quot;لابس مزِّيكاquot; تعبير يطلق في فرق الموسيقى التي تحيي الأفراح في الأحياء الشعبية المصرية، وتسمي quot;موسيقى حسب اللهquot;، نسبة إلى صاحب أحد تلك الفرق في الماضي، إذ يتفق صاحب الفرح على إحياء الليلة نظير مبلغ محدد وبعدد محدد من العازفين من قبيل الاستعراض، وما يحدث هو أن يتم تطعيم الفرقة بعدد من الرجال من غير العازفين، لكنهم يرتدون الزي ويمسكون بأيديهم آلات عزف يتظاهرون بالعزف بها، وأجرهم بالطبع يكون أقل تكلفة على صاحب الفرقة، وهؤلاء هم quot;لابسو المزِّيكاquot;، وقد استخدم التعبير للدلالة على من يقدم نفسه للناس بصفات ومهارات لا يمتلك منها غير المظهر والادعاء!!
ترى كم عدد أو نسبة quot;اللابسين مزِّيكاquot; في مختلف مناحي حياتنا؟!!
أكاد أسمع من يبتسمون ساخرين، بأننا جميعاً quot;لابسون مزِّيكاquot;، وقد يكون هذا صحيحاً إلى حد بعيد في شرقنا، وصحيح أيضاً بدرجات متفاوتة في سائر المجتمعات، وquot;لابسو المزِّيكاquot; أصناف وألوان، بعضهم يلبس مزيِّكا خداعاً واحتيالاً، فيما الظروف متاحة لأن يكون صادقاً وواضحاً، ونرى من هذا النوع رجال اقتصاد هم أبعد من أن يكونوا صالحين لتلك الصفة، ورجال دين يتحدثون باسم المقدس، وهم أبعد من أن يكونوا بالحقيقة كذلك، مادامت أغراضهم ونواياهم المستترة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالقداسة، أما ما نحن بصدده في السطور القادمة فيختلف كيفياً عن هؤلاء وأولئك.
تصيبنا بعض الأحداث بصدمة، رغم أنها لم تأت بجديد لم نكن نعرفه، ربما لأنها جسدت ما كنا نعتقد فيه من قبيل التأمل والاستنتاج، وآخر مثل هذه الحوادث ما فاجأتنا به نتائج الانتخابات اللبنانية الفرعية في دائرة المتن الشمالي، والتي أسفرت عن فوز ممثل التيار الوطني الحر بقيادة ميشيل عون، المتحالف مع حزب الله، على منافسه رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل مرشح الكتائب، وأحد أقطاب تحالف 14 آذار، مع تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري، فلماذا الصدمة وما طبيعتها؟
أصل الحكاية أن لبنان الذي نعتبره التجربة الديموقراطية الليبرالية الرائدة والوحيدة في الشرق الأوسط، قد وجدناه في الحلقة الأحدث من اضطراباته وانقساماته المستمرة، يقدم نفسه لنا بعد انتخابات 2005 منقسماً إلى فريقين رئيسيين باسم 14 و 8 آذار، وكأن آذار هو الشهر المخصص أو الأنسب للانقسامات، المهم أن أحد الفريقين (فريق 14 آذار والمكون أساساً من تيار المستقبل وحزب الكتائب والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي العربي) قدم نفسه لنا على أنه ممثل الليبرالية والحداثة والانفتاح على العالم، وعملياً يتبنى استئصال النفوذ السوري السياسي والعسكري والمخابراتي من سوريا، مشيراً إليها بالاتهام في سلسلة الاغتيالات السياسية في لبنان، وعلى رأسها اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، ويسعى عبر لجنة التحقيق الدولية والمحكمة الدولية إلى الوصول بالجناة إلى ساحة العدالة، في المقابل وفي الضد تماماً قدم لنا الطرف الآخر (فريق 8 آذار والمكون أساساً من حزب الله وحركة أمل) نفسه كممثل لأيديولوجية دينية سلفية خومينية الطابع، معادية للحداثة وللعالم، وعملياً تؤازر الوجود السوري في لبنان، وتسعى لإنقاذ حكام دمشق من تبعات التحقيق في الاغتيالات السياسية، ووضع العوائق أمام لجنة التحقيق والمحكمة الدولية، يلاحظ أن هذا التصنيف للفريقين المتضادين ليس رؤية مراقبين، وإنما هو ما قدم به كل طرف نفسه بوضوح وإصرار.
تزامناً مع هذا الاستقطاب الحاد كان الجنرال ميشيل عون في منفاه في باريس، يقدم نفسه للعالم كبطل تحرير لبنان من النفوذ السوري، وكرمز وطني للديموقراطية والليبرالية والانفتاح على العالم، أي بنفس رؤى جماعة 14 آذار، مع إيحاءات بأنه المنقذ والبطل التاريخي للشعب اللبناني بأسره، لكن ما حدث أنه ما أن عاد بطلنا الأسطوري إلى لبنان، لم يلبث طويلاً حتى فشل إقناع الجماعة التي ينتمي إليها مبدئياً وعملياً وهي جماعة 14 آذار، بأن تعطيه الحجم الذي يقدره لنفسه داخل التحالف، فما كان منه إلا أن استدار مائة وثمانين درجة، ليلتحق بالتحالف المضاد تماماً، وهو جماعة 8 آذار!!
الدهشة والتساؤل هنا ليسا موجهين فقط إلى جنرالنا الهمام، وكيف يقبل التحالف مع حزب الله، فهما بذات القدر موجهين إلى حزب الله، الذي سبق لرئيسه في وقت مبكر أن أعلن أن وجود مسيحي في رئاسة الجمهورية أمر لا مكان له في دولة خلافته الإسلامية المقدسة القادمة، ولا يحل لغز التحالف الأعجوبة هذا القول بأن هذه هي السياسة وتحالفاتها، فليست هذه هي السياسة إلا في عالمنا العربي، حيث الكل quot;يلبس مزِّيكاquot;، فلا الليبرالي ليبرالي بحق، ولا الأصولي أصولي بحق، فالتحالفات السياسية في الدول التي يحترم فيها السياسيين أنفسهم، ويحترمون الجماهير، تقوم بها الأحزاب المتقاربة أو المتجاورة في خط الطيف السياسي، فيكون لتحالفها معنى، ويشير إلى توجه معين، هو المحصلة لتوجهات أطرافه، لكن إلى ماذا يمكن أن يشير التوجه الناتج من تحالف الملا ميشيل عون وحسن نصر الله، وهما المتضادان في كل مقولة تخص الشعب اللبناني ومستقبله، لن تكون محصلة تحالفهما إلا نقطة ميتة ومشحونة بالتوتر.
ربما جاز التحالف بين الأضداد ضمن حكومة وحدة وطنية، لظروف وطنية طارئة ومؤقتة، إذ لابد أن ينحل ارتباط غير المتآلفين فور زوال الظروف الطارئة، أما أن يتحالف ميشيل عون بما يدعي تمثيله مع خصمه الفكري، لمعارضة بل ومحاربة فريق 14 آذار الممثل لكل ما يدعي الجنرال الإيمان به، فهذا هو ما نحن بصدد التساؤل عنه، والمرتبط أيضاً بما كشف عنه موقف الجماهير المسيحية في دائرة المتن الشمالي في الانتخابات الأخيرة.
كان المفترض أن ينال ميشيل عون من الجماهير جزاء تنكره لمواقفه ومبادئه، والتي صوتت له الجماهير عام 2005 على أساسها، وجزاء انضمامه إلى من يحاربون بشراسة لا نظير لها، كل ما سبق أن ادعاه لنفسه من مواقف، لكن أن يصوت له هؤلاء اليوم، وفي مقدمتهم الأرمن من حزب الطاشناق -الذين رجحوا بالفعل كفة ممثل عون- متجاهلين كل اعتبار خلا الانتماء الحزبي الأعمى، ليس فقط المنبت الصلة بأي برامج أو مبادئ أو توجهات، بل والمعلن منها مضاد لكل ما هو مقبول ومطلوب من هذه الجماهير، فمن يمكن أن يتصور أن يأتي حسن نصر المتحدث باسم الله بأي شيء يمكن أن يسعد الأرمن والموارنة، وذلك بناء على ما يعلنه سماحة صاحب النصر الإلهي في مواقف عدة، علاوة على الأدهى الذي يحتفظ به للوقت المناسب تحت عباءته؟!!
يدلنا هذا على أنه ليس الزعماء السياسيين اللبنانيين وحدهم الذين يتلونون وفقاً لأغراضهم الشخصية الخاصة، بغض النظر عما يرفعون من رايات ويطلقون من شعارات، وإنما الجماهير ذاتها كل طائفة متمترسة خلف انتمائها العنصري الجامد كالصوَّان، وفي حالة عجز مطلق عن التمييز أو حتى الرؤية أو الاستماع لأي مما يدور حولها، ليكون أي ترديد بعد ذلك لمبادئ أو مواقف، هي من قبيل quot;لبس المزِّيكاquot; ليس أكثر، وتكون الديموقراطية والليبرالية، التي نتصورها أو ندعيها للبنان دون باقي الدول العربية، هي خدعة كبيرة تلبس هي الأخرى مزِّيكة!!
هل مازالت لبنان هي الحمامة الديموقراطية الليبرالية، المحلقة في سماء الشرق الأوسط وصحاريه المجدبة بالاستبداد والقبلية؟!
حين تسقط الأقنعة فجأة، يكون من الطبيعي أن نتساءل: كيف لم نكتشف هذا منذ زمن طويل، وقد كانت كل الدلائل تشير إليه، ألأننا لم نكن نريد أن نرى إلا ما تصورناه؟!
لم يسبق لأي من شعوب الشرق ممارسة الديموقراطية ونهج الحياة الليبرالي، وليس من الغريب أن يسيئوا استخدام آليات الديموقراطية عند تجربتها لأول مرة، وهذا ما حدث بالعراق، حيث كان التصويت للطائفة وليس للوطن أو المبادئ، لتتمخض التجربة عن حكومة طائفية عاجزة، وتكرر الأمر في فلسطين، حين عجزت الجماهير عن اختيار نواب يحملون رؤى لمستقبل أفضل، ووقعت معصوبة العيون في شرك الشعارات الدينية، والتوجهات التي تذهب بالجميع إلى طريق مسدود، أما الدهشة كل الدهشة من الكيان والشعب اللبناني، الذي يمارس الديموقراطية وحرية الاختيار والانفتاح على العالم منذ ما يقرب من الثلاثة أرباع قرن، لكنه مازال في نفس موقعه الأول، أسير الطائفية العائلية والدينية!!
هل هي دعوة متشائمة لليأس؟!
هل هي ادعاء بأن شعوب الشرق عاجزة لسبب (أو لأسباب) عن قبول واستيعاب فكر ونمط الحياة الليبرالي؟!
هل لا ينبغي لنا أن نأمل في أكثر من بعض من عدالة للشعوب وتوازن حرج في معاملة الأقليات، لكن تحت نفس خيمة الطائفية والقبلية؟!
هل نحن عاجزون فعلاً عن مغادرة مواقع أقدامنا العنصرية؟!
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية