مصدر المعرفة بعد النبيّ.. تناقض التوثيق بين مروّة وأحمد أمين

يرجّح المؤرخ والباحث المعروف أحمد أمين مقولة ان الشيعة قد أخذوا تعاليمهم من المعتزلة، ويقول بانّه حين قرأ كتاب الياقوت لأحد قدماء متكلّمي الشيعة أبي اسحق ابراهيم كان وكانّه يقرأ كتاباً من أصول المعتزلة، ويستدلّ بافتراضاته ايضاً من دون أسانيد تاريخية على ان زيد بن علي - مؤسس الفرقة الزيدية - قد تتلمذ على يد واصل بن عطاء، وانّ جعفر الصادق كان على صلةٍ بزيد، ويثبّت استنتاجه على ما ورد عند الاصبهاني في كتابه - مقاتل الطالبيين -: (كان جعفر بن محمد يمسك لزيد بن عليّ بالركاب ويسوّي ثيابه على السرج). ويضيف أمين بانّه عن طريق هؤلاء تسرّبت اصول المعتزلة الى الشيعة.
تميّز ndash; أمين ndash; ببراعة في تحليل مقولات غالبية الحركات الفكرية في الاسلام واعتمدها من بعده الكثير من الباحثين، لكنّه لم يكن حيادياً في قرائته للصلة بين الشيعة وفكر المعتزلة، واستبعد عن أئمّة آل البيت نبوغهم المعهود منذ صدر الاسلام في البلاغة والجدل وعلم الكلام.
كيف يمكن تقبّل استنتاج احمد امين بانّهم قد أخذوا تعاليمهم من المعتزلة مقابل عشرات الوثائق وعلى لسان المعتزلة انفسهم بانّهم أخذوا اصولهم عن بن الحنفيّة عن أبيه عن عليّ؟
وكيف لم يستوقفه من كلّ كتاب الاصبهاني الملئ بسيرة الابادة لأئمّة الشيعة سوى جملة واحدة يبتسرها لصالح افتراضه السابق والتي تقول انّ جعفر الصادق كان يمسك لعمّه زيد بالركاب؟
كما لم يثبت اطلاقاً بانّ واصل قد تتلمذ للصادق او تتلمذ زيد لواصل. فزيد بن عليّ من مواليد عام 79 هجريّة وقد صُلب عام 121 وهو في الثانية والاربعين من العمر، اما واصل فأصغر منه بعام، ولم يكن شائعاً حينئذٍ ان يتتلمذ الناس عند من هو الاصغر سنّاً، فكيف وقد عُرف عن زيد مصاحبته لأبيه وأخيه الباقر وأخذه علم الاصول من الأئمّة السابقين؟
لانريد ان نقول ان ما ذهب اليه احمد امين في استنتاجه كان لاسبابٍ مذهبيه، لكنه لم يكن حيادياً ولا توثيقياً في ذلك، وكذلك في استبعاده لدور الفكر الشيعي في نشأة علوم الكلام والبلاغة والجدل، وهو ما استند اليه المستشرقون في هذا الصدد وعزوا ارث تلك الثقافة الى تأثّرها بفكر المعتزلة. خصوصاً في مرحلة ما بعد الربع الاّول من القرن الثالث للهجرة فما فوق، مثل تجربة ابن بابويه في كتاب - العلل - وسواه، اي في المرحلة التي تلت مباشرةً المرحلة التي تميّز بها فكر المعتزلة، وكأنّ المحصلة تقول انّه بحكم هذا التوالي فانّ الشيعة أخذوا من المعتزلة، وهذا ما استنتجه أمين وبعض المستشرقين كذلك!
يورد المفكّر حسين مروّة (الذي يسمّيه البعض شيوعيّ الشيعة) والذي اُغتيل بسبب افكاره وكتاباته، يورد ما يناقض الإستنتاج السابق بقوله في نزعاته الماديّة: (للشيعة دورهم البارز في نشأة علوم الكلام.. وهناك جانبان لدور الشيعة الإماميّة في علم الكلام: الجانب المذهبي الصرف ثم الجانب الذي تمثل بجمهرةٍ من علماء الكلام المنتمين الى الإماميّة الذين كانت لهم مشاركة ملحوظة في تطوير المباحث الكلاميّة في مختلف المراحل من تاريخ هذا العلم). 1
ويضيف - مروّة - في الجانب المذهبي القول أن المبادئ والأصول التي يقوم عليها كيان مذهب الإماميّة هي انّ شطراً كبيراً من مباحث علم الكلام سواءاً منها المتعلّق بالقضايا السياسية الكبرى مباشرةً والتي كانت على مدار الصراع منذ عهد الراشدين كقضيّة الخلافة وما نشأ عن مقتل الخليفة الثالث من مسألة مرتكب الكبيرة وقضيّة الموقف من الحاكم الجائر ومسألة الامر بالمعروف وغيرها أو المباحث الكلامية الاخرى المثارة بعد ذلك كامتداد تصاعدي لذلك الصراع ولكن باشكال فكريّة جديدة متطوّرة كمباحث القضاء والقدر وحريّة الانسان ومفاهيم العدل والتوحيد والايمان وقضايا الموقف من العقل والمعرفة.. في كل هذه الامور التي اشتدّ عليها الخلاف كان للإماميّة آراءهم ومواقفهم التي يتكوّن منها المذهب الشيعي ونظام علم الكلام في وقتٍ واحد.
وفي علم الكلام الشيعي للإماميّة الاثني عشرية مواقف يتفرّدون بها كموقفهم في مسألة الخلافة، فهم وحدهم - كما يقول مروّة - يرونها حقاً الهياً لمن يختاره الله لها ويرون هذا الحق لعليّ ولأبنائه من بعده من زوجه فاطمة بنت النبي بالتسلسل العمودي حتى امامهم الثاني عشر، وانّ الإمام معصوم من الخطأ، ويقولون في مرتكب الكبيرة بانّه مؤمن فاسق - اي انّه باقٍ على ايمانه لكنّه مذنب يستحقّ العقاب على قدر ذنبه - وكذلك موقفهم من مسألة تأويل النصوص الدينيّة اي القرآن والسنّة حين يكون ظاهرها على خلاف حكم العقل فهم - اي الشيعة - يقبلون بالتأويل هنا ولا يقبلون به في غير هذه الحال ويقولون بانّ علم الدين هو المرجع الاساس، ويلتقون مع المعتزلة في موقفهم من مسألة الحسن والقبيح وبأنّ في الافعال والاشياء ماهو كذلك بحكم العقل وليس الحسن او القبح مكتسباً من الاحكام الشرعيّة. وفي قضيّة حريّة ارادة الانسان في افعاله يتحددّ موقف الشيعة في هذه المسألة الخطيرة على أساس النص المأثور المأخوذ عن الإمام السادس من أئمّتهم الإثني عشر جعفر الصادق، اذ يقول النص: (لاجبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، ويفسّر الشيعة ذلك بأنّه ينبغي النظر الى أفعال الانسان من وجهتين: وجهة اسبابها القريبة ووجهة اسبابها البعيدة، فاذا نظرنا اليها من الوجهة الاولى رأينا ان الانسان هو السبب المباشر لافعاله وهي تصدر عنه باختياره وبهذا يكون مسؤولاً عن خيرها وشرّها، واذا نظرنا من وجهة اسبابها البعيدة رأينا تلك الاسباب خارجة عن حريته واختياره وهي اضطراريّة ولا يصحّ نسبة الافعال اليه بهذا الخصوص أي لا قدرة للانسان على مباشرة أفعاله البعيدة الارادة اي ان هذه القدرة هي مما خلقه الله فيه اي انها أفعال من الله باعتبار هذه القدرة على مباشرتها مخلوقة لله وهو الفاعل المباشر لها بارادته). 2

استنتاجات مغايرة:

يخلص مروّة الى انّ الجانب الايديلوجي في نظريّة التشيّع يتلخّص في موقفهم الثابت من مسألة الخلافة وفي حصرهم مصدر المعرفة بعد النبيّ بالإمام، ومن جهةٍ اخرى في مسألة حريّة اختيار الانسان لأفعاله. اي ان الاصل المذهبي هو الموقف الاساس يضاف اليها ما جرى لهم تاريخياً أزاء ذلك من حملات الإبادة المأساويّة التي يواجهونها بصلابةٍ حيناً وبالتقيّة احياناً اخرى وبالمعارضة سرّاً في مراحل مغايرة.
اي ان هذا الموقف العملي للشيعة رافقهم منذ اعلان سلطة الخلافة الامويّة ونظامها الوراثي، فارتبطوا بنهج المعارضة في العصرين الاموي والعباسي، بمعنى انّه بفعل معارضتهم التاريخية تلك وبفعل الاضطهاد الذي دام يلاحقهم حدث تغييراً إيديلوجياً في بعض المبادئ التي قامت عليها نظريّة التشيّع، والباحث عن هذه المتغيرات لايجدها في صلب النظرية بمقدار ما يعثر عليها في المعالجات الكلامية التي يلتقي فيها المعتزلة مع الشيعة في هذا السياق. وهذه المباحث هي أصداء للاوضاع الاستبداديّة التي تعرّض لها الشيعة منذ اغتيال إمامهم الاول عليّ بن ابي طالب والتي توّجتها فيما بعد الفاجعة المأساويّة التراجيديّة لمقتل إمامهم الثالث الحسين بن عليّ في واقعة كربلاء.
وان كان ثمة نقض لاستنتاج المؤرخ أحمد أمين، فسيكون السؤال: من هم أبرز متكلّمي الشيعة، ومتى تميّزوا، وما هي اسلوبيتهم؟؟


المصادر:
1-حسين مروّة النزعات المادية في الاسلام ج1 ص 867 ndash; 868
2-نفس المصدر، وبعض ماورد بين الاقواس بتصرّفٍ وايجاز

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية