أوغسطين كورنو فيلسوف واقتصادي فرنسي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تنبأ منذ ذلك الوقت بأن مصير النزاع لبسط النفوذ علي الكرة الأرضية سيتوزع بين قوتين هائلتين، هما الصين في الشرق والولايات المتحدة في الغرب.
كانت الولايات المتحدة قد خرجت من حدود السيطرة الأوروبية ونالت استقلالها قبل كورنو بحوالي قرن من الزمان عام 1783، وما كان أحد يستطيع ان يتوقع انها قادرة علي بسط نفوذها علي العالم الواسع. كما كانت الثورة الروسية البلشيفية لاتزال سرا في رحم الغيب، ولم يكن أحد يستطيع أن يتنبأ بها، ولا بما يمكن ان تسفر عنه من تطورات.
ورغم ذلك ظهر مفكرون عديدون غازلوا المستقبل، وحاولوا استشراف شكل العالم ومراكز قوته وضعفه، في القرون القادمة أو بالأحري التي كانت قادمة آنذاك، ولم يشذ عنهم جميعا إلا quot; أوغسطين كورنو quot;.
ففي عام 1790 كتب quot; ميلشور جرم quot; إلي الملكة كاترين الثانية : ثمة امبراطوريتان سوف تشتركان في كل ثمار المدنية، من قوة ونبوغ وفن وصناعة ووسائل وأسلحة، هما روسيا وأمريكا التي استقلت أخيرا. وبعد ثمانين عاما، أي في عام 1870، قدم quot; باخوفن quot; تصورا عاما في هذا الأتجاه، حين قال : لقد بدأت في الاعتقاد ان مؤرخ القرن العشرين سوف يكتب فقط عن أمريكا وروسيا.
وفي الفترة التي تخللت ما أشار إليه quot; جرم quot; و quot; باخوفن quot;، اختتم quot; توكفيل quot; المجلد الأول من كتابه quot; الديموقراطية في أمريكا quot; بقوله : quot; يوجد في العالم في وقتنا الحاضر دولتان عظيمتان بدأتا في من نقطتين مختلفتين، لكن يبدو أنهما تتجهان إلي غاية واحدة أو مطاف واحد، هما أمريكا وروسيا، فإن ما يجمعهما هو وجود رغبة قوية للسيطرة علي مقدرات نصف العالم.
هكذا تنبأ كل من quot; جرم quot; وquot; باخوفن quot; و quot; توكفيل quot; بإعادة توزيع مراكز القوي في العالم، خلال حقبة لم يكن فيها ما يوحي ببدء أفول نجم أوروبا التي كان لديها وتحت تصرفها وقتئذ الكثير من فائض رأس المال، وكانت قد انجزت بالفعل سيطرتها علي أفريقيا، ولقي علمها وتكنولوجيتها قبولا عاما.
غير انه في عام 1861 كان هناك فيلسوف واقتصادي أغفل التاريخ ذكره ما يقرب من القرن ونصف القرن هو quot; أوغسطين كورنو quot;، الذي قدم تقسيما مغايرا للعالم تسوده quot; الصين quot; في الشرق، وأمريكا في الغرب، وهذا التقسيم لم يكن تقسيما استراتيجيا أو اقتصاديا للقوي، بل أكثر من كل هذا، انه يستند إلي تاريخ المدنيات وفلسفة الحضارة، ومن هنا كان سابقا لعصره، وأقرب إلي عصرنا.
بني كورنو وجهة نظره علي ان quot; المدنية quot; كان لها منذ أقدم العصور مسرحان، أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، ففي العصر الذي ظهر فيه ( لاو ndash; تسي ) و ( كونفشيوس ) في الصين، ظهر ( طاليس ) و( فيثاغورس ) في اليونان. وبعد ذلك بخمسة قرون وجدت امبراطوريتان فسيحتان تأسس عليها حكم مطلق، في شرق وغرب العالم القديم، هما الامبراطورية الصينية في الشرق والرومانية في الغرب.
ويري كورنو ان من أهم التباينات والتناقضات بين الغرب والشرق ان مدنية الغرب يمكن تصورها كنسق متطور مفتوح، تقوم ميكانيزماته بطبع أية عناصر خارجية عنه بطابعه. أما النسق الشرقي فإنه يقاوم أي تأثير ويعلق ثقافته علي الموجود أو الوضع القائم.
هذا من جهة، من جهة أخري فإن كل النظم المتطورة التي خلفتها أثينا وروما لم تترك سوي القليل للانسان كإنسان، بينما كانت النظم الاجتماعية للصين تبني وتشق قيمها من تيسير شئون الحياة للكائن البشري.هكذا خالف كورنو معظم سابقيه ولاحقيه، من خلال تحليله لتاريخ المدنيات، ليس في نبوءاته بالنسبة للصين فحسب وإنما بالنسبة لروسيا أيضا.
فلم يتأثر مثلا بالجو المشحون بالصراع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم يندفع وراء هوجة الأفكار الاشتراكية المتصاعدة والمحتدمة آنذاك، ورغم ان ثورة اكتوبر عام 1917 في روسيا قد فوتت الفرصة علي نبوءته، فإن أفكاره لم تمت ولكنها عاشت في الظل طيلة هذه الفترة لتنهض كالأرواح المستحضرة اليوم، بقوة.
فقد تنبأ كورنو بأفول الامبراطورية الروسية سريعا، وحجته ndash; التي لم يتنبه إليها أحد ndash; ان هذه الامبراطورية تحوي مزيجا مختلطا من السمات الأسيوية والأوروبية ، ومن ثم فهي تتجه نحو النموذج الغربي وليس الشرقي.
والنموذج الغربي حسب كورنو يطبع كل شئ بطابعه، ويستوعبه بالكامل، حتي وان حمل بعض السمات الأسيوية ( الشرقية ). وهو ما يختلف جذريا في حال الصين، وتبرز خصوصية الصين ككتلة واحدة منسجمة تحمل سمات شرقية أصيلة، إذ تبني وتشتق قيمها وتقاليدها ونظمها من باطنها، فهي النموذج القائم بذاته في الشرق منذ الماضي السحيق.

أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه