quot;كل الأشياء المعمرة، كل الأشياء التي تعيش زمنًا طويلاً، يغطيها العقل شيئًا فشيئًا إلى درجة أنها تنغمس فيه كليًا فتبدو كأنها عقلانية خالصة. ويصبح أصلها أو منشؤها اللاعقلاني شيئًا لا يمكن تصوره. ألا يبدو الكشف عن التاريخ الدقيق لأصل ما، وبشكل شبه دائم تقريبًا، إما أنه غير قابل للتصديق، وإما أنه تدنيس للمقدسات ؟ quot;... هذا ما كتبه quot; نيتشه quot; حرفيا، في الفقرة الأولي من كتابه quot; فجر quot;.
لكن يبدو أن quot; كلود ليفي شتراوس quot; هو الذي نبه الأذهان إلي خطورة هذه الفقرة، فقد كتب موضحا : quot;بأن وجود الأشياء المقدسة في أماكنها هو ما يجعل منها مقدسة، لأنها لو انتزعت من أماكنها، حتى لو فكريًا، لتدمر نظام العالم بأكمله. لذلك فالأشياء المقدسة تسهم في إبقاء العالم على نظامه، باحتلالها المواضع التي وضعت فيها quot;.
وهذا التحليل يتصل، بشكل مباشر، بكل ما كتبه quot; جاك دريدا quot; عن quot;التمركز حول العقلquot;، حيث عمد إلي تطبيق استراتيجيته في التفكيك على مختلف آثار الثقافة الغربية من نصوص فلسفية وتربوية وأدبية وبطاقات بريدية وفنون تشكيلية ووثائق ومخطوطات ودساتير سياسية، وقد تحدد غرضه من ذلك كله في الكشف، داخل هذه الآثار، عن quot;حضورquot; الميتافيزيقا وقدرة هذه المتون أو عجزها على تفكيك Deconstruction هذا الحضور - Presence أو هدمه.
وشرع دريدا بالفعل في تطبيق ذلك على quot;دستورquot; أكبر قوة في العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، كاشفًا لنا quot;حضورquot; الميتافيزيقا في quot;نصquot; الدستور الأمريكي، أو قل في صلب الديمقراطية الليبرالية الأمريكية.
ففي الفصل الثامن من كتاب quot;دريداquot; لـ (كريستوفر نوريس) والمعنون بـ quot;المجاز والمرأة.. في نقد النموذج المؤسسquot;، يعالج نوريس مقال دريدا quot;سير ذاتيةquot; وهو المقال الذي تصدى للمشكلات التي ظهرت كنتيجة مباشرة لما أصبح يسمى بـ quot;التفكيك الأمريكيquot;، ويجيب بشكل مباشر عن سؤال: لماذا يمارس التفكيك كل هذا التأثير على النقد الأدبي الأمريكي؟
وهذا المقال هو في الأصل محاضرة ألقاها دريدا في مؤتمر عقد بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لإعلان الاستقلال الأمريكي بجامعة فيرجينا، قاصدًا تفكيك هذا الحقل البلاغي والأيديولوجي المعقد لوثيقة الاستقلال.
وقد تساءل في البداية عن: الوضع الشرعي والقانوني لهذه الوثيقة، التي انبثقت بموجبها كينونة سياسية وقومية جديدة هي الولايات المتحدة الأمريكية؟.. كما تساءل عن المواطنين والنواب (وكلاء الشعب) الذين مهروا توقيعاتهم على هذه الوثيقة الخطيرة hellip; وعلى نحو أكثر دقة، تساءل عن: ما الذي أمد توقيعاتهم بسلطة، حيث من المفترض أن المصدر الدستوري الوحيد لهذه السلطة كان (هم أنفسهم) الذين كانوا قيد التخلق بوصفهم موقعي الوثيقة؟
وهذا السؤال الأولى يؤدي إلى سؤال تالٍ أهم، وهو: كيف نشأت الديمقراطية النيابية؟ hellip; بما أن هؤلاء الذين لعبوا دورًا في لحظتها التدشينية لم (يفوضهم) على نحو حاسم وواضح، أي جهاز قائم من القوانين أو الإجراءات.
والواقع أن هذه التساؤلات الاستراتيجية ليست مجرد إشكاليات تافهة يحلم بها quot;تفكيكي مراوغquot; بحثًا عن انعطاف جديد يتمتع بمفارقة، حسب تعبير نوريس، إذ لم يكن الموقعون الأوائل، لحظة التوقيع، مزودين ديمقراطيًا بسلطة تؤهلهم للعب هذا الدور.
فما الذي أهل هؤلاء النواب الأوائل للتحدث نيابة عن شعب أمريكي وافق عليه؟ hellip; شعب مفترض فقط بأمر إداري، لأنه لم يكن ثمة بعد دستور مكتوب يحفظ هذا الأمر؟
[quot;ولهذا السبب فقد اجتمعنا نحن الممثلين للولايات المتحدة الأمريكية في الكونجرس العام hellip; نعلن باسم، وبواسطة، سلطة شعب الجاليات المخلص: نعلن، ونصرح، على نحو مستوف للشروط القانونية، أن هذه الجاليات المتحدة هي، وينبغي أن تكون، ولايات حرة ومستقلةquot; (quot;السير الذاتيةquot; ص - 26)].
ويؤكد دريدا أنه كان لابد لهذا الإعلان من شاهد حاسم ذي شرعية قانونية (quot;السير الذاتيةquot; ص - 9) والشاهد في هذه الحالة هو quot;اللهquot; - God، على اعتبار أن الإعلان يحتكم إلى قاضي العالم الأعلى، بما أنه الضامن المطلق لـ quot;صحة مقاصدناquot;.
ذلك هو الالتجاء إلى quot;مدلول متعالquot; وقوة تضمن هذه التوقيعات وتمنحها قوة quot;الكلمة المزودة بسلطة والمعفاة من تقلبات الملابسات التاريخيةquot;.
إن سرية quot;الأصولquot; - Origins تستبعد أسئلة الشرعية ، وهي التي جعلت من هذه الوثيقة شيئًا ما آخر، أبعد من مجرد تسجيل لأحداث زمن معين، فقد أصبح الوضع الشرعي quot;التمثيليquot; للموقعين لحظة أن وقعوا بأسمائهم، جزءًا من القضاء والقدر الذي يديره إله غرضه أن يطيعه الموقعون على نحو مطلق.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية