم تعصرهم خبرة الحياة، لنفرض أفكارا قد لا تتماشى مع واقع حياتهم ومستقبلهم. وننسى بأن أولادنا قد خلقوا لزمان غير زماننا، وتحدياتهم المستقبلية تختلف عن تحديات واقعنا. نتعبد ولكن لا علاقة لعباداتنا بسلوكنا وأخلاقياتنا مع الآخرين. فمن المفروض بأن العبادة تزيد الأيمان، وترفع الإنسان لدرجات الملائكة. مع الأسف، نربط مفهوم العبادة بالدكتاتورية لنفرض رأينا على الآخرين ونكفر من يخالف سلوكنا. فاختلطت لدينا قيم الدين مع ممارسة الشعائر الدينية. فنسيا بأن الشعائر وجدت لتسمو بنا وبأخلاقياتنا. واعتبرنا أنفسنا السلطة أللاهية على الأرض، لأنه حينما نمارس شعائرنا الدينية، نملك صك الغفران، فكل ما نقوله هو الصحيح، وما نفعله هو الصحيح، ومن يخالفنا فهو في ضلال مبين ومخالف للخالق جل شأنه. متمكنين في تكفير بعضنا البعض وتخوين بعضنا البعض. ولا نستطيع أن نحترم أفكار بعضنا البعض ونتحمل اختلاف بعضنا عن البعض. ألم يكرر علينا القران الكريم حب البشرية واحترام اختلافاتها، الم يخلقنا الخالق جل شأنه أمم وقبائل لنتعارف ونشارك معا في بناء قريتنا الأرضية الصغيرة. أليس ما يجري في منطقتنا من عنف وقتل ودمار وطائفية وشوفونية بعيد عن فلسفة وتعاليم الإسلام؟ يقول رسولنا الأعظم، quot;إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.quot;
لنتابع عزيزي القارئ مقابلة تلفزيونية لتلفزيون أبو ظبي، مع قيادة دينية معروفة بمملكة البحرين وهو سعادة عضو مجلس الشورى البحريني السيد ضياء الموسوي، في اليوم التاسع والعشرين من ديسمبر 2006. وقد ناقش مشكلة التعصب الديني ومحاربة الإبداع الفكري الحر فقال، quot;مشكلتنا في العالم العربي أننا نمتلك الكثير من المشانق الأيديولوجية ومفارز التخوين الاجتماعي، التي نحاول أن نشنق عليها كل يوم مثقفا أو مفكرا أو شاعرا. ونحن ضد الإبداع، مع الأسف الشديد، وضد التحضر، وضد أي لغة تبحث عن المساحات المشتركة في المجتمع....يجب أن نمتلك الجرأة لتفتيت مادة الكولسترول المتأدلجة والمتخلفة على مفاصل العقل والوعي العربي.quot;
وقد أكد في مقابلته على أهمية تقيم دروس تاريخنا وحقيقة وضعنا اليوم فقال، quot;لن نتطور حتى نعترف بالهزيمة الحضارية. كنا نمتلك حضارة في الأندلس...ولكن نحن في تراجع، نصدر العنف ونهدد الأمن القومي...نحتاج لإصلاح التفكير الديني... للأنصاف منابرنا بدأت تفخخ الناس. تفخخها عندما تقوم على صنع الكراهية... نحن احتكرنا الجنة، فكل واحد منا سجلها في التسجيل العقاري باسمه...وأحيانا بعض الحكومات...تدفع للتفخيخ.....وذلك لحسابات سياسية....ولكن من يدفع الثمن؟ الوطن والمجتمع المدني، والشباب الذي يصور له الجنة، وأن الحور العين تنتظره وتضرب ألأبواب.... ما عليه إلا أن يقتل نفسه....ليحصل على حور العين.quot;
كما ناقش ثقافة العنف والموت فقال، quot;هذه اللغة!! لغة الموت وثقافة الموت.... نحن لم نولد في هذه الحياة لنموت بهذه الطريقة. أن جمالية الإنسان أن يحي لأجل وطنه، لا أن يموت مفخخا للآخرين. عندنا رجال دين وعلماء دين صور مضيئة في العالم العربي...ولكن أعتقد أننا دائما نخيفهم...ودائما نتكلم عن النار ولا نتكلم عن الجنة...يا أخي القرءان متوازن، يتكلم عن نار جهنم كما يتكلم عن فواكه الجنة...نتكلم لهم في خطاباتنا عن أحوال يوم القيامة... عن ثعبان أقرع وشيطان أقرع سيأتي لهم في القبر...دائما رعب، دائما صورة مظلمة...لماذا يا أخي؟...المشكلة هناك قراءة معكوسة للتدين...حينما يتدين لا يبتسم لا يتكلم مع الآخرين...هذا كافر وهذا فاسق، يكره أن يلبس لباسا جميلا...، يخطف عقله نحو الزنزانات الإيديولوجية.quot;
وتحدث عن التغير في المزاج العربي وضرورة السياسة التواصلية واحترام أفكار وعقائد الآخرين فقال، quot;المزاج العربي يعاني من إشكالات كثيرة...نحن خربنا كثير من الأمور ومنها جمالية المزاج العام....غاندي اعتبره بطل... يا ليت نحصل على بعض جينات غاندي...ونزرعه في عقول شبابنا...حينما أنظر إلى صورة السيد المسيح يفتحني على مساحات من المحبة والسلام، وهو الذي يقول حبوا أعدائكم...غاندي أيضا شخص جميل جدا...ونستطيع أن نزرعه في عقول شبابنا...بعضنا يقول لعن الله اليهود والنصارى ...أحفاد القردة والخنازير...هل هذه لغة متقدمة؟ هل هذه لغة تنويرية؟ هل هذه لغة تواصلية؟...لو ولدت في روما ستكون مسيحيا...لو ولدت في طهران ستكون شيعيا...لو ولدت في السعودية ستكون سنيا...وما أجمل أن يلتقوا هؤلا جميعا على مائدة المحبة.quot; ثم عرج سعادته على مشكلة الأمية في الوطن العربي فقال، quot;الشعوب الأكثر تقدما هي الشعوب الأكثر قراءة...والأكثر كرامة...الشباب العربي يأخذ للمسلخ وهو يبتسم...لأنه غير واعي...هناك سبعين مليون أمي في الوطن العربي,...أي هناك سبعين مليون مفخخ.quot;
كلام جريء لقيادة دينية، يحتاج للتمعن والدراسة المتأنية، وبدون انفعال أو تشنج. فمن حقنا أن نبدي الرأي، فنتفق أو نختلف مع سعادته. وكما قالها فولتير من قبل، أختلف معك في الرأي ولكن مستعد لأن أضحي بحياتي لتبدي برأيك. وليست هذه الخلق جديدة على مجتمعنا، فقد وصف الخالق جل شأنه رسول الهدى بأنه لعلى خلق عظيم. وعظمة الخلق هي في احترام أراء الآخرين وإن كانت لديك حجة أقوى فأتي بها. وبتلك المبادئ نشر الرسول الأعظم الدين من الشرق إلى الغرب. فلم تتطور المجتمعات بالاتفاق المستمر على ما يكرر، بل العكس ازدهرت الحضارة الإسلامية حينما شاركت في تطور عملية التفكير والتطوير مع مختلف الديانات والجنسيات. وقد كتب الكاتب اليهودي يوري أفنيري يقول، quot;تمتع اليهود في عصر الحضارة الإسلامية بالأندلس بتميز منقطع النظير. وكان اليهود وزراء وشعراء وعلماء، وقد قاموا العلماء المسيحيين واليهود والمسلمين معا بترجمة كتب الإغريق العلمية والفلسفية....وكان حقا العهد الذهبي.....وحينما سيطر الملك فردناند على الأندلس عام 1492... وترك بعض اليهود الأندلس، استقبلوا، تقريبا، جميعهم من قبل أخوانهم المسلمين بالأحضان في دولهم الإسلامية.quot; فبهذه الخلق وأمتزاج الإبداعات الفكرية استطاع أجدادنا أن يبنوا حضارة امتدت من الشرق إلى الغرب وعلى مدى قرون طويلة. وتجد جمال صداها اليوم حينما تزور مدينة غرناطة بأسبانيا. ولنتذكر بأنه لم يتطور الفكر البشري على مدى العصور إلا بالاختلاف والحوار والبعد عن التعنت والتصلب. ولنتساءل عزيزي القارئ، هل فعلا هناك حاجة لتطوير الحوار الديني؟ وهل من الضروري أن يتعرف شبابنا على الثقافات الإنسانية المختلفة؟ وهل من الواجب احترام الاختلاف وتقبله وتحمله والاستفادة منه؟ وما دور التعليم في الوطن العربي في كل هذا؟

سفير مملكة البحرين باليابان