ليو ستراوس Leo Strauss مفكر وفيلسوف من أصول ألمانية، ولد عام 1899، وتوفي الولايات المتحدة عام 1973، هاجر من بلاده عام 1938 في أعقاب تنامي السلطة النازية، على حساب جمهورية فيمار، تلك التجربة التي شكلت منهاج حياته ، حيث توقف عند الفكرة التي تؤكد على أن النازية ما قيض لها أن تحظى بالمكانة التي تحصلت عليها، لولا الوهن والضعف الموجود في بنية النظام الديمقراطي، وقد تمكن من الوصول إلى المملكة المتحدة ، لينتقل بعدها إلى الولايات المتحدة، حيث عمل في مدرسة البحث الاجتماعي في نيويورك، انتقل للعمل في جامعة شيكاغو، والتي منها انطلق وذاع صيته وكثر أتباعه و تلامذته.
دفاعا عن القيم التقليدية
في ضوء الزحف العارم لقيم الحداثة، وجد ستراوس أهمية النظر في التحولات الاجتماعية التي راحت تفسح المجال أمام الأفكار والعادات الجديدة، لا سيما في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث دعا إلى أهمية العودة إلى التقاليد المحافظة ، القائمة على التماسك الأسري، بوصفها الراعية والمحافظة على روح الشعب، من التفكك والتدهور. ولقد راح يؤكد على أهمية القيم في حماية بنية المجتمع، فالقيم ثابتة غير قابلة للعبث بها، ومن هذا فأنه لم يتردد من تأييده لإدانة سقراط، بوصفه جاء بفكر يدعو إلى مناهضة الأفكار التقليدية والمحافظة الساعية إلى توحيد المجتمع.
الأصول المعرفية
بدأت موجهات ستراوس في التبلور في أعقاب عمله في جامعة شيكاغو، حيث راح يشهد حالة تراجع الدرس الفلسفي، مقابل الصعود للعلم السياسي القائم على منهج التجربة والتحليل. مما حدا به أن يعلن إلى أن العلوم السياسية وعلى الرغم من نجاحها في تمييز المزيد من الحالات وقدرتها على حل الكثير من الإشكالات ، إلا أنها تبقى عاجزة بالمقارنة مع الفلسفة عن التعرض للإشكالات الكبرى التي تواجه البشرية. ومن هذا راح يؤكد على أهمية العودة إلى النصوص القديمة، بوصفها ذات قيمة فلسفية كبرى ، والسعي إلى قراءتها بإمعان ودقة ، من دون الوقوع تحت هيمنة التصورات القبلية.وكان تأكيده إلى أن أهمية تلك النصوص تأتي من كونها قد كتبت من قبل عصارة العقل البشري، الذي مثله فلاسفة من نوع؛ أفلاطون، كزينوفون، أرسطو، شيشرون، الفارابي، ابن ميمون، ماكيافيلي، هوبز، سبينونوزا ،لوك، معتبرا نصوصهم في منتهى القوة والأصالة ، باعتبار أن كتابتها قد تمت في عصر كان يغلب عليه هيمنة الحكام، مما جعلهم يكتبون بأسلوب الإخفاء، ومحاولة تعمية المعنى ، في سبيل الخلاص من رقابة الحكام.
لم يغب عن ستراوس التنبه إلى أهمية دور الفلسفة العربية ، في إسباغ فكر التسامح على الدرس الفلسفي، ومن هذا فإن إعجابه الشديد راح يتبدى بالجهد العقلي الذي قدمه الفارابي وابن رشد، فيما اعتنى وبشكل خاص بالفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون الأندلسي القرطبي 1204، الذي استند في درسه الفلسفي على مقولات أرسطو والفلاسفة العرب من أمثال ؛ ابن باجة وابن رشد والفارابي، تأكيده إلى الطريقة المثلى لفهم نصوص أرسطو لا يمكن أن تتم ، إلا عن طريق قراءة شروحات؛ الاسكندر وثامسطيس وابن رشد. والواقع أن ستراوس وبقراءته العميقة لأثر الفلاسفة العرب، كان قد توقف مليا عند فكرة التسامح التي ميزت جهدهم، لا سيما في بلاد الأندلس.فيما تبرز أهمية فكرة المدينة الفاضلة بوصفها النموذج الساعي إلى المزج بين الفلسفة والسياسة.
الخوف من الليبرالية
يبرز التأثير العميق لأفكار الفيلسوف الألماني كارل شميت، على ستراوس، وهذا بحكم فترة التتلمذ على يديه خلال فترة النشأة في ألمانيا، وقد نهل عنه على الصعيد المنهجي، التوقف عند عزل وفصل الظاهرة، باعتبار أن لكل ظاهرة اجتماعية خصائصها وسماتها التي تميزها عن الأخرى، ولكل ظاهرة معيارها الخاص بها، فالاقتصاد معياره الربح، والأخلاق معيارها الخير، أما السياسة فمعيارها تمييز العدو واكتشافه.
السياسة لدى ستراوس تقوم على التمييز بين العدو والصديق، إنها الفكرة التي تستند إلى الصراعية الكثيفة والتي لا يغيب عنها تحدي الحرب. ومن فكرة الحرب القائمة فإن النقد يأتي باتجاه الليبرالية بوصفها تركز على الحرية الفردية، ليغيب عنها الحسم ومركزية القرار، والمسعى إلى السلام دائما، مما يجعلها في تنازل دائم عن الثوابت. ومن هذا يكون التلازم مع فكرة السيادة، تلك التي تلعب الدور الأكبر في حياة الشعوب، حيث الحاجة الدائمة إلى القائد السياسي، والذي يتمثل دوره في مواجهة المخاطر التي تواجه الأمة. ومن هنا تتبدى أهمية الشخصية الملهمة، القادرة على حفظ توجيه المجتمع في اللحظات الحرجة. إنه الكفاح الذي يميز السياسة في بحثها عن الوجود، حيث التطابق الستراوسي مع أفكار شميت ومارتن هيدغر.
اللعب في حقل الاختلافات
إذا كان كارل شميت قد عبر عن نزعته النازية ، من خلال الإشارة الصريحة إلى مسألة النقاء العرقي، وأن بلوغ وحدة الأمة لن تتم إلا عن طريق الكفاح، فإن ليو ستراوس لم يتردد عن النهل عن أستاذه للتوكيد على أهمية الإفادة من حقل الاختلافات الدينية، والتي اعتبرها بيئة ومرتعا للتناقضات السياسية، والتي لا يمكن التغاضي عنها. فالخطر يبقى ماثلا في الآخر المختلف، والذي لا يمكن التحسب بلحظة تهديده.
العودة إلى المنطق
تقوم دعوة ستراوس إلى أهمية العودة إلى المنطق، في الوقت الذي جاءت فيه الحداثة لتحتل كل شيء. رفضهم للحداثة لا يقوم على تعزيز للتقليد ، أو الأصولية الدينية، بقدر ما يقوم على أهمية العودة إلى العقل الفلسفي في صفائه الأول، بعد أن جاءت التيارات المتناقضة تحت لافتة الحداثة لتحدث المزيد من التداخل والفوضى. تلك الفوضى التي تم إحداثها بعد أن صار الابتعاد عن الفلسفة السياسية التي قدمها المفكرون الأفذاذ، وفي زمن كان يعز عليهم حرية التعبير، ومن هذا فإن أفكارهم جاءت بطريقة تقوم على الخفاء، فيما جاءت الحداثة لتفسح المجال أمام العامة للإطلاع على الفكر النخبوي. من واقع الوعي بأهمية دور الفيلسوف في قيادة المجتمع، فإن الستراوسية قامت على الادعاء بحق تفسير النصوص الفلسفية، وبالتالي فإنها الأحق بالسلطة، باعتبار سعيهم نحو تطبيق المجتمع العادل والآمن.
كل شيء من أجل السلطة
الفوارق الفردية قائمة بين البشر، بين أناس جبلوا على القيادة ، و آخرون لا يملكون سوى الإذعان والطاعة، وبرأي ستراوس فإن لعبة القيادة لا تقوم على قواعد أخلاقية، بقدر ما تقوم على نظرية الانتقاء الطبيعي، حيث البقاء للأصلح، ومنة هذا فإن الطريق إلى حكم الرعية لا يمكن له أن يدون إلا عن طريق الخداع ، ولكنه الخداع النبيل القائم على تقديم جرعات من الحقيقة بما يناسب مزاج العامة، فيما تبقى الحقيقة رهنا بالنخبة الحاكمة، باعتبار مسؤوليتها المباشرة عن الجموع.
البحث عن الوحدة الاجتماعية كانت بمثابة الهدف والغاية الأسمى التي عنت على ستراوس، ومن هذا فإنه يتوقف مليا عند العامل الديني ، والذي يجد فيه الطريقة المثلى للإبقاء على الوحدة الجماعية، فإعداد الجموع عن طريق العقيدة يكون بمثابة المكافأة الدائمة، فتحت الوازع الأخلاقي والعقيدي، لا يتردد المرء من التطوع في سبيل الواجب، لكن الالتزام الديني يبقى رهنا بالعامة ، وليس مشروطا على الحكام، الذي يواجهون مسؤوليات أكبر وأشد خطورة، إنها الانتقائية التي تقف من العلمانية بوصفها الوسيلة الرديئة، التي تم من خلالها الإطاحة بالوسيلة الأهم للسيطرة على الجموع.فالعلمانية تؤدي إلى تعميق الفردية وتنمي الاتجاه الليبرالي، مما يتيح المجال واسعا أمام النقد والمعارضة، ومن هذا فإن النظام السياسي سيتعرض إلى فقدان المركزية وبالتالي ضعف قدرته على مواجهة الأخطار.
في سبيل المزيد من الوطنية!!
الإنسان كائن خطر، حيث روح العدائية المتأصلة فيه، والوسيلة القادرة على ضبطه لن تتم إلا عن طريق منظومة الدولة القوية المستندة إلى الانتماء إلى الوطن، إنه السعي إلى الوحدة تلك التي تحدث عنها توماس هوبس، واستقاها ستراوس ليعمق دور الاتحاد بوجه الآخر الذي يكمن فيه الخطر.وإذا ما تحقق الانتصار على العدو ، فإن الحكمة تقتضي البحث عن عدو جديد من أجل إدامة زخم الاتحاد عبر إلهاب المشاعر الوطنية.
النص وتحليل الخطاب
في العام 1952 تم نشر Persecution and the Art of Writing ، الاضطهاد وفن الكتابة، و هو الكتاب الذي أشار فيه إلى أن الكتاب في عصور الاضطهاد كانوا ينزعون نحو إخفاء المعاني، ومن هذا فإن التحليل المعرفي الدقيق يستدعي المقابلة بين القديم والحديث، والفلسفي والديني، والقراءة العميقة للنص تستدعي القراءة الباطنية ، أي البحث عما أراد أن يقوله المؤلف، وليس قراءة ظاهر النص، حيث العناية بالبنية والأسلوب والبحث في المعاني.
ركز ستراوس نقده للفكر الليبرالي وهجومه على الديمقراطية، التي كان يرى نقطة الضعف فيها مساواتها بين البشر، و ما ينجم عنه من ثقافة شعبية ورؤى مبسطة وسطحية، فيما كانت دعوته إلى أهمية إصلاح النظام البرلماني، من خلال الاعتماد على النخبة الارستقراطية المدافعة عن القيم والثقافة النبيلة والراقية.
المحافظون الجدد
من واقع الدرس العميق الذي اختطه ستراوس، فقد لاقت دراساته صدى واسعا لدى نخبة من طلبة الجامعات الأمريكية ، الذين وجدوا في دعوته صدى في نفوسهم.حتى راحت هذه النخبة تشكل بداية تيار من أجل مواجهة تيارات الحداثة التي راحت تبرز في الحياة الغربية ، إن كان على صعيد ثورة الطلبة عام 1968 في أوربا أو تيار الحقوق المدنية الذي برز في الولايات المتحدة، وقد تركزت موجهات أتباع ستراوس نحو أهمية السعي نحو العناية بالنصوص المهمة العميقة، والنأي عن القراءات الجاهزة، ومن هذا فإن الدراسات التي راحت تمثل المهاد للفكر الستراوسي، كانت قد تركزت في الجامعات ذات السمعة العريضة والعريقة، من أمثال جامعات، هارفارد ، شيكاغو ، تورنتو في كندا. ومن واقع المواجهة بين التيارات الفكرية فإن الستراوسيين لم يترددوا من الدخول في مواجهات مباشرة مع التيارات المقابلة. والواقع أن الأبرز من أتباع هذا التيار كانوا من الفئات الاجتماعية المتواضعة، وقد تطلع البعض منهم لجعل العلم أداة للصعود في المجال الاجتماعي، ومحاولة الحصول على المناصب الإدارية والسياسية العليا.
لابد هنا من التوقف على أهمية التمييز بين ما يطرحه المنخرطون في التيار من أفكار، والأفكار الأصيلة التي نادى بها ستراوس. والواقع أن الأصل الستراوسي إنما يقوم على جعل العلم وسيلة لمكافحة الطغيان والاستبداد السياسي، فيما تتمثل موجهات المحافظين الجدد، برؤى وتصورات باتت تأخذ منحى يختلف وبوضوح شديد عن رؤى وتصورات الأستاذ.حيث تم توظيف الأفكار المحافظة نحو خدمة أغراض السلطة المباشرة ، فعلى سبيل المثال تم الإفادة من فكرة الحقوق الطبيعية في التأكيد على أن أحوال الولايات المتحدة في الفترة السابقة لتيار الحقوق المدنية ، كان الأوثق والأفضل ، باعتبار الدور الواسع الذي كانت تلعبه الأسرة في المحافظة على القيم الأمريكية، وتبرز فكرة المستبد العادل ، والتي أريد لها أن تمنح الصلاحيات الاستثنائية للقائد الساعي لوحدة الولايات المتحدة في مواجهة الأزمات، حتى وإن تعارض هذا مع الدستور والقيم الديمقراطية. فيما تتبدى العلاقة بين العلم والسلطة، في طريقة قوامها المستندة إلى تعزيز دور الرقابة على المنجز العلمي، إن كان على صعيد مراقبة ذوي التيارات المناوئة، أو التغاضي عن الأفكار المطروحة من قبل التيارات الأخرى بوصفها غير جديرة بالإطلاع. أما العناية الأهم فهي تبرز في تقديم النموذج الإسرائيلي بوصفه طموحا، ينبغي النهل عنه، لا سيما على صعيد تطبيق الديمقراطية عبر ربطها بوسائل القوة القادرة على حماية مكتسبات الديمقراطية ومعالجة الخلل الكامن في ممارساتها.