تتطابق الموازين الاعلامية في نظام جلعود (جلال/مسعود) مع ما كانت عليه في عهد نظام البعث، ولكن بقليل من الاختلاف.التقيت بالكثير من اعلاميين كُرد يعملون في حقول الاعلام، وغالباً الحزبي/ الحكومي اوالأهلي. هناك مثقفون واعلامييون على مستوى عال من الثقافة والاعلام في كُردستان، ولكن وجود هؤلاء لم يغن الاعلام الحزبي من الفقر المهني الواضح. اخذتني رغبة كثيرة في ايجاد ولو شخص واحد يعبر برضى عن الظروف القائمة لا سيما في ما يتعلق بالاعلام الحزبي، والحال لم اجد احداً. والمفارقة ان الشخص الذي يخدم في هكذا دوائر يعرف محتوى الامور اكثر من المراقب الخارجي. لكنه وحتى بناء على صدق شواهده ودلائله هو، فانه لا يكترث لمسائلة النفس ومحاسبتها على خدمة واجهة فارغة تخدم خلفية موبوئة وكالحة. فميزان الجري في يوم وليل العامل في دائرة الحزب الاعلامية في كُردستان، هو لقمة العيش والبقاء بعيداً عن الوقوع في يد رجال الأمن المتربصين بالنقاد والمتذمرين من الأوضاع.
تلقيت عبارات الثناء والاطراء من العديد من مثقفين كُرد بعد سلسلة مقالات نشرتها ايلاف مشكورة. وايلاف تشكل ابرز واجهة اعلامية في شرقنا واكثرها حرية وشجاعة وخدمة، وهي سبّاقة في تسجيل هذا الفضل باسمها.
سألت بعض هؤلاء الصحافيين والاعلاميين عن سر سكوتهم، فكان الجواب دائماً لا نريد ارزاقنا تقطع وكذلك اعناقنا. وللامانة ينبغي التنويه بالكتابات الكثيرة ضد الوضع القائم في كُردستان ولكن دون جدوى. ولذلك فهؤلاء الاعلامييون اوعزوا الى عدم التأثير سكوتهم، سائلين: مالذي غيّرت من السلطة الفاسدة المقالات الكثيرة. سنخوض في هذا الحديث بعد ايام.
علاقة الرزق بالموالات في السلطات القسرية أمر قديم قدم الزمان. نعم فالارزاق متكدسة في مخازن الحزب، ومن يبتغي لقمة العيش عليه ان يتحول الى آلة الحزب لملئ الفراغ، ولحمل جوهر السلطة القائم على الفضاوة والارتجال. لا جدوى، فإما ان يهجر النقاد دلائلهم وقراءاتهم حتى يضع الارهاب الحزبي اوزاره، او ان القوت، بل الحياة كلها لكل ذي مخلوق مختومة بموافقة الحزب واهوائه.
مجلة ثقافية (تصدر في كُردستان) اجرت معنا في العام الماضي لقاء مطولاً عن الثقافة الكُردية وعلائق الحداثة والدين. عقب ذلك قدمت اليها مقالاً عن البنية التكوينية للمجتمع الكُردي على اصعدة كثيرة اهمها الصعيد السياسي. اعتذر صاحب المجلة نشر مقالنا الذي وصفه بالقيم جداً. ولما استفسرت عن سبب ذلك قال لي: quot;هل تريد ان تمنع السلطة الكُردية مجلتنا من الصدور، ثم نقعد ملومين محسورينquot; ؟!
الاعلام الحزبي لا يتورع في ان يكون رمزاً من رموز الشر والفساد المتجسد في الحزب. ففي واقع مثل كردستان الذي يحتضن ماهو فوق العدد والحساب من الفساد والظلم والانحطاط يقف الاعلام الحزبي جانباً ولا يتفوه بكلمة معبرة عن الواقع الاليم، في ممارسة محكومة بالارهاب من جانب والغباء من جانب آخر، والجهالة والانحطاط الاخلاقي من جوانب أخرى.
محطة زاكروس التلفزيونية تمثل ابرز واجهة اعلامية من واجهات الحزب. فهذه المحطة المدارة من قبل كادر متعاضد مع فساد الحزب، المتستر بالقاب المثقف وما شابه ذلك، ليس سوى ذلك الكائن المتخلف الذي يكثر من سواد الظلم وادامة اعمار الظالمين. هؤلاء بعيدون كل البعد عن جوهر الثقافة السامية، ودخلوا في ساحة الاعلام والثقافة خلسة، بعدما هبطوا عليها بمظلات القبيلة المستحكِمة بادوار الحياة ومآلاتها في تلك الاصقاع، في هذا المنعطف من الزمن.
وليس حال محطة كردستان تي في والموقع الالكتروني للحزب وصحافته افضل من زاكروس. لكن المثال فرض نفسه بها، كونها حديثة ونقطة تحول نوعية في الاعلام الكُردي المعاصر!
فهذه المواقع والمحطات رغم استحواذها على اموال طائلة إلا انها عاجزة عن تقديم كينونة تفيد المجتمع الكُردي الغارق في المعاناة واليأس والتخلف. وفي هجرة عظيمة للوجدان والضمير، تحشو هذه الواجهات وقت الفرد الكُردي بالاغاني التجارية والبرامج التي يانف من متابعتها حتى العاجز عن كسب ذوق سليم.
وصحافة الحزب تحذو حذو المحطات /وأو لنقل انهما كينونتان تعكسان الواحدة الاخرى. فقضايا المجتمع الكُردي وهمومه وملماته ليست حاضرة في صحافة الحزب وتلفزيوناته. وتكرّسَ المشهد مناصفة بين حالين: زعماء الحزب ومسئوليه وهم يقومون ويقعدون ويستقبلون ويدبّرون (هذه سياسةً)، وما تبقى لتسلية المجتمع بالاغاني والبرامج المملة والباعثة على ضجر عميق (وهذا فناً).
إذن فلا مناص من رضوخ الفرد الكُردي لليأس، ومعاناة انسداد افق المستقبل، وبالتالي الانكسار على الذات بالمزيد من الحسرة والالم والعذاب. الأمل الوحيد الذي يملكه الفرد الكردي، وعلى الخصوص جيل الشباب (بنّائي المستقبل!) هو الهجرة الى الغرب هرباً من الجحيم!
لم يكتف الحزب بالاعلام الداخلي كواجهة لتجميل صورته المتجعدة والبشعة، عبر صرف الكثير من اموال الشعب لقنوات الاعلام، بل تجاوز الامر الى مد اليد الى الاعلام البعيد بهدف ايجاد ابواق له فيه، وقطع دابر الذين همّوا بكشف الحقائق وقول الحق عبر واجهات اعلامية في هذه الدولة او تلك.
أخبرني صحافي بارز في الحزب الديموقراطي الكُردستاني عن تلك المبالغ الخيالية التي دفعها الحزب لجريدة الزمان التي تصدر في لندن. ان من يلاحظ البدايات الاولى للجريدة يخلق لديه شك عظيم حول جوهرها. فصاحبها كان ينشر المديح والثناء لبعض الشخصيات الحزبية والسياسية قبل اعوام. ولعل السؤال عن السرّ وراء ذلك قد يدفعنا الى استنتاج ما قاله الصحافي الحزبي.
واخبرني كذلك عن الاموال الطائلة التي دفعها الحزب لجريدة أخرى، عربية مشهورة تصدر في لندن، بغية ايجاد موطأ قدم فيها.
هذا وشل من بحر وما خفي اعظم. ولكن الوضوح في هذا المآل هو تعريف الكينونات وتبيان الجواهر. فمن لا يبالي بواقع الشعب ومستقبله لا يهمه تبذير اموال الناس في الاعلام/المكياج للادامة بصورته ولو لم يقنع ذلك الضمائر المستقرة في باطن الاطمئنان والمعرفة، والتي لا يؤثر فيها الكذب والدجل والنفاق. هذا ما كان نظام البعث يقوم له ليل نهار، ولكن الفارق ان نظام جلعود يستحوذ على قنوات اكبر واكثر تنويعا.
عن طريق الصدفة واللقاء التقيت اكثر من مرة باعلاميين اجانب قصدوا كُردستان في مهمات تخصهم. في معرض سؤالي حول رايهم باعلام الحزبين الديموقراطي والوطني الكُردستاني، كان هؤلاء اما يبتسمون ورؤوسهم تهتز، او انهم كانوا يعرّفون اعلام الحزبين بتعابير كثيرة من قبيل الضعيف، الحزين والمتخلف!
سابقاً لم يكن الحزبان يملكان اعلاماً كالذي يملكانه اليوم، لكنهما كانا يحظيان بثقة الجماهير ومناصرتها. في الوقت الحاضر يتوسلان بشتى الطرق لكسب ود الأكراد وتضليلهم دون طائل. الشئ الجميل الذي تملكه مراكز الاعلام الكُردية هو وجود كميات كبيرة من فتيات جميلات، كما الامر في دوائر اخرى حكومية. ما السبب؟ الله وحده اعلم، والقائمون على الشأن يقولون كلّ من عند حزبنا.
كتاباتنا وكتابات الاخوة الكتاب الآخرين من الكُرد على صفحة ايلاف الناصعة المشرقة، نابعة من همّ وألم عظيمين. نبتغي في ذلك قول الحق واستشفاف افق بديل لمستقبلنا ومستقبل اجيالنا، في وطن يعامل بشره بكرامة ورأفة.
ويسألونك عن جلعودٍ إعلامٍ فيه، قل اعلامٌ فيه تضليل ودجل، والديموقراطية كفراً، يضحك منها الجمع الحزبي في أنفسهم خفية، والشعب على تخوم الانحدار يرقب انقلاب الموازين.