وصل الإسلاميون إلى السلطة بعدة طرق، عبر الثورة الشعبية كما كان الشأن في إيران، ومن خلال الإنقلاب العسكري كما هو الحال في السودان، و بالانتخابات مثلما كان الأمر مع حركة حماس، ولكن الخلاصة الأساسية الوحيدة الممكن استنتاجها هي أن الدخول مطلوب، أما الخروج فممنوع. لقد تعددت الطرق والدرس المستخلص واحد، تكرار قول عثمان بن عفان الشهير quot;لن أنزع سربالا سربلنيه اللهquot;، فمن حق الإسلاميين السعي بكل جد إلى القبض على السلطة، لكن واجبهم (الشرعي) يقضي بعدم تفريطهم فيها بتاتاquot;.
يجهد كثير من الإسلاميين أنفسهم في إقناع الآخرين، داخليا وخارجيا، بأنهم مؤهلون للاندماج في سياق ديمقراطي تعددي حداثي، وأنه من الظلم عدم منحهم فرصة والحكم عليهم من خلال النوايا، أي من خلال ما قد يحدث لا ما حدث، غير أن النماذج التي قدمتها الحركات الإسلامية التي وصلت إلى السلطة إلى حد الآن، تؤكد مجتمعة أن النزعة الشمولية ما تزال هي الغالبة المستبدة بعقل ووجدان الإسلاميين، وأنهم ndash; كغيرهم من أهل الأحزاب العقائدية الممتلكة للحقيقة- لن يعدموا وجود المبررات الكافية، المتناسلة من بعضها البعض، لتسويغ الإستمرار في الحكم إلى ما لا نهاية.
حركة حماس على سبيل المثال، وعلى الرغم من أن المواطن الفلسطيني العادي لم يرى في ظل حكمها يوما واحدا عاديا، فقد زادت من آلامه فوق آلام الاحتلال، وفاقمت من جوعه وحصاره وقلة حيلته، لم تجد مسوغات كافية لقبول قرار دستوري أصدره الرئيس محمود عباس بإقالتها، ولم تتردد لحظة في تدمير بنى السلطة نواة الدولة الفلسطينية، وأحلت محلها بنى جديدة تابعة لها، بما أثبت أن مشروعها لم يكن مشروعا حزبيا وطنيا، يرغب في التنافس مع بقية التيارات السياسية الفلسطينية حول كيفية تسيير القضية الوطنية و المؤسسات الإدارية وخدمة المواطن الفلسطيني، بل كان مشروع دولة بديلة، ومن هنا فقد بدت الانتخابات التشريعية الوسيلة الأفضل فقط والأقل كلفة، للوصول إلى الحكم وتسخيره لبناء دولة أخرى ومجتمع آخر، وفقا لخطاب عقائدي مطلق مشكك باستمرار في الآخر، معليا الأنا ومنزها لها.
لقد تذرعت حماس بعدم دستورية القرار الرئاسي، وبالمؤمرات الإقليمية والدولية المحاكة ضدها، وهو ما يبرر كافة الإجراءات الإنقلابية التي جرى تنفيذها في غزة، وبقطع النظر عن مصداقية هذه المبررات، فإن الحاصل في سلوك حماس السياسي، أنها ماهت مصلحتها الحزبية الفئوية المحدودة، بالمصلحة الوطنية الفلسطينية، وأنه لم يكن لدى قيادة الحركة الإسلامية الفلسطينية، على افتراض خطأ القرار الرئاسي، أي استعداد للتنازل من أجل المصلحة الوطنية الفلسطينية، وأن الفشل في إقناع العالم بفك الحصار عن الشعب الفلسطيني طيلة أشهر طويلة من معاناة الفلسطينيين، لا يعد سببا كافيا لتغادر حماس الحكم، فالمشكلة دائما هي لدى الآخرين، المتآمرين والعملاء والخونة، وأن على الشعب الفلسطيني أن يصبر إلى ما لا نهاية، لكون حماس لم تمنح فرصة دولية وإقليمية لتحقيق جنة لله على الأرض.
لو كانت حماس إذا، وهي نموذج رائد للحركات الإسلامية في العالم العربي، حزبا فلسطينيا وطنيا، لقررت النزول عند المصلحة الوطنية الفلسطينية، مثلما فعلت quot;فتحquot; عندما خسرت الانتخابات التشريعية، فاسحة المجال أمام الحركة الإسلامية لتشكيل حكومة خالصة، ثم لم تتردد لاحقا في الالتحاق بحكومة الوحدة الوطنية كشريك ثانوي إلى جانب حماس، لا لشيء إلا لأنها قدرت اقتضاء المصلحة الوطنية الفلسطينية ذلك، حيث لا تتأخر مكانة الحزب تقديرا لمكانة الوطن.
لقد تذرعت حماس بالتفويض الانتخابي لتبرر انقلابها على السلطة، وهي تعلم ndash; أو ربما لا تريد أن تعلم- أن هذا التفويض محدود وليس مطلقا، وأن التنازل عن الحكم في ظل الديمقراطية ليس مرتبطا بفقدان الأغلبية، فطوني بلير خرج بالأمس من رئاسة الوزراء وحزبه لا يزال في السلطة، وثمة حكومات كثيرة في عدد كبير من الدول الديمقراطية، سقطت على الرغم من وجود أغلبيات برلمانية تدعمها، لا لشيء إلا لأنها قدرت أن مسؤوليتها الوطنية والظروف السياسية تجبرها على ترك مكانها وتقديم استقالتها.
كانت حماس ستكون أكثر احتراما في نظر الشعب الفلسطيني، والعالم بأسره، لو أنها جاءت بنفسها إلى الرئيس أبو مازن، لتقدم استقالتها، معترفة بالظروف المحلية والدولية الظالمة التي لم تمنحها فرصة النجاح في الحكم، بما يفتح آفاقا جديدة أمام الحياة السياسية الفلسطينية، ويقوي من مصداقية الحركة الإسلامية فلسطينيا وعربيا وعالميا، إذ يؤكد زعم قادتها بأن غرضهم الأول من السلطة تحقيق مصالح الفلسطينيين، غير أن حماس لم تفعل ذلك، و أثبتت كما أثبت الإسلاميون في السودان وإيران، أنهم لا ينزعون سربالا سربلهم الله إياه.
الإسلاميون في السودان أيضا، لم يجدوا في الأيام السود المتعاقبة على بلدهم منذ وصولهم إلى الحكم، حروب أهلية ومجاعات وفتن وسجون ومنافي وأزمات ورتوق تتسع على الراتق، أي داع لترك السلطة، بل لقد اتخذوا منها، الواحدة تلو الأخرى، أسبابا لمزيد من العناد والمكابرة والاستبداد، مستدعين بلا كلل أو ملل، طيلة ما يقارب العقدين، الآيات والأحاديث والقصص التراثية التي تفوض الحاكم أمرا من أمور الله، حتى ينزله عنه.
ملالي إيران الذين قادهم الشعب إلى الحكم في ثورة سلمية نادرة وغير مسبوقة تقريبا في التاريخ الإسلامي، وجدوا في نصوص التراث الإسلامي الشيعي ما يتفق تماما مع مقولة من اعتبروه مغتصبا للخلافة، ونسجوا نظرية ولاية الفقيه، التي تجعل من بشر ابن إمرأة تأكل القديد، بمثابة إله فوق الدستور ورئيس الجمهورية والبرلمان وكل التشريعات والقوانين.
وفي ظل الملالي، عاش الشعب الإيراني الحروب الطاحنة والمغامرات السياسية المجنونة والحصار والمتابعة، واضطر إلى التعايش مع الشكيزوفرينيا، حيث تحولت اللحية والعباءة والتشادور والسبحة، أدوات عمل يضطر إلى ارتدائها خلال ساعات النهار، ليخلعها في البيت وأماكن الخلوة لاحقا، وليس في الفقر أو الفساد أو الانهيار الأخلاقي أو الحصار الدولي أو غيرها من مظاهر الإفلاس التي وصلت إليها الدولة الإيرانية، أي مدعاة ليفكر قادة الجمهورية الإسلامية في إعادة البناء أو إرجاع أمر الناس إليهم خاصة.
وإن الناظر في شأن الحالات الأكثر انفتاحا لدى الحركات الإسلامية، على غرار حزب العدالة والتنمية التركي، أو حزب الدعوة العراقي، سيقف على استعدادات مشابهة تكشف رغبة قوية في الهيمنة المطلقة على مؤسسات الحكم والدولة، لا يعرقلها غير وجود قوى سياسية مقابلة ما تزال تمتلك من عناصر القوة ما يجعلها قادرة على التصدي لأي مخطط انقلابي بحجة التفويض الشعبي والتمثيل الإلهي.
لقد قال علي بلحاج زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، قبيل انتخابات 1991 التي قام الجيش بالانقلاب عليها، أن هذه آخر انتخابات ستجرى في البلاد، لأن حكم الله سيسري بعدها، ولا حاجة للانتخابات في ظل حكم الله، ولقد أنكر طيلة السنوات الماضية الكثير من الإسلاميين نسبة هذه المقولة، لكن إخوانهم في حماس والسودان وإيران أثبتوا لهم بالدليل الملموس صحة النسبة الفاسدة.
سيقول البعض أن في الرأي تحاملا على الإسلاميين، وقد تشبث غيرهم و لا يزال بالسلطة، والرد أن المتشبثين بالسلطة لا يحتلون مواقع الإسلاميين في المعارضة، حيث يبشرون بميلاد غد جديد للأمة العربية والإسلامية إذا ما تسلموا المقاليد، كما أن الهدف من الإشارة التنبيه إلى أن الداء المعطل للعقل السياسي العربي، لا يتوقف عند تيار معين، بل يتعداه ليتصف بمواصفاته المرضية المزمنة كافة التيارات السياسية العاملة في الساحة، وأولهم الإسلاميون.
ويجد المتابع شأن الأحزاب والحركات الإسلامية، ما يؤكد أن بذرة الشمولية والاستبداد والرغبة في الجلوس على الكرسي إلى ما لا نهاية، والاستعداد للتنكر للوعود الشعبية وإيجاد المبررات الكافية، كامنة في هذه الأحزاب والحركات كمونا مزمنا، فهي أيضا تنظم مؤتمرات صورية على طريقة الأحزاب الحاكمة، كما تقوم بفبركة انتخابات تجدد الولاية لزعمائها المؤسسين، تفوضهم الأمر حتى القبر على نحو ما يفعل الحكام الذين يتصدون لمعارضتهم الدائمة، فإذا كانت هذه الفئات تلتزم خارج السلطة سلوكا كهذا، فهل تراها تتغير لتصبح أحزابا ديمقراطية ساعة الاستيلاء أو الوصول إلى كرسي الحكم والرئاسة حتى لو كانت الانتخابات هي الطريق المتبعة.
* كاتب تونسي