إذا كنا نقول أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فبالأولى العالم أو من يتخذ من العلم منهجاً للعمل، ليس من المتوقع منه أن يرتكب خطيئة إعادة دس يده في جحر سبق له أن لدغ منه، ذلك أن منهج العلم السائد الآن تجريبي، يستدل على صحة القضية ليس من براهينها القبلية، ومن استنباطها من مسلمات، وإنما يعتمد على البرهان البعدي، بقياس ما يتحقق من نتائج بعد تطبيق الفرض محل الاختبار على سبيل التجربة، وعلى ضوء هذه النتائج يتم دحض الفرض أو إثباته أو تعديله، وفي حالة الصلاحية والممارسة تبقى عملية القياس ومقارنة النتائج بالمفترض ثم التعديل مستمرة، للمحافظة على دقة المسار مع تغير الظروف العملية، ويسمى هذا المنهج السير بتوجيه الأخطاء، وفيه يتم تعديل المسار وفقاً للفرق بين النتائج المتحققة والمفترضة، وبتكرار تلك التغذية العكسية feed back باستمرار، يتضاءل الفارق بين الهدف والمتحقق، حتى يصل إلى الصفر، بهذا المنهج تم الوصول إلى أهداف ليست في كهوف تورا بورا وإنما على سطح المريخ.
لنستعرض الآن ما يعتبر تطبيقات متعددة لمنهج واحد في منطقة الشرق الكبير، سيناريو واحد يتكرر، مع تغييرات لأسماء بعض أبطال المسرحية، وتعديلات طفيفة في الخلفية والديكور:
في أفغانستان واجهت أمريكا غزو الشمولية الشيوعية، باستثارة النزعة القبلية والأصولية الإسلامية، وبرعاية المخابرات المركزية الأمريكية تدفق الشباب والبترودولار من كافة الدول العربية على مدينة بيشاور الحدودية بين باكستان وأفغانستان، والتي صارت مركزاً للتدريب والعمليات، كما صارت مركز إشعاع لأيديولوجيا التكفير لكل من هو مختلف، ولنهج حسم الخلاف بالخنجر والديناميت، وكان تحقيق النصر على القوات السوفيتية يعني وصول الفاشية القبلية والأصولية الدينية إلى ذروة عنفوانها، لتبدأ دورة أخرى أكثر شراسة بين قوى الفاشية التي كانت من سويعات متحالفة، ليتقاتل الجميع ضد الجميع في شراسة لا نظير لها، قبائل وتنظيمات راديكالية، تجمع العرب والأفغان والباكستانيين وكل من يختار القتل هوية له، وما أن دان الأمر لأكثرها شراسة وهي طالبان، حتى انتشر المجاهدون المدربون والمشحونون أيديولوجياً في أنحاء العالم العربي والغربي، ليستأنفوا رسالتهم الجهادية على مستوى الكرة الأرضية، وهناك في بيشاور صنع بن لادن والظواهري وغيرهما، وصاروا النجوم الساطعة في سماء الشرق، بل وفي العالم أجمع، وامتد نشاطهم من يوغوسلافيا السابقة حتى مانهاتن وبرجي التجارة، مروراً بتفجيرات كينيا وميناء عدن وما شابه، ويقبع شيخ المخابرات المركزية الأمريكية الأثير في سجن أمريكي، بعد أن نكتشف ولكن متأخراً أن السحر قد انقلب على الساحر!!
نفس هذا السيناريو حدث في مصر، بعدما ورث السادات التركة الناصرية، ليواجه وحيداً الفاشية الناصرية، ممثلة في الاتحاد الاشتراكي وتنظيمه الطليعي، فيلجأ إلى الاستعانة بالإخوان المسلمين الأفظع فاشية، فأخرجهم من السجون، ومكنهم من النقابات المهنية، ومن جهاز الدولة البيروقراطي، ليسيطروا على المجتمع المصري كله، وينشروا فيه فيروسات التعصب والكراهية وثقافة الاستئصال، فنموا تنظيمياً وجماهيرياً، وتخرجت من جامعتهم شياطين، بدأت باغتيال الشيخ الذهبي وزير الأوقاف، إلى أن وصلوا إلى اغتيال السادات ذاته، من أخرجهم من القمقم وتحدث بخطابهم، وأسلم مصر لهم ينتهكون جسدها وقدسيتها ما شاء لهم الهوى، وهنا أيضاً انقلب السحر على الساحر!!
في الماضي القريب أيضاً وقفت أمريكا وأتباعها في المنطقة خلف الفاشية البعثية الصدامية، لتضرب بها أصولية ثورة إيران الإسلامية، لتدور الحرب العبثية التدميرية سنوات طوال، سالت فيها الدماء من الجانبين، لتروي بذور العداء والكراهية، ليس فقط بين الشعبين المتقاتلين، لكن بينهما وبين قيم الإنسانية والحياة والحضارة، ما تبدت نتائجه بعد سنوات، وما لبث أن استدار الوحش البعثي في نهايتها ليلتهم الكويت، ويهدد ويتوعد سائر دول المنطقة، وفي نفس الوقت يزداد النظام الإيراني شراسة، فالنيران الفاشية لا تأكل بعضها بعضاً، وإنما يزيدها التقاتل توقداً وانتشاراً، وهذا ليس بغريب، فخلال الاقتتال الفاشي ترتفع وتيرة الخطاب التحريضي على الجانبين، فيستقطب المزيد والمزيد من الجماهير، ويكتسب مع الوقت تأصيلاً ورسوخاً، وتظل موجات مده في تنام، حتى لو صمتت المدافع والتفجيرات إلى حين.
في العراق أيضاً استخدم صدام منظمة quot;مجاهدي خلقquot; ليضرب بها أعداءه ملالي طهران، ووفر لها الملاذ الآمن وقواعد التدريب والتمويل، وحين أتت الولايات المتحدة إلى العراق اعتبرت quot;مجاهدي خلقquot; منظمة إرهابية، وبدأت في حصارها والتضييق عليها، حتى امتدت الأيادي الإيرانية لتهدد العراق، عبر منظمات شيعية تحترف القتل والتدمير ضد السنَّة، لتبدأ أمريكا في التفكير في إعادة استخدام quot;مجاهدي خلقquot; لخلق المتاعب لإيران!!
في المستنقع العراقي أيضاً تركت أمريكا المجال للمنظمات الإرهابية الشيعية، لتقف في وجه نظيرتها السنِّية، وحين تمادت الأولى في جرائمها استدارت أمريكا لتساند الثانية، ثم تطور الأمر بتسليح القبائل السنِّية لتطارد بها تنظيم القاعدة، الذي انقلبت عليه أيضاً التشكيلات الصدامية المقاتلة.. حالة لا نظير لها من التخبط والتوجهات المتعارضة، لا يجمعها سوى منهج واحد، هو محاولة ضرب الفاشية بالفاشية، لتكون النتيجة دائماً هي رواج الفاشية لدى جميع الأطراف!!
هذا ما فعلته إسرائيل أيضاً، حين أفسحت المجال لجماعة الإخوان المسلمين، لتؤسس تشكيلاتها في فلسطين، أملاً أن تكون شوكة في جنب منظمة فتح وسائر التشكيلات اليسارية والقومية المقاتلة، لنحصل أيضاً على نفس النتيجة، سيادة ثقافة الكراهية وسفك الدماء، سواء من منطلقات قومية وعلمانية، أو بدعاوى دينية ديدنها اللد في العداء، وشهوة لا نظير لها لسفك الدماء، لنشهد النتيجة الطبيعية لذلك، في الحلقة الأخيرة (حتى الآن) من الاقتتال الداخلي المرير بين فصائل الشعب الفلسطيني، الذي تركناه للفاشية بكل ألوانها، لتنهش كبده وعقله!!
في لبنان تم الاستعانة بالجيش السوري البعثي الأسدي، لإنقاذ الشعب اللبناني من فاشية العروبجية اللبنانية ومنظمات القتل والبلطجة الفلسطينية، وما أن أتم جيش الأسد الكبير المهمة المفوض بها، حتى استدار ليجهز على الديموقراطية والليبرالية اللبنانية، ليقع اللبنانيون لسنوات طويلة أسرى البعثية البوليسية في أبشع صورها، فحق عليهم مثل المستجير من الرمضاء بالنار، لكن الأشد سواداً وكارثية ما يتناثر من أقاويل عن أن منظمة فتح الإسلام -التي تقتل الآن الشعب والجيش اللبناني- كانت تمول بواسطة سعد الحريري وتيار المستقبل، لتقف كفاشية سنَّية في وجه فاشية حزب الله الشيعية!!
ظاهرة فريدة ولا شك أن ينتشر استعمال منهج ما، رغم أن كل تطبيقاته تعود بالوبال على من اتبعه، ليس عليه فقط، بل على كل الدائرة المحيطة، بحيث أصبحت أرض الشرق الأوسط بحق مستنقعاً للكراهية والعداء للإنسانية والحضارة، ولكل قيمة يحرص عليها من يتمتع بمثقال ذرة من الاحترام للذات، وعلى هذا النهج سارت محاولات الإنقاذ والتحرير من التخلف، ومقاومة قوى الإظلام والإرهاب، لتأتي في كل النهايات بنتائج عكسية، لصالح تمدد الفاشية وتسللها إلى كل ركن وزاوية في أرض العروبة والشرق الأوسط بعامة.
لا نستطيع أن نجد سبباً للإصرار على نهج محاربة الفاشية بالفاشية رغم نتائجه الكارثية، إلا أن هذه هي البضاعة الموجودة في الساحة، ليس لدينا في شرقنا العزيز إلا فاشية متعددة الألوان، وليس أمامك إلا أن تختار منها أي لون تشاء، لتحارب به لوناً آخر لا يناسب ذوقك وهواك، هذا ما حدث ويحدث، فهل من سبيل لوقف هذا المسلسل، لنجد طريقاً آخر، أم هو لعنة لن تبارحنا أو نبارحها، حتى يتحول الشرق تماماً وبكامله إلى أرض يباب؟!!
الطريق الآخر مطروق ولا شك، لكنه لم يأت بنتائج يعتد بها حتى الآن.. تنمية قوى الحداثة والتحرر، لتقف هي في مواجهة الفاشية، دفاعاً عن مستقبلها ومبادئها.
لم تلق تلك الدعوة من الجماهير حتى الآن استجابة، ولم تلب دعوة الحرية ولم تستهوها راياتها، بل اختارت أن تفتتن بدعوات العداء والكراهية وسفك الدماء!!
يمكننا أن نلوم الجماهير، لكن هذا لن يؤد بنا إلى أية نتيجة إيجابية.
ليس أمامنا إذن إلا أن نحاول ونحاول، علنا ننجح في استزراع جيل جديد يعشق الحرية، ويكره استنشاق الهواء المسمم في كهوف التخلف الأزلية.
لكن إلى أن يوجد هذا الجيل ويشب عن الطوق، ربما ليس أمامنا إلا ذات النهج، أن نقاتل الفاشية بالفاشية!!
[email protected]