-1-
من حق الشارع العربي والشارع السوري خاصة، أن يتمسك بنظام الحكم السوري القائم الآن، بعدما رأي ما يجري في العراق، من فساد، وتسيّب، وفلتان أمني، ومعاناة المواطن العراقي نتيجة التدخل الإيراني- السوري في الشأن العراقي، وإفساد انتصار الشعب العراقي في التاسع من نيسان 2003 على قوى الظلم والطغيان في العراق، ونتيجة لإهتراء الطبقات السياسية التي حكمت وتحكم العراق الآن، والتي أثبتت بالدليل القاطع، بأن لا عراقياً شفافاً ونظيفاً وقوياً مؤهلاً سياسياً لحكم العراق، حكماً يعيد للعراق أمنه وسلامه ورخاءه وقوته الحقيقية سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
ولعل تعاقب الحكومات العراقية الفاشلة على العراق منذ 2003 إلى الآن، يعطينا الدليل على أن لا نخب سياسية في العراق قادرة على حكم هذا البلد الكبير. ويبدو أن ضخامة العراق البلد، بكافة إمكاناته، أكبر من قدرة أي عراقي الآن على حكمه، وضبط الأمن، وإقامة العدل، وتطوير الاقتصاد، ونظافة اليد فيه.
فالعراق الكبير، من السهل أن يُحكم حُكماً ديكتاتورياً بالسيف والخوف، من قبل حاكم عراقي ديكتاتور، وذلك لتوفر الحكّام الديكتاتوريين بكثرة في العراق.
ولكن يبدو لنا الآن، أن العراق من الصعب جداً أن يُحكم حكماً ديمقراطياً دستورياً عادلاً وقوياً من قبل حاكم عراقي ديمقراطي لاطائفي، غير متعصب، أو جبان.
فالرأس العراقي أكبر بكثير من أية قبعة سياسية عراقية متوفرة الآن.
وتلك هي محنة العراق الآن، ومصدر مصيبته.
بل هي تلك هي محنة العالم العربي كله.
فالنخب السياسية العربية فيه، غير قادرة على حكم بلد عربي، لا تزيد مساحته على 250 ميلاً مربعاً، ولا يزيد عدد سكانه على 700 ألف نسمة، حكماً عادلاً وشفافاً وديمقراطياً.
فما بالك ببلد بحجم وضخامة العراق الآن؟!
ولقد استطاع خلفاء وسلاطين ضعاف وخنافس ولكن ديكتاتوريين إدارة الإمبراطورية العباسية في العصر العباسي الأول (750-861م) والعصر العباسي الثاني (847-1258م) وفي الإمبراطورية العثمانية (1281-1924) بالسيف والخوف بكل سهولة.
فما أسهل الحكم الديكتاتوري، وما أكثره.
وما أصعب الحكم الديمقراطي، وما أندره.

-2-
قرأت التقرير السياسي المهم جداً الذي كتبه الباحثان الأمريكيان: جوشوا لاندس وجو بايس، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا عن المعارضة السورية في ماضيها وحاضرها. وهذا التقرير يضع أمام الإدارة الأمريكية الحالية المأزق الذي ستضع نفسها فيه فيما لو فكرت بإسقاط نظام الحكم السوري القائم كما فعلت في العراق. فالنظام السوري، من الذكاء، والخبرة، والمكر، وحسن الحيلة السياسية أن جعل من العراق الجديد مثالاً لا يتكرر، وربما لن يتكرر. فهو بتدخله الدموي التدميري السافر في الشأن العراقي، على هذا النحو الذي نراه الآن، قد جعل الشعوب العربية تكفر بالديمقراطية، وتلعن الحرية، وتسجد للعبودية، وتسبّح بحمد الطغيان، وتقدم له القربان، وتبارك الفساد، وترى بالمفسدين إرادة سماء، وقدر مقدور، وتلعن المعارضة، وتضم لعانها إلى لعان الدولة الحاكمة. فانظروا حولكم في العالم العربي، كيف يسبح ويُسبِّح بكل ما قلناه.
لذا، فقد صدق التقرير الذي أصدره مركز الشؤون الدولية التابع لجامعة نيويورك، الذي يتضمن ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل العراق لما بعد الانسحاب الأميركي الذي قال التقرير انه سيتحقق بحلول عام 2010. وتشير الدراسة التي وضعها خبراء دوليون على رأسهم البروفسور مايكل أوبهايمر إلى أن فرض الأمن في العراق، سيتطلب وجود دكتاتور لتعليق الدستور، وبسط القانون، والنظام بعد الفوضى التي سادت العراق، ودفعت بملايين من العراقيين للفرار إلى دول الجوار، أو الارتماء في أحضان الجماعات المسلحة، أو الميليشيات الطائفية. وتمضي الدراسة إلى القول بأن حالة العنف الطائفي، واللااستقرار الأمني في العراق قد دفع بكل دول الجوار، فضلا عن الولايات المتحدة، إلى قبول ظهور قائد عراقي دكتاتوري، يوحد البلاد، تحت قيادة مركزية قوية.
وبذا يكون حلم النظام السوري في العراق بعد 2003، قد تحقق، وحصل له ما أراد.

-3-
وهناك بشارة تقول، بأن العالم العربي سوف يزداد سوءاً سياسياً عما هو عليه الآن، وذلك بسبب هجوم التيار الديني الطاغي على الحياة السياسية العربية.
فإحصائيات العالم العربي تقول، بأن هناك أكثر من مليون طالب يتخرجون سنوياً من المعاهد الدينية. وأن هناك أكثر من خمسين ألف معهد ديني تم انشاؤها في نصف القرن الماضي. وهذه المعاهد الدينية تلقّن الطلبة كراهية وذم النساء، وكراهية وذم الآخر، والعداء للحضارة الغربية، والحض على الجهاد، وتقسيم العالم إلى دار حرب ودار سلام، وفسطاط الولاء والبراء، وإهدار دماء العلمانيين والحداثيين.
إضافة إلى ذلك، فإن الأحزاب والتشكيلات السياسية العربية النافذة الآن في العالم العربي، وصاحبة الكلمة المسموعة في الشارع العربي، هي الأحزاب السياسية الدينية العربية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، وما يتفرع منها وعنها من تشكيلات سياسية دينية.
وسوف تزداد هذه الأحزاب قوة في العالم العربي في المستقبل القريب، في ظل نظام التعليم العربي القائم الآن، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في بلدان الأطراف العربية، وفي ظل بروز إيران كقوة عسكرية واقتصادية راديكالية في المنطقة، وفي ظل أنظمة عربية ضعيفة سياسياً ومعرفياً.
فحتى لبنان الذي تبرز فيه الأحزاب العلمانية أكثر من أي بلد عربي آخر، تم تدميره سياسياً، وبدت القوى السياسية الدينية الإسلامية والمسيحية هي الحاكمة الفعلية لهذا البلد سواء من بكركي، أو الديمان، أو عين التينة، أو من مقر حسن نصر الله، أو من مجلس الإفتاء السني، أو غيرها.

-4-
تقرير الباحثين الأمريكيين جوشوا لاندس وجو بايس، تقرير حزين، ومؤسف، ومؤلم، وأسود، ومحبط، ومتشائم.
فهما يقولان أن المعارضة العلمانية في سوريا، لا تملك سوى قاعدة ضعيفة، إذ لا قاعدة جماهيرية شعبية لها، أو ارتباط بالشباب السوري. وأن الإخوان المسلمين في سوريا هم المعارضة الوحيدة ذات القاعدة الشعبية المؤكدة في سوريا. وأن أية اتصال أمريكي مع أعضاء المعارضة في الداخل، يمكن أن يكون خطراً على معارضي النظام، ويتركهم عرضة لتهم الخيانة. ولهذه الأسباب، لا تزال الأرض المعقدة والمبهمة لشخصيات المعارضة داخل سوريا منطقة عذراء.
وبعد انسحاب سوريا من لبنان، كان الاعتقاد أن السلطات السورية قد فقدت مرساها وعناصر ثباتها وأمانها، وبأن النظام سرعان ما سوف ينهار. ولكن كل ذلك لم يكن له أساس من الصحة. فالأسد لم يتحول فقط ليكون خصماً عنيفاً وحاد الذكاء على غير ما كان متوقعاً، وإنما بدأ الضغط على سوريا بالتضاؤل، أيضا خلال عام 2006.
ولا تزال هناك أسئلة عدة:
من أين تأتي المعارضة؟
وهل تشكل تهديداً جديداً للنظام في دمشق اليوم؟
وما زال في الجعبة الكثير مما ستقوله دراسة هذين الباحثين عن تجليات المعارضة السورية. وهو ما سنعرضه في مقال لاحق.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية