-1-
لا شك بأن تحرير العراق من الديكتاتورية البعثية التي حكمته طيلة العقود الماضية كان له الأثر الكبير في التبكير بخريف الديكتاتوريات في الشرق الأوسط. كانت كل الدلائل في الشرق الأوسط قبل سقوط الديكتاتورية البعثية في العراق تشير إلى اقتراب خريف هذه الديكتاتوريات. ولكن سقوط الديكتاتورية العراقية البعثية عجّل في خريف هذه الديكتاتوريات. ولذا وقفت هذه الديكتاتوريات من سقوط الديكتاتورية العراقية البعثية موقفاً سلبياً بل عدائياً عسكرياً واضحاً، ودليله الأكبر ما تقوم به سوريا الآن تجاه العراق الجديد من مجازر يومية. ومن هنا، أصبح العراق الجديد هو الشغل الشاغل للأنظمة والأحزاب الدينية السياسية العربية على وجه الخصوص. واستطاع الكثير من الأنظمة العربية تمرير قوانين معينة مجحفة بحق شعوبها ما كان لها أن تمررها قبل التاسع من نيسان 2003 المجيد. وانتهزت انهماك شعوبها واهتمامها الكلي بما يجري في العراق. ومن ناحية أخرى، أخذت بعض الأنظمة السياسية العربية الحكيمة من المثال العراقي درساً سياسياً إيجابياً، فحاولت القيام بعدة إصلاحات سياسية وزيادة هامش حرية الإعلام بشكل عام، وزيادة جرعة الحريات العامة ولكن بحساب دقيق وبمقدار، وتشجيع التيارات الليبرالية فيها ولو إلى حين، بعد أن تبين لها أن مستقبلها ليس مع التيارات الدينية التي لا مستقبل لها، بقدر ما هي تيارات موسمية، وإن كانت مواسمها أطول من مواسم البطيخ، وإنما المستقبل هو مع التيارات الليبرالية، وما تمثله من مبادئ طليعية، ومفاهيم عصرية. ولكن تبيّن أن كل ذلك كان خداعاً. وأن الأنظمة العربية لا تؤمن بالليبرالية، ولا تطيق النظر في وجهها.

-2-
ظل حزب البعث العربي الاشتراكي (معظم قادته من كبار الإقطاعيين والرأسماليين الذين ظلوا محتفظين بمكانتهم العشائرية والإقطاعية طول نشاطهم بالحزب كأكرم الحوراني، وفيصل خيزران، وبشير الداعوق، وعبد الكريم العلي، وإبراهيم قريطم، وباسل عطا الله، وإبراهيم العيدان، وعلي فخرو، وعلي النفيسي، وغيرهم كثر) الحزب السياسي الحاكم في النظام الديكتاتوري في سوريا والعراق منذ أكثر من أربعين عاماً وما زال هو الحزب الحاكم للنظام الديكتاتوري في سوريا، حتى الآن. والدمار الذي أحدثه حزب البعث لم يكن قاصراً على العراق وسوريا بقدر ما أمتد إلى بعض دول الخليج والى فلسطين والأردن، وأصاب مصر في مقتل، عندما فكَّك الوحدة السورية المصرية عام 1961. ولكن لم يلبث هذا الحزب أن فقد معناه وجدواه وتداعى وانهار قبل بزوغ فجر العراق الجديد في 2003 حين تماهى الحزب بالقائد (صدام حسين وحافظ وبشار الأسد) وذاب الحزب في شخصية القائد الطاغية. وهو ما عبّر عن صدام حسين بقوله ذات يوم: quot;قدمي أكبر بكثير من بسطار الحزبquot;. وأصبح وجود الحزب مرتبطاً بوجود القائد. وهو ما يشير بوضوح إلى حلول خريف الديكتاتوريات في الشرق الأوسط.

-3-
إخفاق وخيبة حزب البعث على هذا النحو، ونهايته كحزب فاشي نازي، تفرّد بالسلطة الديكتاتورية على النحو الذي تم في العراق وسوريا، وكذلك إخفاق الأحزاب القومية الأخرى كحركة القوميين العرب، ومن انشقَّ عنها كالجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحركة فتح، وما انشقَّ عنها من حركات كثيرة، وغيرها من الأحزاب القومية في العالم العربي التي بلغت 110 أحزاب (وهي التي حضرت مؤتمر الأحزاب العربية بدمشق عام 2006 ) إضافة إلى فشل التجربة الناصرية وانهيارها، بمجرد رحيل عبد الناصر عام 1971.. كل هذه الخيبات والإخفاقات أدت إلى انكماش تأثير هذه الأحزاب في الشارع العربي، وبالتالي فقدان ثقة الرأي العام العربي- إن وجد- وإحلال وجود الأحزاب الدينية محلَّ الأحزاب القومية وبمساعدة بعض الحكام العرب كما فعل الرئيس السادات مع الأحزاب الدينية في مصر وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، لكي تحلّ محل التنظيمات الناصرية السياسية التي أرادت الإطاحة بالسادات فاستنجد بالأحزاب الدينية وأطلق يدها في معاهد التعليم والإعلام.. الخ. وكانت نتيجة ذلك سقوط ديكتاتورية السادات ومقتله على أيدي من استنجد بهم لدعم حكمه.
كما كانت نتيجة إخفاقات الأحزاب القومية والعلمانية قيام المزيد من الأحزاب الدينية كـ quot;حزب اللهquot; في لبنان، وقيام quot;حركة حماسquot; في فلسطين، وقيام جبهة العمل الإسلامية في الأردن، وخروج الأحزاب الدينية العراقية (الحزب الإسلامي العراقي، حزب الدعوة، حزب الإئتلاف الشيعي، الصدريون.. الخ) من جحورها بعد قيام العراق الجديد 2003.
وهذه الأحزاب جميعها تسعى إلى الاستيلاء على السلطة، بعد أن رأت بأم عينها ماذا جرى للأحزاب العلمانية والقومية الأخرى، رغم أنها لا تملك أية إجابة عملية وواقعية على سؤال من أسئلة الحاضر يتعلق بالسياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الإدارة. فهي تحيل كل أسئلة الحاضر إلى أجوبة الماضي.
فتاريخ هذه الأحزاب جميعها هو تاريخ الفقر والفاقة وثورات الخبز بدلاً من ثورات التحرير. فرأينا ثورات الخبز تندلع في مصر في 1977، ثم في السودان في 1982، ثم في تونس والمغـرب في 1984، ثم في الأردن في 1989. وبموجب إحصائيـات 1993 فقد بلغت نسبة الأسر العربية التي تعيش تحت خـط الفقر 34 بالمائة، وترتفع هذه النسبة في بعض الدولة العربية إلى ستين بالمائة، وأن جُلَّ سكان العالم العربي - باستثناء دول النفط - لا يحصلون إلا على دولار أو اثنين في اليوم وهو الحد الأدنى لكفـاف الإنسان حسب مقاييس البنك الدولي.

-4-
من خلال هذا العرض السريع لسقوط الأحزاب القومية العلمانية، وإفلاس الأحزاب الدينية، وعدم قدرة كلاهما على التغيير والتجديد، وانتشار الجوع في العالم العربي، نرى أن الديكتاتوريات في الشرق الأوسط سواء كانت حزبية أو عسكرية أو قبلية آيلة للسقوط بسبب عدم وجود مرجعية وشرعية لها.
فلا مؤسسات دستورية لديها، ولا أحزاب سياسية تقوم بدور الحسيب والرقيب كباقي بلدان العالم الديمقراطي الآخر، ولا إعلام حر يقوّم أداء هذه الأنظمة، ولا شرعية تنموية تستند عليها هذه الأنظمة، ولا شرعية اقتصادية أو ثقافية أو تاريخية يؤهلها لأن تبقى في الحكم مدة طويلة.
فهل نشهد قريباً خريف الديكتاتوريات العربية في الشرق الأوسط سيما وأن هذه الديكتاتوريات أصبحت هي الوجه السياسي الوحيد في المنطقة وإن اختلفت أقنعتها.

السلام عليكم.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه