عمّق المعتزلة منهج القدرية فيما يتعلّق بدور العقل البشري في المعرفة وحرية إرادة المسلم. وكان يسمّيهم البعض ب (القدرية) والبعض ب (الجهمية)، لكنهم رفضوا هاتين التسميتين وميّزوا اصولهم الخمسة التي هي التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإثبات الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حول توحيد المعتزلة قال مؤرّخ عربي هام ورد اسمه في أعلام الزركلي هو أحمد أمين: (وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السمو والرفعة فطبّقوا قوله تعالى (ليس كمثله شئ) أبدع تطبيق وفصّلوه خير تفصيل وحاربوا الأنظار الوضعية من مثل أنظار الذين جعلوا الله جسماً. وقالت المعتزلة بحريّة الإرادة وغلو فيها، أمام قومٍ سلبوا الانسان إرادته حتى جعلوه كالريشة في مهبّ الريح أو كالخشبة في اليمّ. وعندي أن الخطأ في القول بسلطان العقل وحريّة الإرادة والغلو فيهما خير من الغلو في أضدادهما، وفي رأيي انه لو سادت تعاليم المعتزلة الى اليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التواكل). 1
ورد ذلك عند - أمين - رغم انّه أعتمد على خصوم المعتزلة في كتابته عنهم كالأشعري والشهرستاني والغزالي، وعلى بعض ما كتبه المعتزلة، وبعض ما أورده الجاحظ باعتباره تلميذاً متميزاً لشخصيةٍ شهيرةٍ في الاعتزال هو ابراهيم بن سيّار المسمّى بالنظّام، والذي عُرف عنه قوله: الشاكّ أقرب إليك من الجاحد، فلم يكن يقين قط حتى صار فيه شك، ولم ينتقل أحد من اعتقادٍ إلى اعتقادٍ غيره حتّى يكون بينهما حال شك. وقد تبنّى أحمد أمين هذا القول المعتزلي الذي يمجّد سلطة العقل، ويعتمد الشك والتجربة طريقاً الى المعرفة، ويضيف - وهو على حق - بأنّ اوروبا قد تبنّت هذين الركنين الاساسين في بناء نهضتها الحديثة، اي قبل أفكار - بيكن ومن ثم ديكارت - عن نظرية الشك بمئات الاعوام.
ويشير ايضاً الى ان للمعتزلة منهجاً خاصاً أشبه بمن يسمّيهم الافرنج ب (العقليين) الذين كان عمادهم الشكّ اولاً والتجربة ثانياً والحكم أخيراً. اي وفق هذا المنهج فالمعتزلة لا يقبلون الحديث النبويّ المروي إلاّ إذا أقرّه العقل، ويؤوّلون الآيات حسب مايتفق مع العقل.
هذا المفتتح يمهّد الكلام عن حقيقة تاريخية تفصل وتميّز بين مفهوم الاعتزال الفكري كظاهرة فلسفيّة والاعتزال السياسي كموقف جماعي، رغم انّ الأوّل قد استمدّ تسميته وديمومته من الثاني اي ان مفردة - المعتزلة - اُطلقت أوّل مرة في سياق النزاعات على جماعةٍ من الصحابة والعامّة ممّن لم يبايعوا عليّاً بعد مقتل عثمان، وبذات الوقت لم يخالفوه! وكان الاعتزال هو موقفهم. بمعنى انّ هنالك ثلاث فرق: الاولى أقامت على ولآية عليّ والثانيه على مخالفته والثالثة قد اعتزلت مع عبد الله بن عمر وسعد بن ابي وقّاص والانصاري وسواهم، ورفضوا مقاتلته أو القتال معه، وسمّوا بالمعتزلة واُعتُبروا أسلافاً للمعتزلة اللاحقين كحركة فكرية لاحقاً.
ويرد أصل تسميهم في مصادر عديدة اخرى في أحداثٍ تاريخية مختلفة. فيرجع الطبري تسميتهم الى جماعة من المحايدين، ويقول البلخي: (من الناس من سمّوا معتزلةً لاعتزالهم عليّاً في حروبه، وهم ليسوا كذلك، لأن جمهور المعتزلة بل أكثرهم الاّ القليل الشاذ منهم، يقولون أنّ عليّاً كان على صواب....). 2
واُطلقت التسمية ايضاً على الذين اعتزلوا مبايعة معاوية والحسن - كما اوردها الملطي -: (هم سمّوا انفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن معاوية وسلّم اليه الأمر، فأعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس، وذلك لانهم كانوا من أصحاب عليّ، فلزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة، وسمّوا بذلك معتزلة). 3
فهل من صلةٍ بين معتزلة القرار السياسي في عصر معاوية وبين معتزلة الحركة الفكرية في زمن الحسن البصري بعد اعتزال تلميذه واصل بن عطاء جلساته؟
وهو ذات السؤال الذي أورده المؤرّخ أحمد أمين ولكن بصيغةٍ اخرى ببحثه عن الصلة بين معتزلة الصدر الاول للاسلام بعد مقتل عثمان ومعتزلة العهد الاموي زمن الحسن البصري.
مقتل عثمان أثار مسألة الحكم على - مرتكب الكبيرة - وقد شغلت المسلمين حينئذٍ وأجّجت الصراعات السياسية التي قادت الى معركة الجمل ومن ثم حرب صفين، واستمر الجدل فيها قروناً حتى زمن الحسن البصري. اي ان تلك النزاعات قسّمت المسلمين الى أحزاب سياسية (حتى وان كانت دوافع هذا التقسيم قبلية او اجتماعية او شخصيّة) لكنها وجدت في الشكل الديني اُطراً لأصواتها، ومنها ممّن لم يأمروا بقتال عليّ ولا القتال معه، واختاروا الاعتزال عن الفرقتين المتنازعتين.

الّلا مؤمن والّلا كافر:
اعتبر الخوارج - مرتكب الكبيرة - كافراً، وقالت المرجئة ان من شهد بالتوحيد والرسالة لساناً أو جناناً هو مؤمن. لكن الشهرستاني يورد سؤالاً على لسان رجلٍ سأل الحسن البصري، فاختلفت إجابته عن إجابة تلميذه وصاحبه واصل بن عطاء، حول اشكالية مرتكب الكبيرة كقضية خلافية فجعلت بن عطاء يعتزل مجلس استاذه، وارتبط اعتزاله بنشوء فكرة المعتزلة، وسؤال الرجل للبصري هو: (يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة لا يكفرّون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضرّ مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الايمان، ولا يضرّ مع الايمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الامّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟
راح الحسن يتفكّر قبل الإجابة، لكن واصل بن عطاء قال للسائل: أنا لا اقول ان صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل الى اسطوانة المسجد يقرّر ما أجاب به على جماعة من اصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل واصل.. فسمّي هو وأصحابه معتزلة). 4
البصري قال للسائل: بأن مرتكب الكبيرة منافق وليس مكتمل الايمان، فهو يقول شيئاً ويضمر شيئاً آخراً، وهو في الآخرة يستحقّ قصاص غير المؤمن. بينما نجد ان بن عطاء وضعه بين منزلتي الإيمان والكفر من حيث القصاص. اي ان هذه الوسطية بين منزلة الكفر كما أفتى بها الخوارج ومرتبة الايمان كما أفتى المرجئة، هي التي ميّزت المعتزلة كموقفٍ بين الخوارج الذين اعتبروا الايمان هو اعتقاد وعمل لا يمكن الفصل بينهما، وبين المرجئة الذين اعتبروا الايمان معتقداً داخلياً لا علاقة له بما يجري من القول او العمل المخالف احياناً.
يورد البلخي بعض ما قاله المرجئة عن المعتزلة (بانهم مؤمنون لإقرارهم بالله ورسوله وكتابه وبما جاء به رسوله، وان لم يعملوا به. لكن المعتزلة اعتزلوا كلّ ما اختلف فيه هؤلاء وقالوا: نأخذ بما اجتمعوا عليه من تسميتهم بالفسق، وندع ما اختلفوا فيه من تسميتهم بالكفر والايمان والنفاق والشرك، لان المؤمن وليّ الله، والله يحبّ تعظيمه وتكريمه، وليس الفاسق كذلك، والكافر والمشرك والمنافق يجب قتل بعضهم وأخذ الجزية من بعض، وبعضهم يعبد في السرّ الهاً غير الله، وليس الفاسق بهذه الصفة. وورد لمّا خرج من هذه الاحكام، خرج من أن يكون مسمّى بأسماء أهلها، وهذا هو قول - المنزلة بين المنزلتين - أي الفسق هو منزلة بين الكفر والإيمان). 5
ويشير المسعودي في مروجه ان اصل تسمية المعتزلة يعود الى عزلهم مكانة الفاسق عن مكانة المؤمن والكافر، ويقول عن ابن عطاء (بانّه أوّل من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهي ان الفاسق من أهل الملّة ليس بمؤمنٍ ولا كافرٍ، وبه سُميت المعتزلة، وهو الاعتزال). 6
عموماً نقول ان اشكال الصراع السياسي الاسلامي تاريخياً يتلبّس الصيغ الدينية لتحقيق طموحاته السياسية، وان هذا الامر منذ نشوئه، نشأت معه التفرقة والفرق والاحزاب، ولجمت معه في الطريق كل الحركات الفكرية والفلسفية في تاريخنا العربي الاسلامي لتعطيل الإرادة والعقل وحريّة الاختيار، وغيّبت الكثير من الدعوات الفكرية في الجانب الاخر - وان بدت متناقضة - لكنها في الحقيقة تنطوي على مواقف سياسية كبيرة وخطيرة، كما في حركة المعتزلة الفكرية التي هي امتداد للمعتزلة السياسيين الاوائل الذين رفضوا محاربة عليّ بن ابي طالب أو القتال معه، وكذلك رفضوا مبايعة معاوية أو الحسن، بعد تنازل الحسن عنها لمعاوية.
اي ان موقف الخوارج الفكري هنا قادهم الى صراع سياسي وعسكري مع الامويين واعتبروهم كفرة ومرتكبي كبائر، بينما عارض المرجئة الخوارج، وحاولوا اخضاع كافة الفرق الاسلامية المتنازعة الى نظريتهم الفكرية، التي لا تعتبر الأمويين كفرة ولا المعارضين لهم كذلك. اي ان خلفاء الأمويين مؤمنون مهما ارتكبوا من الكبائر، وكذلك اعداءهم.
بينما طبٌق المعتزلة قول واصل بن عطاء في مسألة الخلاف بين المسلمين بصدد مرتكب الكبيرة وأعطوه منزلةً بين المنزلتين، اي ليس بمؤمنٍ وليس بكافر.


المصادر :
1-ضحى الاسلام ج3 ص 68، 70
2-فرق الشيعة ص 620 ndash; 621
3-التنبيه والرد ص 26
4-الفرق بين الفرق ص 21
5-مقالات الاسلاميين ص 115
6-مروج الذهب ج 4 ص 22