حلّت قبل أيام، الذكرى العشرون لاغتيال ورحيل الفنان، رسام الكاريكاتير السياسي الفلسطيني الشهير ناجي العلي في 29/8/1987 . فنعته في ذلك الوقت، وكتبت عنه الصحافة العربية بإسهاب من اليمين إلى اليسار، ومن المحب إلى الكاره. كما نعته وكتبت عنه الصحافة العالمية من شرق آسيا حتى غرب أوروبا، ما عدا مجلة quot;الكرملquot; التي يرأس تحريرها الشاعر محمود درويش، والناطقة باسم quot;اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيينquot;، الذي كان العلي عضواً فيه. فلم تأتِ مجلة quot;الكرملquot; على ذكر اغتياله وموته، أو رثائه بكلمة واحدة، سواء من قِبل جهاز تحريرها، أو من قِبل الشعراء والكتّاب الذين يكتبون فيها، والتزمت الصمت التام، وكأن الأمر لا يعنيها. وكان ذلك مثار أسئلة كثيرة، تدور حول من قتل ناجي العلي في ضاحية شيلسي في لندن، في ذلك المساء، وهو خارج من جريدة quot;القبس الدوليquot;، بعد نشره ذلك الكاريكاتير الذي قالت عنه جريدة quot;الأوبزيرفرquot; اللندنية في 30/8/1987 إنه quot;كلّف الفنان حياتهquot;، والذي فضح العلاقة الغرامية بين الكاتبة القصصية المغمورة رشيدة مهران وياسر عرفات، والتي كتبت عنه كتاباً بعنوان: quot;نبيي وإلهيquot;!

مأساة فنان.. مأساة أمة
تتلخص سيرة الفنان ناجي العلي(1936- 1987) بأنه كان قاضي تحقيق سياسي، عيَّنه الفقراء والمشردون نيابة عنهم للتحقيق في أحوال البلاد وتصرفات العباد. وهو هنا يُذَْكِِرنا بقاضي التحقيق كينيث ستار في فضيحة مونيكا ndash; كلينتون. فالعلي، كان محققاً، ينشر تحقيقاته صباح كل يوم على صفحات الصحف بالأبيض والأسود إلى أن انتهى بالتحقيق في فضيحة رشيدة مهران عشيقة ياسر عرفات في العام 1987، ونشر نتيجة تحقيقه على شكل كاريكاتير شهير، قال عشرات الصفحات. كذلك فعل القاضي ستار نتيجة تحقيقه في أكثر من أربعمائة صفحة، وقرأها مئات الملايين من الناس على شاشات الإنترنت.
فأين ناجي العلي الآن، وأين كينيث ستار..؟
إن هذين الموقفين يلخصان مأساة ناجي العلي ومأساة الأمة التي انتمى إليها. مأساته أنه عاش في أمة ما زالت تُفكر وتحكم وتتصرف وتعيش في مضارب خيام الماضي البعيد، رغم كل ما يحيط بها من قشور ومظاهر الحياة الحديثة. وامتطى ريشة في ميادين سباقها المليئة بالألغام والحفر والمطبات والمصائد. ورغم كل هذا فعل ناجي العلي ما فعل. ومن هنا جاءت فرادة ناجي العلي وندرته الفنية.

صوت الفنان وسوط السلطان
كانت نكسة حزيران 1967 من الآلام الكبيرة والعميقة التي أصابت غُسان قلب العلي، وهو الذي آمن بعبد الناصر، ومشى خلفه، وردد شعاراته، ورسمه في أجمل ما رُسم عن الزعماء العرب. ملخصاً موقفه من عبد الناصر وموقف عبد الناصر quot;الميتادورquot; من الثور اليهودي في لوحة موجزة مليئة بالمعاني السياسية التي تُلخِّص استراتيجية عبد الناصر بعد حرب حزيران. والتي رسمها العلي بعد عام من هزيمة 1967، وفيها يبرز أن الدعوة إلى الحل السياسي، لا يلغي العمل العسكري إذا كان ذلك بمقدورنا. بل إن العمل العسكري يظل هو السند والدعامة الحقيقية للعمل السياسي، وبدونه لن يتم أي حل سلمي. وتجاه هزيمة حزيران لم يجد العلي من شاة يذبحها على عتبة الهزيمة غير اليمين العربي وأمريكا. وهو غير مُحقٍ في هذا. فالهزيمة لم تكُ كل أسبابها اليمين العربي، ولم تكُ كل أسبابها أمريكا. وإنما شارك في هذه الأسباب عبد الناصر نفسه، ونظامه، وديكتاتوريته، ومخابراته التي أعدمت المفكرين شنقاً حيناً (سيد قطب)، وفي الأسيد حيناً (فرج الله الحلو)، وبالتعذيب حتى الموت أحياناً (شهدي عطية). وسلّطت الكلاب على قُضاة مصر ومستشاريها القانونيين، وجعلتهم يمشون على أربع، وينبحون نبح الكلاب (القاضي والمستشار علي جريشة). ودُرّبت الكلاب ndash; في حين دُرّبت القردة في سوريا - على مواطئة الرجال (فضائح التعذيب في قرية كمشيش) ودُسَّ لهم السم (الدكتور أنور المفتي). وحكم نظام عبد الناصر بالسجن مدى الحياة على شعراء مصر (أحمد فؤاد نجم) وموسيقيي مصر (الشيخ إمام عيسى). وأصبحت سجون مصر السياسية أكثر رعباً وتعذيباً من quot;سجن تدمرquot; الصحراوي السوري المرعب، أو سجن quot;باستيل باريسquot; المشهور كما وصفها الدكتور حسين مؤنس في كتابه (باشوات وسوبر باشوات). وقال تقرير المحكمة التي حققت في حوادث التعذيب الذي تمَّ في قرية كمشيش بمحافظة المنوفية برئاسة المستشار عبد الحميد محمود عمر، في صيف العام 1966، واستمر التعذيب فيها حتى العام 1968:
quot;إن الفترة التي جرت فيها أحداث هذه القضية هي أسوأ فترة مرت بها مصر طيلة تاريخها القديم والحديث. فهي فترة ذُبحت فيها الحريات، ووطئت فيها أجساد الناس بالنعال، وأقرّ الرجال فيها بالتسمّي بأسماء النساء، ووضعت ألجمة الخيل في فم رب العائلة وكبير الأسرة، ولُطمت الوجوه والرؤوس بالأيدي، كما رُكلت بالأقدام. وهُتكت أعراض الرجال أمام بعضهم، وجيء بنسائهم أمامهم وهددوا بهتك أعراضهن على مرأى ومسمع منهم، ودُربت الكلاب على مواطئة الرجال. والمحكمة لا يسعها إلا أن تُسجل أن المخلوق الذي ينسى خالقه، ويأمر الابن أن يصفع وجه أبيه أمام الناس، هو مخلوق وضيع وتافهquot;.

قادة ماجنون
وكذلك، فقد كان من أسباب الهزيمة ضعف عبد الناصر أمام عبث ولهو وطيش مساعديه وأركان حربه وقادة جيشه، وعلى رأسهم عبد الحكيم عامر. فقد قال الدكتور سامي محمود في كتابه (السلطة والجنس) أن التحقيقات التي أجرتها محكمة الثورة في أعقاب هزيمة يونيو 1967 كشفت أن ldquo;المشير عبد الحكيم عامر كان يقضي سهراته الخاصة في فيللا تقع على الترعة المريوطية في الهرم مع الفنانة برلنتي عبد الحميد وظل مختفياً هناك. وفشلت جميع المحاولات في العثور عليه. ذلك أن لا أحداً يعرف مكانه. وهو الذي يمكن أن يتصل بقيادة القوات المسلحة وليس العكس. وأن زواج المشير من برلنتي عبد الحميد أحدث صداماً بينه وبين عبد الناصر، أدى إلى انفصال المؤسسة العسكرية عن المؤسسة السياسية، كان من نتيجته التضارب في القرارات والخلل في القيادةrdquo;.

الرعونة السياسية
كما كان من أسباب الهزيمة رعونة عبد الناصر السياسية التي وضحت عندما لم يسمع نصيحة أقرب أصدقائه وحلفائه (الاتحاد السوفييتي) بضبط النفس وتجنُّب حرب 1967. وهذا ما ذكره محمد حسنين هيكل في كتابه (أبو الهول والمفوَّض ndash; نهضة وسقوط التأثير السوفياتي في الشرق الأوسط) من أن كوسيغين رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي نصح شمس بدران، وزير الدفاع المصري، في العام 1967 ldquo;بضبط النفس وعدم إعطاء إسرائيل أو القوى الاستعمارية أية ذريعة لإشعال نيران صراع مسلحrdquo;. والتاريخ العربي الموضوعي الحديث غير المنحاز مليء بهذه الأسباب وبهذه التفاصيل، التي أدت إلى هزيمة حزيران.

ومن الحب ما غَفَر
لكن ناجي العلي وهو المُحب لعبد الناصر والمدافع عن نظامه، واعتباره إياه الورقة الوحيدة الشريفة الباقية في يد المقاومة الفلسطينية المسلحة، نسي كل هذا. ولم يوجه لعبد الناصر أياً من هذه الانتقادات لا قبل العام 1967 ولا بعد العام 1967. وكان كعين الرضا عن كل عيبٍ من عيوب عبد الناصر خفيضة. وصبَّ جام غضبه على الرجعية العربية، وعلى اليمين العربي، ومن ضمنه السلطة في الكويت. علماً بأن الكويت كانت من أكثر دول اليمين وقوفاً وتضامناً مع القضية الفلسطينية بتبرعها السخي، وفرضها ضريبة خمسة بالمائة على العاملين من الفلسطينيين كمساهمة في المجهود الحربي الفلسطيني. كما كانت الكويت من أكثر دول اليمين العربي تهاوناً وتسامحاً ورحابة صدر واتساع أفق تجاه المعارضة في كلِمِها وفي رسمِها. وهو ما حمى رأس ناجي العلي وريشته الجارحة القادحة للشرر. وتركه يتابع أخطاطه وأنماطه الكاريكاتيرية المُفعمة بالسخرية والهزء في جريدة quot;السياسةquot;، ثم في جريدة quot;القبسquot;.
والكويت هي اليمين العربي المتفتح، الذي دعم عبد الناصر في محنته المالية والعسكرية، وفتح له خزائنه بكرم مشهود، كما فتح أبوابه لمئات الآلاف من العاملين المصريين ولم يلقهم يوماً في الصحراء وخارج حدوده كما فعل الطاغية معمر القذافي في الماضي، وكما يفعل الآن. وهي اليمين العربي الذي كان من أشد المناصرين للقضية الفلسطينية برفضها لقرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في العام 1967، والذي يعتبر القضية الفلسطينية مجرد قضية لاجئين، في حين قبل عبد الناصر بهذا القرار، وقبلت به الأردن كذلك.
ولكن ناجي العلي كفنان كان يُعبّر عن رأيه في اليمين العربي بعواطفه لا بعقله. وروجر فراي (1866 ndash; 1934) الرسام والناقد الفني الإنجليزي قال مرة:
quot;الفن عبارة عن عاطفة، وإلا فهو لا شيءquot;.

السلام عليكم.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه