1

التويجري الكبير مغادراً .. ورحل حبر المملكة ونهرها
يأتيني الهاتف من باريس حاملا صوت سيدنا الكبير عثمان العمير ملقياً على أذني نبأ رحيل الشيخ عبد العزيز التويجري، فأشعر فجأة أن روما فتاة كسيحة ألقى بها الزمن على قارعته، وأن القناديل التي تملأ أزقتها وشوارعها، أصيبت فجأة بالوهن الطارئ، وأن فكرة هذا الموت اللصيق بنا كالأضلاع، عادت إلى الذهن مثل نار سكبت على جرح مقيم مستقر.
وأغوص في بحر البحر من الذاكرة لتهبط على تفاصيل آخر لقاء لي مع الراحل الكبير في بيته، قبلة المثقفين، وسط العاصمة الرياض، التي جاءها وحيداً قبل أكثر من ثمانين عاماً، وهو شاب في السابعة عشر من العمر، حتى وصل بسرعة الدهشة إلى قلب القلب في مركز صنع القرار السعودي، ويتحول إلى واحدٍ من أبرز السياسيين والمفكرين المخضرمين في بلاده.
أتذكر كيف كان الباسق الكبير الذي تتكئ عليه عكازه، يصارع أمواج منتصف التسعينات من العمر عددا، فيصرعها واحدة تلو الأخرى، وهو لا يزال يحتفظ بذاكرته الحديدية، ولمعته المتوقدة، وأفكاره الفردوسية، مع وهن قليل في الصوت لا يشعر به مستمع إلى متحدث ساحر العذوبة مثل الشيخ عبد العزيز التويجري.

2
إيه أبا عبد المحسن ..
ظللت تطارد شاعرك الكبير، المتنبي، سنوات تجر في أردانها سنوات، حتى بُعثت إليه مقبلاً غير مدبر، حاملاً أوراقك، وكتبك، وأقلامك، لتقرأ بصوتك المدهش ملخص كتاب الغيم، وجغرافية الفردوس، وتكتب عن ذكريات الصاعدين خفافاً على سلم الله، نحو نهاية النهاية من الدنيا المتحركة كمركب شراعي.
علمتني كيف تكون الكتابة المنحوتة من ذهبيات أدب العرب، بعد أن تحول العرب إلى ضمير منفصل عن التاريخ، والحضارة، والجغرافيا.
جعلتني أأومن أن هذه الأمة الممتدة من المحيط إلى الخليج يمكن أن تستيقظ في يوم ما، مهما طال أمد الأمد من النعاس، أو امتد وقت الغوص حتى الركب في محيط الجهل والظلام.
لقد سكبت يا شيخي الكثير من المياه المعدنية على شجرة الأمل الذاوية في أحد أركان قلبي، وجعلتها فجأة تتحول إلى حقل زهور فاقعة الألوان، في تحد صارخ لقوانين الطبيعة والجاذبية.

3
لِمَ نحن حزانى؟ .. أتراك تقولها وأنت تطل علينا من فسحة الغيب أبا عبد المحسن، ونحن نتعثر واحداً بعد الآخر في طريق الدمع، فنسقط مثل قطرة بلا ماء، أو مثل ساقية عذبة تعزف بلا جدول.
إن سألتني عن حرقتي؟ .. فسأقرأ لك من محكم حزني آية الفقد والغربة، كوني أكتب عنك من أتعس أركان روما الرومانية، بعد أن ألقت بي رياح قدر طارئ، دون أن أكون هناك في بلادي، أنظر إلى جثمانك النظرة الأخيرة، وأنت تسير نحو مقبرة العود حيث ووري جسد ملكك عبد العزيز آل سعود، الذي طالما أحببته حتى ثملت به، وكنت وفياً لذكراه حتى أبد الأبد .. الأبد.
إن سألتني عن حرقتي؟ .. فسأقرأ لك من صحيح مسند وجعي، حديث الفجيعة، كوني بعيد لا أستطيع أن أقدم التعازي إلي ملكك الذي رافقته طوال عقود دون أن تتعب، رغم رياح السنين، وإلى أحبائك الذين تنفسوا هوائك وحبرك، وأبنائك واحداً إثر الآخر .. أولهم عمود خيمتك وأبنك البكر عبد المحسن الذي ورث منك إخلاصه لملكه حتى أصبح وحياً يوحي ويُوحى إليه في بلاط الملك.
وأبنك اللامع الذي يرأس ديوان ملكه خالد التويجري الذي نفخت فيه من روحك فتحول إلى معجزة التحول الشابة، التي تلتقط إشارات الملك الفارس فتتحول معها إلى أيقونة إصلاح وتحديث، دون أن يخلع قفازاته الثقافية التي استقاها منك فتحول إلى شاعر مثقف سياسي، والأهم من هذا وذاك مسئول بارع في قراءة القلوب والعقول.
وأخيراً وليس آخراً أبنك عبد السلام الذي ألتصق بك أيامه الأخيرة متنقلاً في إثرك من بلد إلى بلد، يجلس معك ويتأملك، وينظر إليك، دون أن ننسى البقية الباقية من شجرة العائلة اليانعة، وزهور الزهور من أحفادك الجدد.

4
الوداع الوداع يا نخلة الأرض الطيبة:
لك حزننا الباسق مثل جرح طويل القامة،
لك طاحونة الألم الأبدية،
ودموعنا التي لا يمكن أن تتوقف عن الهطول مطراً، وحباً، وسلسبيلاً من الذكريات.