تثير إشكالية quot; الدولة quot; في الذهن أولاً فكرة السلطة، ونعني بها السلطة الفعلية والمحمية والمنظمة. وهي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي، تكفل الأمن لنفسها والرعاية لمواطنيها ضد الأخطار الخارجية والداخلية، وتحقيقًا لهذا الغرض فإنها تملك القوة المسلحة والكثير من وسائل الإكراه والقمع، أو بالأحري quot; العنف quot; المشروع.
ووفقًا لذلك فإن الدولة تتألف من عنصرين رئيسيين هما:

[1] المجتمع -Societas- أو ما كان يسمى عادة laquo;المجتمع المدنيraquo; -Societas Civilis-، وهذا المجتمع يوجه إلى تحقيق الغايات التي من أجلها يضطر الناس إلى أن يعيشوا laquo;مجتمعينraquo; أي laquo;معًاraquo;.
[2] والسلطة العليا ذات السيادة التي تحكم هذا المجتمع، وتسمى laquo;الجلالةraquo; -Majestas-، laquo;والسلطة العلياraquo; -Summa Potestas-، وlaquo;السيادةraquo; -Supremetas- (Sovereignty).

ومنذ laquo;جان بودانraquo; و laquo;جرويتوسraquo; -Grutius- (1583 - 1645) جرى مداد كثير حول تعريف معنى laquo;السيادةraquo;، والكلمة (Sovereignty) اشتقاقًا جاءت من (Super + regnum) أي laquo;الحكم الأعلىraquo; أو الذي laquo;لا يعلى عليهraquo;، وبالتدريج أضيف إلى هذا المعنى معنى laquo;المطلقraquo; وlaquo;الأوحدraquo; في تعريف السيادة في الدولة الحديثة. وهكذا ارتبطت الدولة الحديثة بمفهوم السيادة أو قل إن مولد الدولة الحديثة ليس سوى: نشوء مفهوم السيادة وقبوله النهائي.
على أن تفهم laquo;السيادةraquo; هنا بالمعنى الزمني لا الروحي، فالتحول التاريخي الذي صاحب ظهور الدولة في شكلها الحديث تمثل أساسًا في تغير مفهوم laquo;مصدر السيادةraquo;، من الله إلى الإنسان في صورته الفردية أو في صورته الجماعية أو في صورته الأكثر تجريدًا وهي laquo;الإنسانيةraquo;. وهذه السيادة تتأكد في الميدانين الداخلي والخارجي معًا وفي وقت واحد.
وحسب laquo;توماس هوبزraquo; -Hobbes- (1588 - 1679) laquo;فإن أساس سيادة الدولة يكمن أولاً في قدرتها على ضمان السلم المدني بين المقيمين تحت سلطتها وحمايتهم من أي معتد خارجي.raquo; أما عالم الاجتماع الألماني laquo;ماكس فيبرraquo; -Weber- (1866 - 1945) فقد رأى أن للدولة الحديثة احتكار العنف والقسر المادي المشروع، فهي وحدها التي تحتفظ بحق القيام بأعمال الشرطة في الداخل والحرب في الخارج.

لكن يبدو أن هناك نوعا آخر من quot; العنف quot; تمارسه الدولة ضد مواطنيها عن طريق البيروقراطية والروتين والتباطؤ في التقاضي وتنفيذ الأحكام وتسويف الحقائق، وهو ما يعرف في أدبيات علم الإجتماع ب quot; عنف لا أحد quot;. وحسب حنة أرندت في كتابها quot; في العنف quot; فإن أرقي شكل من أشكال العنف غير المنظور يتمثل في الممارسة البيروقراطية التي تقنن القهر والإكراه من قبل مؤسسات الدولة اليوم، دون أن تترك هذه الممارسة المنظمة والمقننة والمشروعة أي مجال للمسائلة أو للمجابهة. حيث أصبح من الممكن الترويج للعنف وممارسته تحت أسماء مختلفة وبأساليب ناعمة ورقيقة لا تترك أثرا للدماء.

ويبدو ان غياب التشريع الموحد لدور العبادة في مصر ينتمي إلي هذا النوع من العنف quot; عنف لا أحد quot;. كما ان تأخر صدور هذا القانون وطيه داخل الأدراج، هو الذي أوحي وأوعز للمهوسيين دينيا بأخذ القانون بيدهم وتنفيذه بالقوة ضد شركائهم في الوطن، والمختلفين دينيا وعقائديا معهم، طالما وان دور العبادة جميعا لا تخضع لنفس القواعد المتساوية في البناء والترميم، وتفرق بين المسجد والكنيسة والمعبد، ولا تعترف بفكرة المواطنة الكاملة.

ولهذا السبب فإن الفاعل دوما في معظم الأحداث الطائفية عبر 35 عاما، من الخانكة لبمها، إما مجهول أو مجنون وما بينهما. كما أن الأحكام التي صدرت بحق هؤلاء المهوسيين لم تكن رادعة أو لم تنقذ أصلا. صحيح ان الآثار التخريبية والمدمرة للفتن الطائفية كانت ومازالت واضحة لكل ذي عينين، كما أن الشرخ النفسي الذي أحدثته داخل النسيج الوطني الواحد، وطال حتي العقلاء والمعتدلين في هذه الأمة، لم يعد خافيا علي احد، وهو ما أدي إلي اهتزاز هيبة الدولة، واتهامها بالتحيز والتعصب.

وكشفت موجة القبلات الزائفة المتلفزة بين رجال الدين المسيحي والإسلامي، بمباركة رجال الدولة في أعلي مستوياتها، وعلي موائد الوحدة الوطنية التي انتشرت اخيرا، عمق الأزمة وشدتها أكثر من قرب انفراجها، فإذا كان الجميع يعترف بوجود العنف، فإن هذا العنف يجب أن ينتهي إلي quot; عنف لا أحد quot;. ولأنه quot; عنف لا أحد quot; أي مجهول المصدر، ولا يمكن القصاص من فاعله، فدعونا نتصافح ونتسامح، ومع كل مرة جديدة يتكرر العنف، تتكرر المصافحة والقبلات ، طالما ظل quot; عنف لا أحد quot;.

لكن... قبل أيام أعلن الدكتور أحمد كمال أبوالمجد نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، أن المجلس أعد مشروع قانون موحد لبناء جميع دور العبادة للمسلمين والأقباط واليهود علي السواءrlm;،rlm; يحقق توازنا كاملا في إجراءات الترخيص لبناء دور العبادة للديانات الثلاث، لانهاء المشكلات التي كانت تثار بسببها،rlm; خاصة داخل القريrlm;.

ورغم ان صدور هذا القانون جاء متأخرا، خاصة ان مجلس الشعب شكل عامrlm;1972rlm; لجنة لتقصي الحقائق بعد أحداث حرق كنيسة بالخانكة وتولي رئاستها المرحوم الدكتور جمال العطيفي،rlm; ووضعت تقريرا متميزا يطالب بسرعة صدور قانون جديد يحكم عملية البناء والترميم لدور العبادة ويقلل من حدة الاحتقان الطائفي بسببها،rlm;
فإن صدور هذا القانون يمثل خطوة جيدة تحسب للنظام السياسي الذي بدأ في التعامل مع هذا الملف بجدية rlm;، لإنهاء حالة quot; عنف لا أحد quot;، وهو بذلك يعيد للدولة هيبتها وسيادتها، laquo;فالدولةraquo; هي laquo;الحكم الأعلىraquo; في الصراع الدائم بين جميع القوى الاجتماعية، ولا يخضع سلطانها من الوجهة المادية أو الأدبية لأي سلطة أخرى سواء تعلق الأمر بتنظيمات نقابية أو لطوائف دينية أو بجماعات مهنية أو سياسية.


أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس
[email protected]