الموناليزا... الأمم المتحدة... والتجربة اليابانية
من مفكرة سفير عربي في اليابان

quot;اليوم المفيد يترافق بنوم هنيئ....والحياة المفيده تترافق بموت سعيد.quot;
quot;لقد أسئت للخالق جل شأنه، وللبشرية لأن عملي لم يصل للنوعية التي يجب أن تكون.quot;
هل من الممكن أن تخمن عزيزي القارئ من كتب هذه المقولتين؟ فنان الموناليزا ورسام اللوحة الفنية العشاء الاخير، العبقري المبدع، لويوناردو دافنشي. ولد ليوناردو دا فنشي بمدينة فلورانس الايطالية عام 1452، من عائلة من الفلاحين، وقد أبدع في الرسم والموسيقى والعلوم والرياضيات والهندسة الميكانيكية والهندسة المعمارية، وعلم الجولوجيا والهيدروليك. كما صمم أليات الطيران والبرشوت. فكيف يمكن أن نتصور بأن يعتبر هذا الإنسان شخصه قد أساء للبشرية. ومن الجدير بالذكر بأن لدافنشي فلسفته الانسانية الخاصة، وحاول من خلالها أن يبرز ابداعاته، وتتلخص بأيمانه بتناغم القيم الإنسانية بين البشر وضرورة العمل في مجتمع أنساني متراص. وقد كتب كارل جسبر يقول، quot;لويوناردو دا فنشي ومايكل أنجلو هما عالمان يوجد القليل بينهما من التواصل، لويوناردو مواطن عالمي، بينما مايكل أنجلو كان مواطن أيطالي.quot; وقد يلفت ذلك نظرنا بأننا في حاجة اليوم لشخصية لويوناردو دا فنشي. لقد جمع بين العلم والفن، بين العقل والعاطفة، بين الشخصانية والأنسانية، بين الأخلاص للوطن وارتباطه بجنسه البشري. فهل نحتاج لهذة المزيج لتربية جيل المستقبل في مجتمعاتنا الانسانية المختلفة؟
لقد فجع العالم بحادثة القتل الجماعي في جامعة فرجنيا التكنولوجية. طالب يقتل وبدم بارد أثني وثلاثين طالبا وأستاذا. نقول من علمني حرفا كنت له عبدا، ونرى وفي وسط الجامعة، المجتمع المثالي لنشئ جيل المستقبل، طالب يقتل أساتذته وزملائه بمسدسات يشتريها من بقالة الأسلحة. ومن المؤسف أن تنتهي القصة بتشخيص المأساة في فردية شخص مجنون. فلم تدرس الحادثة لتكتشف أسبابها المجتمعية والوقاية منها، بل كانت مسرحية اثارة تلفزيونية. ولم يرفرف جفن السياسين عن المشكلات النفسية التي يتعرض لها الطلاب، ولا لفلسفة التعليم التي يغذون بها، ولا لبيع الأسلحة التي تباع كالشوكلاته في بقالات الأسلحة. ومن الجدير بالذكر ضرورة تقدير الموقف الأنساني الذي سجله الشعب الأمريكي بأبتعاده عن الطرح الشوفيني وعدم معاداته للشعب الكوري. وقد ينعكس أيضا الأعجاب بعوائل العالم الثالث التي تهاجر للغرب والشرق، وتبدل الجهد الكبير لتعليم أبنائها.
كيف نعيد فلسفة ليو ناردو دافنشي الأنسانية من جديد؟ كيف نرجع انسانية الأنسان التي فقدت بمادية التفكير في هذا العصر؟ كيف نغير التفكير من أن الأنسان جهاز ألي يعمل من خلال تفاعلات كيميائية مرتبطة بالذرة والمادة، الى جسم مرتبط بعقل وعاطفة وروح؟ كيف نرجع أنسانية التعليم في مدارسنا وجامعاتنا؟ كيف نخلق توازن بين تعليم العلوم الطبيعية والآداب الإنسانية؟ وكيف نزرع في عقول شبابنا أهمية التعاون في دنيا العولمة الصغير؟
لقد حير الإنسان منذ بدأ نشوءه قبل حوالي أربعة مليون عام سر وجوده في الحياة. وحاول إيجاد فلسفة لهدف بقاءه من خلال الأسطورة والدين والخلافات المتباينة والحروب المدمرة. وفي القرن العشرين بداء العالم في التغير من الصراعات القومية والتفرقة العنصرية والأنقسام الديني والعرقي، الى مجتمعات تنادي بالعولمة والقوانين الدولية والديمقراطية ومؤسسات الأمم المتحدة. فهل ستوجه هذه القيم الجديدة لبناء مجتمع بشري متناغم بين الأنسان والطبيعة وأسرار ما وراء الطبيعة والعقل البشري؟ أم سيسرق رأس المال من جديد هذه القيم ليحولها لعولمة تجارية يديرها أصحاب أسهم الشركات العملاقة؟
وفي بداية القرن العشرين التفت البروفسور الأمريكي ودرو ولسون لقضية التعاون العالمي للابتعاد عن دمار الحروب. فقد كان أستاذا فلسفة القانون بجامعة برنستون بمدينة نيوجرسي، وأصبح رئيسا لها في عام 1902. وقد قام بإصلاحات جذرية في العملية التعليمية، ودخل عالم السياسة ولعب دورا هاما في تطوير القوانين المتعلقة بالمساواة وإلغاء الامتيازات في المجتمع الأمريكي. كما أجرى إصلاحات هامة بالمؤسسات البنكية الأمريكية. وقد نجح في الانتخابات الرئاسية في عام 1912، فقام بإصلاحات اجتماعية واقتصادية هامة، كما تجنب المشاركة في الحرب العالمية الأولى. إلا أن هجوم الغواصات الألمانية على السفن الأمريكية دفعه بقطع العلاقات مع ألمانيا، وتلتها المشاركة بالحرب العالمية الأولى بعام 1918. وحينما هزمت ألمانيا وتمت الموافقة على معاهدة فرساي، بدل جهدا كبيرا لموافقة الحلفاء على مشروع عصبة الأمم، والتي اعتبرت النواة الأولى للأمم المتحدة. وقد فشل في الحصول على موافقة الكونجرس الأمريكي، ولكنه حصل على جائزة النوبل للسلام في عام 1919 لجهوده لإيجاد صيغة للتعاون الدولي وحل الخلافات بعيدا عن الحروب. وقد حقق الرئيس الأميركي فرا نكلن روزفلت حلمه، بعد الحرب المدمرة العالمية الثانية، ووعيه بالثمن المكلف للحروب من دمار ومعاناة، وأهمية جمع دول العالم بمنظمة الأمم المتحدة.
وقد أصبح اليوم الحاجة للأمم المتحدة حقيقة لا غنى عنها. ولتؤدي دورها بصدق، تحتاج لأنظمة وقوانين جديدة قد تخالف القوانين التي وضعها منتصري الحرب العالمية الثانية. فمثلا قد تحتاج لتمثيل ديمقراطي حسب عدد سكان الدول، والنظر في ألغاء عضوية المسماة بالدول الدائمة العضوية وقرار الفيتو. كما ستحتاج بإصلاحات جذرية في البنك الدولي لإيجاد صيغ عملية للقضاء على الفقر وتخليص العالم الثالث من فوائد الديون. وستحتاج لقوة عسكرية رادعة للوقاية من المجابهات. ومن الضروري أن تنشط دورها الأساسي في المحافظة على العدالة في المجتمع الدولي، ولعب دور فعال لتقدم الأصلاح الأقتصادي مع التطور السياسي يد بيد. ولن يفيد تصدير الديمقراطية الغربية، بل ستحتاج الدول للاصلاح الديمقراطي، ومن خلال تاريخ وقيم وتقاليد ومفاهيم وثقافة مجتمعاتها، والذي يمكن تسميتها بالديمقراطية الثقافية. فقد طور الغرب ديمقراطيته الثقافية الغربية، وتحتاج كل من أفريقيا وأمريكا الاتينية والدول الأسيوية بالأضافة للدول العربية والمينا لتطوير ديمقراطياتها.
والتحدي الأخر لمفهوم العولمة هو أختيار النظام السياسي الأقتصادي المناسب. فنصف شعب العالم، الذي يقدر بستة ونصف مليار، يعيش على هاوية الفقر، وسيزداد لحوالي أثنى عشر بليونا بعام 2100. وسيكون أحدى عشر بليونا في العالم الثالث، فتصور مدى الخطورة التي سيواجهها العالم من انتشار وباء الفقر والمرض، مع ما سيرافقه من العنف والإرهاب. وقد مر تاريخ العالم بأنظمة اقتصادية وسياسية مختلفة، فأي منهما سيكون صالحا لتحديات عالم العولمة المستقبلي؟ فخير جواب لسؤالنا هو مراجعة هذه الأنظمة وما حققتها. فالنظم القومية الشوفونية أثبتت فشلها كالنازية الالمانية والفاشستية الأيطالية والأسبانية. كما أختفت أنظمة دكتاتورية البوليتارية. وتعاني الانظمة الاشتراكية من بطئ النمو الاقتصادي والبطالة وقلة الانتاجية والابداع. وأما الأنظمة الرأسمالية فقد حررت رأس المال وأعطت للأبداع فرصته. فقد أستطاع المبدعين والمخترعين من خلال هذا النظام أن يسجيلوا أختراعاتهم ويحصلوا المال الكافي من خلال تسجيل الشركات المساهمة ليحولوا أبداعاتهم وأحلامهم الى منتجات أستفادت منها البشرية جمعا، وأدت الى التقدم البشري التكنولوجي بشكل لم يسجله التاريخ من قبل. فزادت الثروة وتضخم رأس المال، وتقلص تدريجيا في أيدي قليلة، ففرضت بقوتها المالية الأنظمة والقوانين ودفعت برجالاتها للبرلمان والحكم. كما تقلصت الطبقة المتوسطة وزادات الفئات الفقيرة. وبدأت الخدمات الأجتماعية تعاني، فليس من الغريب أن تجد بأغنى دولة في العالم فقير يبحث عن الأكل في الزبالة، ولا يستطيع الحصول على الرعاية الصحية. فتلاجظ عزيزي القارئ بأن هذه النوعية من الأنظمة لا تتناسب مع مجتمعاتنا المبنية على قيم العدالة المجتمعية الاسلامية.
والسؤال لعزيزي القارئ ما هي الصيغة التي يمكن من خلالها أن تلعب الدول العربية دورها لإصلاح مؤسسات الأمم المتحدة لتكون في مستوى تحديات طوفان عالم العولمة الجديد؟ وهل ستشارك اليابان في صيغة مناسبة للاستفادة من تجربتها الغنية في خلق التناغم بين التنمية الاقتصادية والتعاون الدولي ونشر السلام العالمي؟

سفير مملكة البحرين في اليابان