في البداية نحاول استجلاء المادة في تضاعيف الملحمة اللغوية، هناك نجتهد لاكتشاف المعنى على مستوى عطاءه اللغوي المباشر، نتعامل مع القاموس التقليدي، مع الاستعمال الخام، الاستعمال الذي لا يستمر على نقائه الأول بطبيعة الحال، بل يتلوث بما يطرأ عليه من فيض الزمن، فيغدو تاريخا، وليس بالتاريخ الذي يعلن نهاية المطاف في لحظةٍ ما، بل تاريخ مفتوح، منشرح الصدر لما يرده من جديد، يلطخ عار البراءة الأولى بغنى الحياة، وتجارب البشر، ومغامرة الفكر، ينفي النقاء الأول، لأنه مجرد خرافة.
بكارة اللغة عار، يجب تنحيته من صلب الحياة، فالحياة لا تسمح للطهر اللغوي أن يقتحم ساحتها، ولا هي مستعدة لتتحول إلى خامة بيضاء، تلك أسطورة.
لنلقي أولاً نظرة مسبقة على الأصل، منه ننطلق، ومنه نشتق، نتتبع مسيرة التلوث، فالكلمة عالم مباح مستباح، تبعث به مسيرة الحضارة، تبعث في شرفه الساذج ، ذلك الشرف الذي لا قيمة له، فهو شرف أجوف، تماماً كشرف الورقة البيضاء.
يقول في القاموس المحيط ( كفر، يكفر، مصدر، كفَّر الشيء : ستره، غطَّاه... كفر الليل الحقول : غَطَّاها بظلمته وسواده... كفر الجهل على علمه : غَطَّاه ).
جاء في لسان العرب ( وأصل الكفر تغطية الشيء تغطيةً تستهلكه، وقال الليث إنما سُمِّي الكافر كافراً لأن الكفر غطى قلبه كله، قال الأزهري : ومعنى قول الليث هذا يحتاج إلى بيان يدل عليه، وإيضاحه أ ن الكفر في اللغة التغطية، و الكافر ذو كفر أي ذو تغطية لقلبه بكفره، كما يقال للابس السلاح كافر، وهو الذي غطَّاه السلاح، ومثله كاس، أي ذو كسوة... وفيه قول آخر أحسن مما ذهب إليه، وذلك أن الكافر لما دعاه ا لله إلى توحيده، فقد دعاه إلى توحيده إلى نعمه، وأحبها إليه، إذ أجابه إلى ما دعاه إليه، فلم أبى ما دعاه إليه من توحيده كان كافرا نعمة الله أي مغطيا لها بإبائه حاجبا لها عنه... ).
مادة ( ك، ف، ر ) نظام مركب من عدة مقتربات أو عناصر، الأول وجود شيء أ و ظاهرة، أو حدث، كأن يكون إنسانا، أو جبلا، أو عقيدة، أو خبرا... ثم هناك عملية تغطية على هذا الشيء، ومن الطبيعي لا تتم التغطية بدون غطاء، هذا الغطاء هو الأخر لا حصر له، ثم هناك من يتولى أو يكون سببا في هذه التغطية، سبباً فاعلا.
لقد سمي الفلاح كافرا، وذلك لأنه يغرز البذرة في التربة، يستر البذرة في التربة، ومن هنا كان معنى ا لكفر ( السَّتر ) كما في بعض المعاجم ( كفر الشيء :ستره... )، فهناك شيء تعرّض للتغطية، للإخفاء، هذا الشيء هو البذرة، ومن ثم هناك ساتر، مُغطِّي، أي الذي يتولى عملية التغطية، وهو هنا الفلاح، وأخيراً هناك مادة السَّتر التي تخفي البذرة، وهو هنا التراب.
جاء في مفردات الأصفهاني ( كفر : الكفر في اللغة سترُ الشيء، ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، والزراع لستره البذر في الأرض... ).
الليل كافر، لأنه يغطي على الأجساد ، يغطيها بظلامه، كما يغطي الزّراع البذرة بالتراب ، أو في الأرض، الليل يستر الأجساد بظلمته وسواده.
قال في مقياس اللغة ( الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو السَّتر والتغطية، يقال لمن غطَّى درعه بثوب قد كفر درعه، والمُكَّفر الرَّجل ا لمتغطِّي بسلاحه...)، فهذا المكَّفر رجل قد غطى السلاح جسده، أي عندنا جسد، وسلاح، وتغطية، الجسد هو المغطَّى، والسلاح هو المُغطِّي، وهناك من قام بعملية تغطية الجسد ، قد يكون هو بالذات، وقد تكون زوجته،وقد يكون صديقه...
في الكفر لا بد من شي نكفر به حسب نظام الكلمة، لا كفر بلا شي نغطيه، نستره، هذا عنصر جوهري في نظام المادة كما هو واضح، هذا المُغطَّى لا يشترط أن يكون ماديا، أي أن يكون جسداً، أو يكون جبلا، قد يكون شيئا معنويا، ومن أمثلته العلم، فالعلم يمكن الكفر به، أي تغطيته، ستره، وكأن يكون الحب، فالحب خاضع للسَّتر والإخفاء، ومثله الحزن، والفرح، والغضب، والسرور... النهر كافر لأنه يغطي على الكثير من الكائنات البشرية وغير البشرية، الحية وغير الحية، يغطي عليها بمائه الغزير، والليل كافر لأنه يغطي الأجساد البشرية، ويغطي الجبل الشاهق، وذلك بظلامه الكثيف، وبسواده الحالك، كذلك الجهل كافر لأنه يغطي العلم، ولست أدري كيف يغطيه هنا، ربما التعبير مجازي، ربما يشير إلى عدم العلم بشي ما، الجهل عدم ملكة فكيف يغطي الملكة ؟ هل تعني هنا الإزاحة مثلا ؟ ليس هناك علم حتى يزيحه الجهل، ولكن لا ضير، لأن الأصل عندنا هو نظام الكلمة، حيث هناك ثلاث عناصر على أقل تقدير، العلم، الجهل، المسبب لهذا الجهل الذي مارس عملية الإخفاء هذه. ربما ا لجهل يمارس التغطية بنفسه، كذلك الظلام، وبالتالي قد يقتضي نظام الكلمة عنصرين فقط، ليس هنا وقت معالجة هذه المسألة، ولكن لنمضي حقيقة مهمة، أ ن الكفر يستدعي أمراً ما نكفر به، نخفيه، نستره، نغطي عليه.
لا كفر بلا شي، بلا صفة، بلا ظاهرة، بلا معنى. ولا كفر بلا ساتر، بلا مُغطِّي، بلا مُخفِي. ولا كفر بلا مادّة تغطية...
يقول لسان العرب (... وأصل الكفر تغطية الشيء تغطية ً حتى تستهلكه ).
من الإشارة الأخيرة نستفيد أن التغطية يجب أ ن تشمل المُغطَّى كله، فالبحر كافر بسبب تغطيته تلك المحتويات التي تحت مائه بشكل كامل، والليل كافر لتغطيته هذا الجبل أو ذاك تغطية كلية بظلامه وسواده الكثيفين، والجهل كافر بتغطيته للعم تغطية شاملة ، فهناك أخفاء لكل جوانب المُغطى،وهذا يقربه من معنى المواراة التي هي إخفاء كامل للشيء، لكل جوانبه، لكل ما يظهر منه. هذه نقطة، والأخرى أن هذه التغطية لا يشترط فيها الوعي، و الإصرار، والفهم، كما هو واضح من الأمثلة المساقة، فالكفر هو هذا السَّتر الذي شمل هذا المُغطَّى من كل جوانبه، بصرف النظر عن المسئول عن العملية، عاقل أو غير عاقل.

الكفر والإنكار
هناك من ينكر وجود الله ، يقول أن الله غير موجود، ومنهم من ينكر نبوة الرسالة المحمدية،أي يدعي أن محمداً ليس نبيا، وهناك من ينكر يوم الميعاد،، وهناك من ينكر أن القرآن معجزة...
هذه الألوان من الإنكار أو النفي تسمى في الفكر الديني الإسلامي العام بـ ( الكفر )، فمن ينكر الوجود الرباني أو ينفيه هو كافر، ومن ينكر أو ينفي المصدرية الإلهية للقرآن فهو كافر...
قال في المفردات ( وأعظم الكفر جحود الوحدانية، أو الشريعة أو النبوة... )، وفي تصوري أن الجحود هنا تعبير عن الإنكار ، نكرَ بمعنى نفى، نكر وجود الله، أي نفى وجوده، قال أنه تعالى غير موجود، فهؤلاء قالوا ( لا رب، ولا نبوة، ولا معاد ، و لا شريعة... )، أي هناك نفي، حيث أساوق هنا بين النفي و الإنكار رغم بعض المفارقات اللغوية.
هل الكفر بالله يعني إنكاره ؟
هل الكفر بالتوحيد يعني إنكاره ؟
هل الكفر بالنبوة المحمديِّة يعني إنكار نبوة النبي العربي ؟
يبدو السؤال غريب هنا، ولكن المسالة في غاية الدقة، ويجب تفكيك المفردات بالتفصيل، لأن السرد السابق يفيد أن هناك تساوقاً كليا، تطابقاً تاما بين الكفر والإنكار، بطبيعة الحال أتكلم عما نحن فيه، أي الكفر بالمعنى الشرعي.
أن مبعث هذا التساؤل هو طبيعة وحوليات الإنكار، فليس الإنكار حالة واحدة، ولا هو متساوي الظروف والأسباب والحالات، هناك نماذج كثيرة من الإنكار، فكيف نضعها جميعا في إطار واحد هو الكفر ؟ أو نساوي بينها وبين الكفر في كل الأحوال والظروف والصورة والصيغ ؟ أو ندخلها كلاً وبضربة واحدة تحت عنوان واحد هو الكفر ؟
كفر بالمعنى الشرعي أقصد.
الدليل يحمل بين تضاعيفه تناقضا، أو ليس كافيا، أو يصطدم بالعلم، أو يحتوي على خلل منطقي.
فهل عدم الإيمان هنا بموضوعه يعد كفرا ؟
هناك من ينكر الإلوهية أو النبوة لأسباب تتعلق بوضعه النفسي والروحي، يعيش حالة من الضياع ا لفكري، مأزوم من الداخل، وهناك من ينكر كل شي في هذا الكون بسبب فقره، بسبب الجوع والمرض والحرمان، هناك من ينكر بدعوى أنه وجد الدليل المعاكس أقوى، أقدر على إشباع عقله، يرى فيه أقرب إلى المنطق، أقرب إلى العلم...
أن قضايا الإيمان بالغيب ليست سهلة في هذا الزمن، لقد تعقدت قضية الكون والحياة والروح والغيب في ظل المعادلات الجديدة للفكر والعلم، تحتاج إلى دقة علمية، واطلاع عميق، وأي دين يحوز على راحة الضمير ورضا العقل في ظل هذه الثورة الإعلامية التي تتلاعب في العقول والنفوس والضمائر ؟ صورة مرئية واحدة تقلب الموازين كلها، وهل هناك مجال للبحث عما وراء الطبيعة في زحمة هذه الانشغالات الهائلة التي لا تسمح للإنسان أن يراجع شؤونه الشخصية اللصيقة بحياته اليومية، فكيف بقضايا الغيب وشؤونه ؟
جدير بالذكر أن المشكلة لا تتعلق فقط بقضية الغيب، بل بقضية البحث عما وراء الطبيعة بشكل كامل، البحث عن إله، ومعرفة هذا الإله، البحث عن دين، والتعمق به من أجل الإيمان، البحث بدعوات موسى وعيسى ومحمد، والغوص في التفاصيل.... ترجيح أزلية المادة على خلقها، مشكلة الشر، القضاء و القدر... هذه المسائل الغيبية لم تعد سهلة، ولم يعد هناك وقت كاف للتعمق فيها ولو إجمالا.
هناك من يبحث صادقا، ويصل إلى أن فلسفة الإله منتفية لديه، لم يجدها مقنعة، لم يكن إنكاره عن رغبة في الإنكار، ولم يكن عن ضغط نفسي، ولم يكن بسبب ثقافته السابقة.... هل هو كافر بالمعنى الشرعي هنا ؟ ليس هناك إله حسب ما توصل إليه، فلم يقم بعملية ( تغطية ) على هذا الإله العملية. هناك أله، ولكن لم يصل إليه هذا الباحث، فهل مارس عملية التعمية على هذا الإله ؟ هل كفر به بالمعنى الشرعي ؟
الذي لا يعترف بإله، ولا بنبوة، ولا بمعاد، ولا بروح، وذلك بعد بحث جاد، أو لسبب خارج عن إرادته، ربما كافر بالنظام المجازي، ولكنه ليس كافرا بالمعنى الشرعي.
لا كفر بعد علم بالحقيقة، يعلم بها ثم يجحدها... ( جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ).

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية