عرب اليوم، هم أحوج شعوب الأرض، إلى قادة نخبويين. فقد جرّبوا منذ استقلالهم، كل أنواع القادة الشعبويين، فلم يفلحوا. وما تقدّموا خطوة، إلا وتراجعوا بعدها خطوات. حتى ليبدو المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي العربي، قبل نصف قرن، أفضل بكثير مما هو عليه الآن، ونحن في مطالع الألفية الثالثة.
القادة الشعبويون ألحقوا بشعوبهم وبجماهيرهم، ما لا يقلّ عما ألحقه بهم الاستعمارُ وقوى الكولونيالية الغربية من أضرار. بحيث صار الناس يحنّون إلى زمن الاستعمار، مقارنة بما يكابدونه من تخلّف وجلافة وغلظة قادتهم أولئك.
اليوم، نحن بحاجة إلى قادة نخبويين، أكثر من أي وقت مضى. قادة لهم القدرة على النظر إلى أبعد مما ترى شعوبهم. فهذه الشعوب، وخاصة في العقود الأخيرة، فقدت البوصلة، واختُطفت من قبل المتأسلمين، الذين استولوا على وعيها، في جوامعهم ومؤسساتهم الكثيرة.
أتذكّر بهذا الصدد، الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة. فهذا رئيس عربي يمكن أن يكون قدوة ونموذجاً لما نتمناه لشعوبنا العربية في هذه اللحظة المعتمة من تاريخنا. بورقيبة صاحب مدونة المرأة، التي لا مثيل لها في عالمنا العربي. وبورقيبة صاحب البعد التاريخي في نظرته السياسية. لقد أشار على قادة الشعب الفلسطيني بقبول قرار التقسيم، فخوّنَ وشُتمَ، ثم أثبت الزمن، بعد كم هائل من التضحيات، صدْق رأيه. بورقيبة الزعيم التقدمي بل الأكثر تقدمية وحداثة من كل الزعماء العرب quot; التقدميين quot; في مشارق البلاد ومغاربها، فهو صاحب الفضل في مدونة المرأة، التي أعطت المرأة التونسية من الحقوق والاحترام والأمان الاجتماعي، ما لم يعرفه ولن يعرفه تاريخ العالميْن العربي والإسلامي.
هذا هو النوع الذي نحتاجه من القادة. نبني على ما جاء به، ونطوّره بما يناسب عصرنا ومستجدات عصرنا.
أقول هذا الكلام، وأنا أخشى مِن القادم. فالقادم مرعب ومغلق، وهوله أشد مِن هول التجارب الماضية. فاليوم، تنتاب الشعوب العربية، الرغبة الحارقة في أن يحكمهم إسلاميون، بعد فشل الحكم الوطني السابق والحالي. أي أنهم بدل أن يبحثوا عن بدائل أفضل، كشأن البشر الطبيعيين، ها هم يهربون من الرمضاء إلى النار. ويتحركون ضد مصالحهم، وضد مستقبل أبنائهم.
فالإسلاميون أصحاب شعار [الإسلام هو الحلّ]، هم في الحقيقة جزء كبير من المشكلة. تماماً مثل الأنظمة التي يريدون استبدالها. ولو حكموا، فلن يجبروا كسراً ولن يقيلوا عثرة. ولنا في الدول التي حكموها، العبرة : من أفغانستان إلى إيران إلى السودان إلى سلطة حماس في الأراضي الفلسطينية، مع اختلاف ظروف كل بلد على حدة.
إننا بحاجة إلى قادة يبنون دولاً مدنية، لا إمبراطوريات وهمية. فاليوم، تعاني فكرة الدولة المدنية من مرض عضال، اسمه الإسلام السياسي. فهذا النوع من الإسلام الراديكالي المعولم، لا يؤمن في أدبياته بالدولة الوطنية المدنية. وهنا مربط الفرس : إذ كيف يمكن الوصول معهم إلى حلول، وهم ينسفون فكرة الدولة من جذورها باعتبارها مِن مستوردات الغرب، فيما هم يطمحون إلى تحقيق حلم الإمبراطورية والخلافة، بوصفهما إرثنا الأصيل الصافي ؟
إنهم، بجملة : مغتربون عن عصرنا، ويعيشون في كهف أفلاطون. فكيف لنا مع أمثال هؤلاء، أن نطمح إلى تغيير وتنمية ؟ وإلى إنهاء مشاكلنا المستعصية مثل الفقر والبطالة ؟
لقد جرّبنا حكم الدهماء من قبل، ودفعنا الثمن كاملاً. وليس من المعقول، تجريب الإسلاميين اليوم، لندفع الثمن مرتيْن.
إنّ شعوبنا المتخلفة، بحاجة إلى مَن يأخذ بيدها، ليُخرجها من وهدة التخلف السحيقة. ويجعلها تستنشق هواء العصر، وتعرف كيف تتعامل مع ناسه ومستجداته. لا أن تعطي قيادها لأناس موهومين، لن يفعلوا شيئاً، لو حكموا، سوى إرجاعنا للوراء.
ولعلنا لن نقدر على القيام بهذه المهمة التاريخية ذاتياً، دون مد يد العون لنا من قبل العالم المتقدم، وتحديداً أوروبا وأمريكا.
فهذا العالم لديه من الخبرة التاريخية، ما يكفي لكي يضعنا في أول الطريق الصحيح : طريق التنمية والديموقراطية وعقلنة المجتمع، بعيداً عن أنساق الوعي الأسطوري، ومزج الدنيا بالدين، لنخسر الاثنين معاً.
أما الانتظار، حتى تنضج الظروف الداخلية لشعوبنا، وتعرف هذه الشعوب الصح من الخطأ، فتستطيع التمييز والاختيار، دون أن تُخدع، فمسألة قد تطول وتطول. ولذا أراها غير مجدية بالمرة. ففي خضم هذا الانتظار الطويل، سنخسر الكثير من الأشياء الثمينة، التي نحن في أمس الحاجة لها. وسنفتح الأفق على رحبه، لكل الخزعبلات والأمراض، التي ما فتئ المتأسلمون يتحفوننا بها. وحينها لن يكون من السهل، العودة عن هذا الطريق : طريق المتأسلمين.
إنّ الانتظار لا يعني سوى مراكمة ومفاقمة الأخطاء والخطايا. وهو في حالتنا العربية، لا يعني سوى المزيد من ضياع الدولة الوطنية، التي تعاني الآن وفي المستقبل القريب، من خطر زوالها الجدّي، لصالح نقيضتها : الدولة الدينية الشمولية، بما تحمله هذه من كوارث على البشر والحجر والمستقبل.
لكل ذلك، نحن لا نملك ترف الانتظار. ولا بد من وجود قادة تاريخيين علمانيين، يرون أبعد مما ترى شعوبهم. فهذه هي مهمة القادة النخبويين في العالم.
قادة يدشنون الدولة الوطنية المدنية بمجتمعها المدني الدنيوي، وبما يلزمها من مقومات البقاء والعطاء، والتقدم والاستمرار والانفتاح، أسوة بمثيلاتها في العالم. وهو تحد كبير يقع اليوم على عاتق الطبقة السياسية العربية، وعلى شرائح المثقفين في المجتمع.
تحد هو أقرب ما يكون إلى معادلة شكسبير الشهيرة : إما أن نكون أو لا نكون. فهو، هذا التحدي، هو حقاً مسألة حياة أو موت. إما أن يأخذ الفاسدون الحاليّون والمتأسلمون القادمون شعوبنا إلى الموت التاريخي، أو أن نلحقهم، فننجو معهم وبهم من هذا المصير الأسود. ليكون لنا ولهم مكان تحت الشمس.
فلا مكان تحت الشمس للدولة الوطنية الأمنية. ولا مكان تحت الشمس لدولة الجهاد المقدس والتحشيد الغوغائي الفاشي. الأولى جرّبناها منذ ستين عاماً وخسرنا، والثانية جرّبنا بعضها منذ سنوات وخسرنا أيضاً. فهل نحن بحاجة للمزيد من نماذجها ؟ ثم متى فلحتْ دولة دينية في التاريخ ؟ وحتى إن فلحت في التاريخ القديم، فهي بحكم المستحيل أن تفلح الآن، بعد كل ما جرى من مياه في النهر. فلسنا وحدنا في هذا العالم، ولن يسمح لنا العالم، ومعه كل الحق، في إقامة دولة دينية. بل سيحاصرها، ويجوّعها، لتنهار بفعل العامل الداخلي أو الخارجي، أو العامليْن معاً.
لذا، دعونا من تجريب المُجرّب في الحالتيْن : حالة الدولة الوطنية الأمنية، وحالة الدولة الدينية، ولنبحث عن طريق ثالث هو طريق الدولة الوطنية المدنية : طريق العقلانية الليبرالية والقانون الوضعي وإطلاق الحريات، بالتوازي مع برامج التنمية والإصلاح وفتح الآفاق أمام الشباب.
وكل هذا يحتاج إلى قادة نخبويين مثقفين، يعون وظيفتهم ودروهم التاريخي بأتمّ معاني الكلمة، لا قادة من نمط صدام حسين وحافظ الأسد أو سواهم من الإسلاميين والمتأسلمين.