بداية أعرف أن هذا الموضوع سيفتح علي بوابات الجحيم؟ و أعلم تماما أن الإتهامات بالطائفية و لربما بالكفر الصريح سستقاطر علي و تتهاطل من كل حدب و صوب؟ كما أعرف أم ما أقوله هو تعبير عن الضمير الساكت لملايين العراقيين الذين يعيشون حالة الصمت و الخوف و الترقب و الألم و الحسرة وهم يرون العراق يذوي و يضمحل و يتبخر في مهب الريح بعد سقوط الدكتاتورية وتصدي الأحزاب و العصابات الفاشية الدينية و الطائفية لأمر جلل ليسوا بمستواه وهو حكم بلد من أصعب بلدان الدنيا و شعب متقلب صعب المراس و لكنه عامر بالطيبة و الخير رغم كل المظاهر الخارجية المعاكسة لذلك؟، و لعل الظاهرة الواضحة في عراق الدم و الموت الراهن هو بروز ظاهرة العمائم في الحياة السياسية و الإجتماعية لا يهم إن كانت عمائم شيعية أو سنية؟؟ فالنتيجة في النهاية واضحة وهي تنامي و صعود الظاهرة الدينية و التي كان النظام السابق البائد طرفا رئيسيا من أطراف إشتعالها و بروزها بهذا الشكل الزاعق و المريض و من يتذكر بيانات النظام البعثي البائد في سنواته الأخيرة فإنها كانت مصاغة وفق نبرة دينية و خطابات قدرية ممزوجة بما تبقى من شعارات البعث الميتة و الجافة!!، اليوم و في ظل حالة الفراغ القيادية المرعبة في العراق و التي تعاني منها الأحزاب الدينية تحديدا لم تجد الأحزاب الشيعية رغم كثرة العمائم السوداء و البيضاء رمزا تلجأ إليه سوى المرجعية التقليدية و الموجودة منذ أكثر من ألف عام بعيدة كل البعد عن هموم و شؤون و شجون السياسة المتقلبة و أمورها الدنيوية و مكتفية بأن تكون ملاذا روحيا للمؤمنين في أحكام الشريعة و العقيدة لا أكثر و لا أقل، فلم تنصب المرجعية أحدا، و لم تطمح لمنصب سياسي و لم تكن عبر تاريخها الطويل مدخلا للفرقة و الإنقسام أبدا بل كانت متسامية و متعالية على صراعات الحكام و شهواتهم و أساليبهم الدنيوية المحضة، و قد خرج الإمام الخميني في إيران عن ذلك الدور وأسس جمهوريته التي أرادها فاضلة و أبرز قضية (ولاية الفقيه) لتكون الشكل الأساس لنظام الحكم الإسلامي الشيعي الإمامي في إيران، فالفقيه يقوم مقام الخليفة عند السنة و كلمته هي الفيصل وهي الحاسمة في تقرير الموقف المصيرية بالإضافة لوظيفته الشرعية و التربوية و الدينية المعروفة، وهي الصيغة التي آمن بها بعض أهل الشيعة في العراق و خصوصا من الأحزاب و التيارات الطائفية و السياسية التي تشكلت في طهران في ظل مرحلة الحرب العراقية/ الإيرانية (1980 ndash; 1988) كالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بزعامة الراحل باقر الحكيم و الذي غير إسمه اليوم و حتى مرجعيته الفقهية لإسم (المجلس الإسلامي العراقي) و بات يدين بالولاء للسيد السيستاني بدلا من علي خامنئي في إيران لإعتبارات سياسية و منطقية عديدة!! و هو تغيير شكلي في تقديري للخروج من حالة الإحراج و خانة الإتهامات و لغرض التأكيد على عراقية المجلس و عراقية مرجعيته!! وهي أمور ميكافيلية معروفة في عالم السياسة المنافق، فالجميع يعلم بأن ما للحب إلا للحبيب الأول!! أي إيران بحكوماتها و بثورتها و بمرشدها الروحي الأعلى خليفة الخميني الأول و الجامع لكل الشرائط، المشكلة الرئيسية اليوم هي أن الأحزاب الدينية و الطائفية العراقية و منذ ما قبل الإنتخابات و لتتعويض عملية فقدان الرموز الوطنية العراقية باتت تلجأ بشكل فج للإنضواء تحت عباءة السيد السيستاني المقيم في النجف و الذي تاريخيا لم يعرف عنه أي دور في مقاومة النظام السابق أو في النشاط السياسي بشكل عام و المشكلة الأساس هو أن آية الله العظمى السيستاني لا يظهر مطلقا للناس!! و لا أحد من العراقيين الذين لم يقابلوه يعرف صوته أو شخصيته عن كثب!! كما أنه لا يلقي الخطابات بصوته و لا بشكله و لا يوجه نصائحه بشكل مباشر بل من خلال وكلاء ووسطاء أحدهم إبنه نفسه!!؟ و هو بالتالي أشبه بالمحتجب عن الظهور و يكتفي بلقاء السياسيين فرئيس الوزارة يهرع إليه عند أي مشكلة؟ و مستشار الأمن القومي (المثقوب) السيد موفق الربيعي يقابله على الدوام و كذلك يفعل بعض الوزراء لتلقي النصائح؟ و هو أمر غريب في بداية القرن الحادي و العشرين و يتناقض تماما مع خطط و مفاهيم بناء الدولة العصرية المعتمدة على مؤسسات تشريعية ودستورية و شعبية و منظمات للمجتمع المدني ليس من بينها (الحوزة الدينية) و لا (المرجعية) و لا (الأوقاف السنية أو الشيعية) و لا (الباب العالي) في أي مكان!! ووجه الغرابة هو تناقض كل ما يحدث مع المنطق السليم فالسيستاني ليس وليا فقيها و هو رجل دين كبير و لكنه وهذه هي المصيبة (إيراني الجنسية) و مقيم في العراق منذ عقود و هو نفسه لا يخفي إيرانيته و لم يتجنس بالجنسية العراقية مطلقا بل لم يرغب بذلك أصلا؟ و مع ذلك يلتصق السياسيون بعباءته و يطلبون الشرعية من خلال لقاءاته و حتى الإنتخابات الأخيرة صيغت نتائجها بفتاوي وأقوال مسندة للسيستاني!! وهي حالة من أغرب الحالات في السلوك البشري لشعب من الشعوب، تاريخيا و ضمن الإطار الإسلامي المعروف فقد كان رسول الله (ص) يعيش بين الناس و يرتاد الأسواق و يخالط القوم بل و يدخل في معارك عسكرية تكسرت خلالها بعض أسنانه الكريمة وكاد أن يقتل في معركة أحد و جاع و تشرد و عانى و كان دائم الحضور وسط جموع المسلمين حتى آخر لحظات عمره الشريف، و كذلك كان الحال مع إمام المتقين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) الذي عاش كل مشاهد الإسلام الحاسمة و سطر بطولات تاريخية وحين إستخلافه قاد بنفسه معاركه ضد المارقين و القاسطين و الناكثين و كان يسأل المسلمين مباشرة عن إحتياجاتهم و كان يخوض الحرب بنفسه و بأبنائه و كان بين الناس حتى لحظات عمره الأخيرة، أما الإمام الحسن بن علي (رض) فقد كان إنسانا متواضعا و نقيا حريصا على دماء المسلمين وحقن الفتنة و عانى من الغدر و التشتت وظل مع الناس حتى رحيله، أما سيد الشهداء الإمام (الحسين بن علي) رض فقد كان أسدا من أسود الله لا يجامل في الحق و داعي إلى الخير و الصلاح و الإصلاح و قدم دمه الطاهر ودماء أبنائه و أشقائه الكرام البررة على مذبح الدفاع عن المبدأ و العقيدة و تعرض للظلم و الغدر و ظل بين الناس حت أستشهد في ملحمة الطف في كربلاء في أبشع عملية غدر تاريخية عانى منها إبن بيت النبوة و سليل العترة المحمدية الطاهرة، كان يعيش و ينطق و يقول و يدعو حتى النهاية، ومع تلك المقارنات و غيرها الكثير هل للسيد السيستاني مكانة و أهمية أكثر من رسول الله و أهل بيته من أئمة الهدى و الحق؟ لماذا هذا الإصرار من قبل السلطة الحاكمة على خلق كل ذلك الغموض و كل تلك الهالة الأسطورية على السيستاني حتى أن الفائز بشرف مقابلته يكون قد (فاز فوزا عظيما)!!! و ماهي االدستورية للسيستاني؟ بل ما هي المسوغات الشرعية التي تجعل من رجل لا يتحدث للناس و لا يظهر عليهم و كأنه المنقذ من الضلال؟... إنها تساؤلات يجب أن يرفع لوائها الشيعة قبل غيرهم و هم أي الشيعة أضحوا اليوم أمام مسؤولية تاريخية كبرى لتنظيف صفوفهم من المنافقين و الدجالين الذين يحاولون صنع طواطم وهمية و يشوهون مواقف الشيعة بل و يساهمون في سفك دماء الفقراء من أبناء العراق المساكين؟
المرة الوحيدة التي ظهر فيها السيستاني للناس كانت لقطات عابرة و من الخلف في مطار بيروت قبل ثلاثة أعوام إثناء سفره للعلاج في مستشفى (كرومويل) اللندني!! و بعد ذلك لا خبر جاء و لا وحي نزل؟

و اليوم و رغم كل المصائب التي تهاطلت على رؤوس العراقيين لم يزل المالكي أو شخصيات الإئتلاف الأخرى لا تمل من التوجه صوب النجف لتلقي المشورة وهي عادة ما تكون مشورة عامة تتلخص في طلب السيستاني الدائم من السياسيين بضرورة مراعاة مصالح الناس و تقديم الخدمات المفقودة و حقن الدماء و هي توصيات معروفة و مطالب شعبية مشروعة على كل حكومة تحترم شعبها و نفسها القيام بها؟ أكرر ما هي الوضعية الدستورية التي تكفل للسيد السيستاني تدخله في السياسة العراقية؟ هل هي وضعية الولي الفقيه؟ أم أنها وضعية أخرى لم يفت بها جهابذة القانون الدستوري؟ و يبدو أن سياسيي الإئتلاف الفاشلين لا يريدون توريط المرجعية فقط بفشلهم بل بتوسيع دائرة الإتهام و التقصير لتشمل عموم شيعة العراق الذين لم يحصدوا من سياسات الحكومة الطائفية المريضة سوى الدمار و الضياع، كما لم يحصد الشعب العراقي بأسره أي نتيجة إيجابية من تلك الحكومة التي تأخذ على الدوام إستشارة الفقهاء دون أن تقدم حلولا لأي مشكلة؟
ظاهرة السيد السيستاني في العراق من الظواهر الغريبة و العجيبة فالرجل لم نسمع صوته مباشرة على الهواء لنعرف رأيه الصريح فيما يدور من مهازل سلطوية؟ و الرجل وهذا هو المهم لا يحمل الجنسية العراقية لكي يكون له دور سياسي محدد أو إستشاري معلوم يتجاوز الأمور الفقهية المعروفة... فهل يفتينا أهل الدستور و أهل العلم في العراق بما يفيد و يشفي الغليل عن مكانة السيستاني في الدستور العراقي؟... إنها تساؤلات هائمة و حائرة يخاف غالبية الكتاب و أهل الرأي من طرحها؟ و لكن العبث القائم في العراق حاليا قد تجاوز الكفر الصريح و ليس هنالك من معصوم أو مقدس في الساحة السياسية العراقية فالمكاشفة ينبغي أن تكون رائد الجميع، و إذا كان مجلس الحكيم العراقي الأعلى قد نقل (التقليد و الولاء) من الخامنئي للسيستاني كتأكيد لعراقية المجلس العتيد! فإن السيد السيستاني هو إيراني أيضا بحكم القانون؟... إنها خلطة عراقية طائفية عجيبة؟ فلماذا لا يغلق البرلمان أبوابه بالكامل و يقوم السيد السيستاني بتعيين الوزراء و المسؤولين؟؟؟ و بذلك ننتهي من سوء الإختيار؟ أو نعلن قيام دولة الولي الفقيه العراقية وفق المواصفات النجفية الخاصة؟... إنها معضلة و مهزلة في وطن تحولت المآسي فيه لمهازل ثقيلة.....! من يتبرع بقول الحقيقة؟ و متى يصحو شباب الشيعة على ما يدور من حولهم و يتخذون موقفا تاريخيا من مهازل السياسة العراقية المريضة؟

[email protected]