أستاذنا الكريم الدكتور خالص جلبي
سلام الله عليكم
في مصر الآن بلبلة بسبب فتوي من أستاذ في جامعة الأزهر بجواز ارضاع الموظفة لزميلها في العمل حتي لا يكون هناك حرج في كشف شعرها عليه أو اختلائها به اذا دعت الحاجة الي ذلك وبلبلة بسبب ما ذكره مفتي مصر الشيخ علي جمعة في كتاب ألفه مؤخرا بخصوص التبرك بشرب بول النبي (ص) - المشكلة يا أستاذي الكريم أن هذه الأقوال تستند الى أحاديث نبوية صحيحة فما العمل؟ هناك أشياء كثيرة من هذا القبيل كانت مقبولة ولاغبار عليها قديما ولكنها الآن لم تعد مقبولة اطلاقا ولا معقولة فهل نحن بحاجة الي نبي جديد يوضح لنا حكم الدين في الأمور التي استجدت علينا أو التي كانت مقبولة قديما ولم تعد مقبولة في عصرنا؟ أم أننا في حاجة الي تغيير طريقة تفكيرنا في المسلمات الدينيةواعطاء الحرية الكاملة للعقل للتفكير في حلول للمشاكل التي تواجهنا ورفض كل ما لا يتناسب مع عصرنا حتي لو كان مقبولافي زمن النبوة؟
وآسف لازعاجك بأسئلتي الشائكة مع جزيل شكري وحترامي
قارئكم
سهيل رمضان أبو العز
مصريمقيم بالمدينة المنورة

***

ما نحتاجه أخي الفاضل عقل جديد وليس نبي جديد فقد أقفل باب السماء وفتح باب العقل في الآفاق والأنفس أفلا تعقلون وإليك ما كتبت عن الموضوع؟ مع كل الحب والاحترام
خالص جلبي

في مونتريال الكندية حيث ينفجر الربيع فجأة، خلال أيام في خضرة ساطعة تحتل الشبكية بإصرار، قال لي صديقي (أحمد صالح) ونحن نمشي في شارع (شيريبروك) المشهور، هل سمعت بخبر العربية؟ قلت له: لا!! هز رأسه وعقب: إنه الجنون بعينه؟ قلت عن ماذا؟ قال قصة رضاع المراهق! الذي بموجبه يمكن حل مشكلة الخلوة بين رجل وامرأة، فليس عليه سوى مص ثديها لتحرم عليه؟ لقد جاء هذا في حديث وفتوى من رجل أزهري؟ ولقد بلغ عدد التعليقات ما يزيد عن 1600 تعليقاً؟
هززت رأسي لأن القصة ليست جديدة لي، فقد قرأتها في كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) لصديقي (عبد الحليم أبو شقة) الذي كان يحمل أكداسا من كتب الصحاح والتفسير، أثناء زياراته المكوكية لي إلى ألمانيا، فيأنس بالثلج والبرد وغيوم السمام، وتقوم زوجته (ملكة) التي ترافقه كملكة وملاك رحمة، تعد له فنجانه المفضل من القهوة، ثم ينكب على مشروع القرن في تحرير المراة المسلمة من جديد..
لقد استفدنا من الرجل كثيرا. وقال عن كتابه (الغزالي) كان يجب أن يصدر قبل قرن، وهو كتاب لم تعن به الانفوميديا المشغولة بدجل السياسة ومغامرات رجال الحكم والمال.
كان (أبو شقة) رحمه الله يكرر بدون ملل: ما أفعله أنا هو سرد النصوص ومواجهتها فقط، ولسوف نعثر على كنز غارق في بحر لجي، مذكرا بقول العالم الأمريكي (جيلبرت) الذي كان يتحدث مثل الصوفيين عن مشروع (الجينوم البشري) قبل وصول الجني (فينتر) إليه وانتشاله..
لقد لفت نظري حديث (رضاعة المراهق) من يومها، عن شاب أرادت صحابية قريبة له أن تحل مشكلة الخلوة معه، وكان من الطوافين عليهم أقرب للمحارم، فذكر الحديث حلا جريئا وواقعيا يفهم في ضوء أنثروبولوجي وتاريخي معين، ولم يكن الحديث الوحيد، وحين كنا نذكره للبعض كان تعليقهم إنه قبل نزول كذا وكذا من الأحكام؟ وهو أمر وارد، وعكسه وارد، وهذه هي أزمة الفكر السلفي في عمومه، وأسميها أنا المتحارجات الثلاث أو النكبات الثلاث؛ فالفكر السلفي حين اعتمد الحديث وركز عليه ـ بحسن نية ـ عطل القرآن من حيث لا يشعر، وبذلك نحي الدستور الأساسي على حساب الفرعي، وهم بالطبع لايعترفون بذلك، ولكنهم يقولون بلغة مختلفة أن الحديث شارح للقرآن وموضح له، وأحيانا ناسخ له؟؟ وهذا يصل إلى المفهوم الذي قلناه..
والنكبة الثانية هي جدلية العقل والنقل، فطالما كان النقل هو الحكم فقد تعطل العقل تلقائيا، وهذه مشكلة المشاكل في الفكر الإسلامي الحديث، وقد شرحته أنا بتفصيل في كتابي النقد الذاتي، عن مفهوم الصحابي والعقل والنقل، وأن النصوص لاتفهم بذاتها، بل بإدواتها المعرفية، والمثل على ذلك لو أن صربيا يقرأ نصا باللغة الصينية فلن يفهم منه حرفا، مالم يكن متقنا للغة الصينية.

ولا يكفي هذا بل الإحاطة بالمصطلحات والتاريخ واستخدام أدوات مساعدة شتى، مثل دخول الجراحين على بطن المريض لأزالة ورم، فلا بد لها من علبة جراحية كاملة، بدء من موسعات البدن وانتهاء بالملاقط والخيوط المناسبة والجهاز المخثر وما شابه.
وهو أمر لايعترف به الفكر السلفي جملة وتفصيلا. ويرى التاريخ على صورة مقلوبة، وهو أمر فوجئت به المرة بعد الأخرى في مناقشتهم، التي لايخرج منها المرء إلا بالإحباط والأسى وأحيانا العداوة، بسبب التكفير الذي يناله منهم في مناقشتهم؟!
قال لي السيد (نبيل) وأنا أناقشه عن التفاسير أنها لاتزيد عن مصادر يستأنس بها، وليست هي النصوص؟ قال كلما رجعت إلى الخلف عثرت على النصوص الأفضل، وهكذا فتفسير الطبري خير من ابن كثير، وابن عباس خير من الاثنين، لقربهم من مستودع الحقيقة النهائية..
وهو أمر قد يمر على بعض العقول بإغراء مناسب، ولكن تأمله لايقود إلا إلى كارثة فكرية؟ لأن القرآن تحتشد فيه مفاهيم كثيرة وضعت لتضيء حقائقها مع الزمن، وإلا اعتبرنا القرآن جاء محصورا لقوم بعينهم وزمن محدد، وهو قول لايقوله نفس أنصار التيار السلفي، وهو دليل جديد على الدوغمائية، أي عدم القدرة على اكتشاف التناقض داخل نفس الفكرة، والإصرار على الفكرة للرمق الأخير، حتى لو قامت كل الأدلة على ضدها..
والنكبة الثالثة هي الإبحار بزورق ضعيف مصمم لجدول رقيق هاديء، في بحر لجي بدون جؤجؤ وبوصلة واسطرلاب وخارطة وزاد لمخر أوقيانوس يحدق فيه التايفون، فيكون مصيره ما حصل لحملة قوبلاي خان في غزو اليابان عام 1281م.
ثلاث كوارث عقلية متراكب بعضها فوق بعض: تعطيل القرآن الدستور الأساسي، وألغائه ونسخه وتجميد حركته من حيث لايشعرون.
وتعطيل عقلي في فهم حركة النصوص، وأن هناك دوما علاقة بين الحكم والعلة، وأن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما. وهو ما برع فيه علماؤنا قديما ويحتاج للتجديد، أي بناء الفكر الديني على نحو عقلاني، بتأسيس علم خاص عقلاني خالص، يشبه عمل الفيلسوف (إيمانويل كانط) في التنوير، ووضع كتاب (نقد العقل الخالص) أعني أصول الفقه. وهو ما دفع (أبو حنيفة العراقي) يومها عن قصد، في عدم اعتماد النصوص، إلا من خلال حركة العقل.
ونحن حينما درسنا في كلية الشريعة لم ننتبه إلى هذا التوجه، وأن حديث الآحاد الذي هو جملة الأحاديث يفيد (غلبة الظن)، ولم يكن ذلك بالإمكان، والآن يضيء لي المعنى الذي هدفه (أبو حنيفة النعمان) العراقي بحركته العقلية، لفهم النصوص والأحكام، في جو من العقلانية المنظمة، كلفته حياته مسموما في جو الاضطراب السياسي والاضطهاد العقلاني وطغيان الحاكم.
والثالث الإبحار في أوقيانوس لجي بزروق نهرري بدون خرائط وبوصلة وزاد ونجوم واسطرلاب.. فمرحى لرحلة من هذا النوع ولنتوقع غرق العالم الإسلامي، الذي نراه الآن، وهو يناقش مشكلة إرضاع المراهق، لرفع مشكلة الخلوة مع أجنبية، وهو أمر متوقع لقوم كفوا عن العمل واشتغلوا بالسفاسف والجدل، كما كانت نهاية بيزنطة، يناقشون في جو كسول رتيب، من الثرثرة المملة، عن جنس الملائكة؟ هل الملائكة ذكور وإناث؟ المرأة تقطع الصلاة بين الحمير والكلاب السوداء، زيادة في التمييز العنصري، حتى في مستوى الحيوانات، والماء يطهر بتغطيس الذباب، الذي يحمل الصادات الحيوية المعدلة في جناح، والشاب الذي يختلي بامرأة أجنبية عنده طريقة ممتازة لدفع الحرمة، وليس عليه سوى ان يلتقم ثدي امرأة تعمل معه في نفس القسم، فيمصه فتصبح المرأة حرام عليه لوجود نص بذلك؟! بعد خلع النص من كل إحداثياته وتاريخيته، لنسبح في بحر غامض من النصوص، ولنفتري على الله الكذب باسم الله..
لقد كان النيهوم صادقا في عنوان كتابين : محنة ثقافة مزورة، والثاني إسلام ضد الإسلام.. فهل حان الوقت لمراجعة مزعجة للتراث؟؟