حين انتقل السيد/ عمرو موسى من العمل كوزير لخارجية مصر، ليعمل أميناً عاماً للجامعة العربية، سعدت بصفتي أحد دافعي الضرائب المصريين، فها هو الرجل سيصرف راتبه الشهري ومخصصاته للمرة الأولى من الجهة التي دأب على العمل لحسابها، هذا ما رددته لنفسي.. ورغم أن الجامعة العربية بأوضاعها، التي هي انعكاس لأوضاع الكيانات السياسية التي تتكون منها، ليست المؤسسة التي يمكن الحكم على كفاءة أو أداء القائم على شئونها، من خلال ما تحققه من إنجازات، ذلك أن عوامل قصورها كامنة في صميم تكوينها، إلا أن السيد/ عمرو موسى يشكل في ذاته إشكالية خاصة، لأي موقع دبلوماسي يحتله، أياً كان بعد أو قرب دائرة الاختصاص من اهتماماته الخاصة.
فهو ليس مجرد دبلوماسي محترف، ينفذ ما يوضع له من سياسات، إنما هو صاحب رؤية وأيديولوجية عرف بهما، ومثل هذه النوعية من الرجال تنضح بلونها على ما تتقلده من مناصب، بأكثر كثيراً مما تتأثر بالمنصب خضوعاً لمتطلباته وشروطه، فعمرو موسى الذي تعرفه شعوب المنطقة والعالم صار رمزاً للفكر والنهج القومجي العروبجي، ويصنف داخل المنطقة الرمادية، ما بين الناصرية والبعثية بطبعتيها الصدامية والأسدية، ورغم خبرته الطويلة، وإدراكه الأكيد لطبيعة موقعه كمنسقCoordinator بين الكيانات السياسية التي تضمها الجامعة العربية، إلا أنه بوعي أو بدون وعي لابد وأن يؤثر ما يمثله وما عرف به من أيديولوجيا على تحركاته في المجال الدبلوماسي والسياسي، خاصة في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، موطن الاهتمام والاتفاق والاختلاف على مستوى المنطقة والعالم، فليس عبثاً أن المطرب الشعبي المصري quot;شعبان عبد الرحيمquot; يغني: quot;بحب عمرو موسى، وبكره إسرائيلquot;، في تعبير بسيط وعميق الدلالة على الثقافة السائدة، كما هو تعبير عن عمرو موسى الرمز، بما لابد وأن ينسحب على عمرو موسى الموظف لدى الجامعة العربية.
وإذا كان الفكر السياسي الحديث يعتبر أن الأيديولوجية غرض، وأن الغرض مرض، فإن تأثير المرض (العروبجي) فائق، على أداء منسق Coordinator بين كيانات سياسية متعددة، خاصة في ظروف تحولات جوهرية في الفكر والتوجهات الاستراتيجية، كالتي تمر بها منطقة الشرق الأوسط الآن، فهنا بالتحديد يكون تأثير الأيديولوجيا خطيراً، بل ومدمراً.. رأينا هذا التأثير المدمر في محاولة عمرو موسى إنقاذ صدام حسين في اللحظات الأخيرة، وكان يمكن لهذه المحاولة أن تنجح، لو قام بها آخر غير عمرو موسى الأيديولوجي العروبجي، فالآخر الدبلوماسي المحض لم يكن ليسعى لإنقاذ صدام بالتحديد، فوق كل شيء ورغم كل شيء، بل كان سيعمل على إنقاذ شعب العراق بالأساس، وعلى إعادة ترتيب الأمور بالمنطقة، بما يتفق والمعايير الدولية للعلاقات بين الدول، والتي انتهكها صدام بفجاجة منقطعة النظير.
الآن عندما تطلق الدول العربية (التي سبق وحكمت في بغداد على السادات بالإعدام، جراء مبادرته للسلام) مبادرتها للسلام، فإنها تكون قد استدارت 180 درجة عن توجه الرفض العروبي المطلق للكيان الصهيوني، وهو ما سارت عليه لستة عقود خلت، ومازالت تراتيله تلهج بها وسائل الإعلام الجهادية والمناضلة والرسمية حتى اللحظة، وإذا أردنا أن ننتقل بالمبادرة من نطاق التصريحات والمبارزات الإعلامية، إلى التنفيذ العملي على الأرض، فسوف يعترضنا في الطريق أكثر من لغم.. فالمبادرة تعتمد صفقة الأرض مقابل السلام، طرف يحصل على الأرض المحتلة منذ عام 1967، والطرف الآخر يحصل على الاعتراف والتطبيع، ويعني هذا أن على إسرائيل أن تتخذ إجراءات عملية محددة (hardware) بالانسحاب من الأرض المحتلة، وهي إجراءات من الصعب، إن لم يكن من المستحيل الرجوع عنها، في المقابل ولكي تحصل إسرائيل على نصيبها من الصفقة ستقوم الدول العربية بمجموعة إجراءات دبلوماسية، وتوقع على عدد من الوثائق والاتفاقيات (software)، وهذه النوعية من الإجراءات يسهل نسبياً التراجع عنها، أو تجميدها، أو التباطوء فيها إلى ما لانهاية.
وإذا لم يكن من المرجح أن يكون قادة إسرائيل والمجموعة الرباعية بعقلية المصري الصعيدي، الذي سبق وأن اشترى الترام، واقتدى به إسماعيل يس في فيلم quot;العتبة الخضراءquot;، فإن علينا أن نتوقع أن تكون العقبة الحقيقية أمام تفعيل المبادرة العربية هي تقديم العرب لما يثبت مصداقيتهم في قرار تبني خيار السلام.. هي عقبة كأداء بحق، فلكي نقدم دليلاً على مصداقيتنا يلزمنا أولاً أن نكون صادقين، حتى يأتي الدليل معبراً عن حالة حقيقية، لكي ننتقل بعدها لبحث مواصفات الدليل المعبر عنها، إلا إذا كنا سنعتمد على نهج quot;الفهلوة ودهان الهوا دوكوquot; الشائع على المقاهي والحواري المصرية.
حين أعلن الرئيس المصري الراحل أنور السادات مبادرته للسلام قدم مصداقيته، بإعلانها في مجلس الشعب المصري، ولاقت من نواب الأمة -والضيوف ومنهم ياسر عرفات- استحساناً وتصفيقاً حاداً، ثم توجه بطائرته إلى القدس، بعدها تمكن من تحرير كامل التراب المصري لآخر ذرة رمل (كما كان يقول)، ومع ذلك يظن كثيرون أنه قد باع لإسرائيل الترام!!
الآن السيد/ عمرو موسى ndash;دون أن يقدم دليل على مصداقيته هو وأمته العربية- لا يريد أن يقدم شيئاً لإسرائيل دون ثمن، حتى لو كان هذا الشيء مجرد إرسال بعثة لإسرائيل لاستطلاع النوايا.
في البداية أعلن عن وفد وزاري يزور إسرائيل ممثلاً للجامعة العربية، مكون من وزيري خارجية مصر والأردن، بناء على تفويض مؤتمر القمة العربية للدولتين اللتين تقيمان علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.. كان من الواضح أن الوفد بتشكيله هذا، وبدون أن يضم دولاً عربية أخرى، سيفتقد الحد الأدنى من الإيحاء بالمصداقية في توجه الدول العربية نحو السلام، حتى وإن كان يتحدث رسمياً باسم الجامعة العربية، لكن حتى هذه المسحة الرسمية من المصداقية لم ترض أمين الجامعة الأيديولوجي، وضن بها لنجاح مسعاه، متناغماً مع دول عربية مازالت تصر على منهج quot;دهان الهوا دوكوquot;، فأعلن أن الوفد المصري الأردني لن يتحدث باسم الجامعة العربية، وإنما باسم الدولتين اللتين يمثلهما.
الرجل فعلاً جدير بالاحترام، إذ ربما يأبى أن يقدم لإسرائيل والعالم دليلاً على مصداقية لا وجود لها.
وربما كان مجرد منفذ لسياسة متفق عليها، هي بيع الترام.
وربما جل ما يتمناه الرجل الناصري البعثي القح أن ترفض إسرائيل quot;شراء الترام والهواء المدهون بالدوكوquot;، ليسارع بعقد مؤتمر صحفي حافل بالكاميرات والميكروفونات، ليندد ويشجب ويفضح إسرائيل غير الراغبة في السلام، والتي ترفض اليد العربية الممدودة إليها، ولتحيا المهاترات والشعارات!!،
لا أحد في العالم بات يصدقنا، لأننا ببساطة قد أدمنا الكذب والزيف قولاً وفعلاً، فمثلاً إذا ما قرر أصحاب محل للجزارة تغيير النشاط إلى تجارة الأدوات المكتبية، فعليهم ألا يفعلوا ذلك بنفس العمال، إذ يلزمهم عمالة جديدة تصلح للتجارة الجديدة، إلا إذا كانوا ينتوون الاكتفاء بتغيير اللافتة على واجهة المحل، مع بقاء البضاعة كما هي!!
مع ذلك فنحن لا نعد م مبرراً لأن نأمل خيراً، ليس لمجرد عودة وزيري الخارجية المصري والأردني من رحلتهما لإسرائيل بما قالا أنها تعقيبات إيجابية، لكن لأن الجامعة العربية بالأساس أقرب لأن تكون كياناً افتراضياً، منها لأن تكون واقعاً حقيقياً وفعالاً، وغالباً ما لا يفطن السيد عمرو موسى وهو يرفض مغادرة مواقع أقدامه الأزلية، أنه لا يضع بذلك عقبات في وجه مسيرة السلام، بقدر ما يهمش نفسه ومؤسسته المهمشة من الأساس!!
هل يمكن أن نقول أن الجامعة العربية قد وصلت إلى لحظة حاسمة في مصيرها، فإما أن تستمر في حالة موتها الإكلينيكي المعتاد، إذا ما نجح السيد عمرو موسى الأيديولوجي في إفشال مبادرة السلام العربية، أو أن تنجح المبادرة، بالقفز فوق حاجز الجامعة المنخفض بطبيعته، لتدخل المنطقة عصراً جديداً، تختفي فيه الكيانات الشعاراتية الكرتونية، ويختار فيه عمرو موسى أن يقول لنا ونقول له وداعاً؟!!
[email protected]