تحتفل الأوساط الفلسفية في ألمانيا هذه الأيام بمرور 220 سنة علي صدور كتاب quot; نقد العقل الخالص quot; لكانط عام 1787. ويبدو أن تاريخ الفلسفة الألمانية ابتداء من quot; كانط quot; وكتابه العمدة,وكأنه محاكمة تتم فيها مناقشة العلاقة الملتبسة بين الدين والفلسفة. إذ أن quot; تهلين المسيحية quot; - على حد تعبير هابرماس ndash; أي جعلها هيلينية أو يونانية، أدى إلى اقتران الدين والميتافيزيقا. ولم يحل هذا الاقتران مجددا إلا مع كانط الذي وضع حدا واضحا بين الإيمان الأخلاقي الخاص بدين العقل والأيمان الوضعي بالوحي، هذا الإيمان الذي ساهم في تحسين النفوس، لكنه أصبح quot; بما ألحق به وبقوانينه في النهاية،quot; قيدا quot; حسب تعبير quot; كانط quot; نفسه. والواقع ان معظم الثورات اللاهوتية في الغرب تبنت شعار quot;كانطquot;: quot;الدين ضمن حدود العقل فقطquot;، وكان quot;كانطquot; نفسه قد قام بأهم ثورة في مجال الميتافيزيقا واللاهوت أيضاً، شبيهة بثورة كوبرنيكوس في مجال الفلك، وإن كانت أخطر في رأينا لأنها نزعت الوهم العقلاني بإمتلاك الحقيقة المطلقة، وكشفت عن حدود quot;العقلquot; ومحدوديته، مما كان له أبلغ الأثر في مسيرة الفكر الفلسفي من جهة، وفى بلورة مفهوم التسامح فلسفيا من جهة أخرى. فقد أعرب quot;كانطquot;، في نهاية القرن الثامن عشر بوضوح في مقاله quot;جواب عن سؤال: ما التنوير؟ quot;، المنشور عام 1784، عن العداء الذي يكنه التنوير للميتافيزيقا، ومن ثم دعا إلى الانصراف نهائياً عن الأسس التأملية لمفهوم المطلق أو quot;اللهquot; إذ أننا لا نستطيع معرفته,لأن معرفتنا مقصورة على العالم المحسوس وظواهره.وقد أدى انهيار الأساس الميتافيزيقي للاهوت إلى تجريد الفكر الديني من وظيفة تحديد أصل الوجود، وبالتالي من خصائص الفكرة التقليدية quot;للهquot;.
ولا تتضح هذه المحاولة الجسورة من خلال تاريخ الفلسفة فحسب وإنما من خلال تاريخ الأفكار أيضا,ذلك لأن انهيار الأساس الميتافيزيقى للاهوت، كان أكبر إنجاز حققه العقل الغربي منذ عصر النهضة الأوربية,فطوال الفترة الممتدة بين القرن السادس عشر وحتي القرن الثامن عشر كان العقل الغربي يناضل من أجل فك هذا الارتباط بين الميتافيزيقا واللاهوت، والذي دمج منذ دخول العقيدة المسيحية في أوروبا العصور الوسطى. ومن ثم مثلت محاولة كانط ضربة مزدوجة للميتافيزيقا واللاهوت في آن واحد، وكانت الشكوك التي أثارها في كتابه quot;نقد العقل الخالصquot;,تصيب بشكل مباشر مشروعية quot;المطلق quot; أساسا. ففي تصدير الطبعة الأولي يقول: quot;إن للعقل خاصية متميزة في أنه محكوم بمواجهة مسائل ليس في الإمكان تفاديها، إذ هي مسائل مفروضة عليه بحكم طبيعته. بيد أن العقل عاجز عن الإجابة عنها، لأنها تتخطى كلية قدرة العقل البشرى. وهذه المسائل تدور حول مفهوم quot;المطلقquot; سواء وصفته بأنه quot;اللهquot; أو الدولة.quot;.
وتبعاً لنظرية كانط في quot;المعرفةquot; أصبح quot;اللهquot; غير معروف نظرياً، بل أصبحت معرفته تخرج عن حدود وقدرات العقل الخالص، من ثم، لم تعد الفلسفة أو العلم قادرين على التعريف بـ quot;اللهquot; كما حدث على عهد ديكارت ونيوتن. فالعقل النظري أصبح عاجزاً عن إثبات وجود الله، ولا مناص من أن تعجز الطبيعة عن كشفه. ولا غرو إذا سُمّي كانط quot;محطم الكلquot; أي محطم اللاهوت الطبيعي.
واليوم يطور هابرماس التقليد الكانطي,فلا يستحق من الأديان صفة quot;العاقلquot; - برأيه - إلا الدين الذي يتخلى,بسبب تعقله الذاتي,عن الفرض القسري لما يؤمن به من قناعات,وعن الإجبار القسري للضمير الذي يمارس تجاه المنتمين إليه,وبالدرجة الأولى عن استخدامهم للقيام بعمليات ارهابية تجاه الآخرين أو القتل بإسم الله.
هذه الفكرة تدين بوجودها لتأمل ثلاثي الأضلاع يقوم به المؤمنون، متأملين موقفهم في مجتمع كوكبي تعددي، يتعولم بإطراد. فعلي الوعي الديني أن يعالج أولا:اللقاء المختلف معرفيا مع مذاهب أخرى وأديان أخري. ويجب عليه ثانيا: أن يقبل سلطة العلوم التي تمتلك في مجتمع اليوم حق احتكار معرفة العالم. ويجب عليه أخيرا: أن يتقبل المقدمات المنطقية الخاصة بالدولة الدستورية، وهي مقدمات تنبثق من أخلاق غير دينية. و بدون هذا quot;الدفع التأمليquot;، برأيه، سوف تفجر الأديان التوحيدية طاقة هدامة. ومعني quot;الدفع التأمليquot;: التأمل والتفكر والتدبر والنقد المزدوج,وهو من خصائص المجتمعات الحديثة,منذ عصر النهضة الأوربية وحتي كتابة هذه السطور.

أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]
بريمين - ألمانيا