في القلب من البادية المسماة بالعربية، تقف مصر فريدة وإن لم تعد متفردة، دون أن نعني نسبة التجانس لباقي مكونات تلك الرقعة، التي جمعتها الصدفة في تجاور جغرافي لا يعني شيئاً، ولا يشير لشيء، وإن نال كل منها نصيبه الخاص وربما المتفرد كماً وكيفاً، من مختلف صنوف الرياح التي ضربتها، شرقية كانت أم غربية.
تفرد مصر ليس ادعاء ثقافياً أو أيديولوجياً، إنما بالأساس تفرد موضوعي، لابد أن يترتب عليه بعد ذلك الكثير، هي شعب نهري يحترف الزراعة المروية، ما يجعل حياته تتأسس على عاملين أساسيين، أولهما الارتباط بالمكان، وهو ضفاف النهر بامتداداته المحدودة، والثاني حتمية التعاون لترويض النهر، تلافياً لنقمته واقتناصاً لبركته، وكلا الأمرين لا يمكن تحقيقهما إلا بالتعاون والتوافق الشامل بين كل من يرتبط مصيرهم بالنهر وواديه، فلم يكن أمام المصري إذن إذا أصر على البقاء إلا أن يتحلى بالتسامح بمعنى السماحية Tolerance، التي تقبل التعدد فلا يكون مبرراً أو جالباً لخصومة أو لد في العداء، كما قد تنحو شعوب أخرى رعوية بدوية ورحالة، حيث ثروتها منقولة ومحمولة، ويستوي لديها خيار الصلح والبقاء، مع خيار الخصام والرحيل، وقد لفت نظر المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي عدم تجانس العقائد المصرية القديمة إلى حد التناقض، فنجده في كتابه الإنسان وأمنا الأرض يتساءل متعجباً مستنكراً quot;كيف تسنى لشعب ذكي تحمل كل هذا التناقض؟!quot;، والسر في دهشة توينبي أنه نظر إلى الأمر بصورة منطقية وفكرية محضة، لكن المسألة ليست كما بدت له، مجرد أفكار وأساطير متناقضة متجاورة دون مبرر، ويقتضي الاتساق المنطقي تصنيفها وغربلتها، لتصاغ في وحدانية مقحمة واستئصالية، وهو ما حاوله إخناتون في مرحلة لاحقة، ففشل فيه فشلاً ذريعاً، ولم يرجع فشله إلى سبب فكري أو عقائدي، بقدر ما كان انعكاساً لتناقض نهج إخناتون مع طبيعة المكان وساكنيه، والذي يحتم التآلف بين مختلف المكونات، ولا يحتمل الاستبعاد والاستئصال، الذي سيكون بمثابة حكم مزدوج بالإعدام، على الراحل والباقي، فكلاهما سيعجز وحده عن تدبير ما يتحتم عليه تدبيره، كان تجاور المعتقدات المتناقضة إذن حتمياً، بنفس قدر حتمية احتلال معتنقيها لنفس المساحة من الوادي والنهر.
تلك هي قاعدة التسامح المصري الأساسية والموضوعية، والتي لا ينتقص من صرامتها استثناءات في عصور الاضمحلال والاضطرابات، كذا عصور التحولات الكبرى، كعصر دخول المسيحية، وما صاحبها من عنف مع الديانات القديمة، وعنف إبان تشكل العقيدة المسيحية ذاتها، كذا عصر دخول الإسلام والقبائل العربية الوافدة معه، وما صاحب ذلك من عنف، لكن كل ذلك لا يتعدى أن يكون الاستثناء الذي يؤكد قاعدة التوافق والتسامح، والتي مازال البعض مرتكناً إليها، وكأنها صخرة نارية تستعصي على النحر والبري والتآكل عبر العصور.
لسنا ضد التفاؤل بقدرة مصر على صد هجمة التعصب والكراهية الوهابية، التي تطرق أبوابها بعنف منذ أكثر من ربع قرن، ولسنا ضد الاستناد إلى ميراث التسامح المصري، فالقدر المتبقي منه رغم كل ما حدث في الحقبتين الساداتية والمباركية، يبقى جديراً بالاعتبار، ويشكل وزناً أساسياً في معادلات المستقبل، لكن ما هو جدير بإعادة النظر والتقييم، ليس فقط حجم ما تآكل من صخرة التسامح المصرية بتأثير عوامل النحر الوهابي، المحمول منذ ما بعد 1973 على فيض من البترودولار، الذي تعاظمت وفوراته بعد الارتفاع الفلكي لأسعار البترول، نتيجة للضغوط الاحتكارية التي تمت بدعاوى استخدامه كسلاح لمناصرة القضية العربية، لتكون النتيجة العملية لتلك الوفورات خروج حملات الغزو الوهابي، لتقتحم وتهدم كل مشاريع الحداثة في المنطقة.
تطيب تلك الفقرة الأخيرة لدعاة الحداثة والتسامح المصريين، بل ولا يملون من ترديدها، ربما جرياً على النهج المصري والشرقي الأصيل، في إسناد كل فشلنا ومآسينا لمؤثر خارجي، ولا نكلف أنفسنا عناء النظر إلى الداخل، على الأقل لنرى لماذا لم يقو على ممانعة الرياح الصفراء!!
ما انطلقنا منه في البداية من تعريف للشعب المصري كشعب نهر وزراعة مروية، وخرجنا منه بتأصيل موضوعي للتسامح، إلى أي مدى ينطبق هذا التعريف على الشعب المصري مع بداية الألفية الثالثة؟
واضح أن أي تغير في هذا التعريف لابد ويترتب عليه تغير مناظر في شروط وطبيعة العلاقات بين الشعب المصري، ورغم أن التغير في حياة الشعوب يكون غالباً متدرجاً وغير ملحوظ، إلا أن هذا لا يمنع أن نجد لأنفسنا نقاطاً مفصلية افتراضية، تعيننا على الخروج بفهم عام للمسيرة، وبدرجة لا بأس بها من الدقة، ويمكن في بحثنا هذا أن نرصد ثلاث مراحل، الأولى مع بدايات القرن التاسع عشر وعهد محمد علي، والثانية مع بدايات القرن العشرين ونهاية الحرب العالمية الأولى، والأخيرة ما بعد منتصف القرن العشرين وانقلاب يوليو 1952، هذه المراحل الثلاث كانت مراحل تحول لتوصيف مصر كمجرد أمة نهر وواديه، ومن الطبيعي أن نجد عوامل التغيير في البداية ضعيفة ومحدودة، لتتصاعد قوتها ويتضاعف تأثيرها مع تتالي المراحل في ذات الاتجاه.
عرف الفلاح المصري الغربة والتدريب العسكري والقتال مع مشروع محمد على العسكري، وهو من لم يسبق له التعرف على غير الزراعة، ملازم لأرضه، قائلاً في أمثاله الشعبية: quot;من خرج من داره قل مقدارهquot;، كما عرف لو بقدر محدود العمل بالمصانع التي أنشأها محمد على لتزويد جيشه باحتياجاته، وعرف السخرة لحفر قناة السويس في عهد إسماعيل، والعمل الشاق المتواصل، المختلف تماماً عن العمل الموسمي بالزراعة بطريقة ري الحياض، وصدح بالأنين: quot;يا عزيز عيني وأنا بدِّي أروَّح بلدي.. بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي!!quot;.
مع المرحلة الثانية في بداية القرن العشرين والحرب العالمية الأولى جاءت حركة التصنيع المصري بريادة طلعت حرب، ليعرف عدد أكبر من الفلاحين العمل في المصانع، ويتعرفون معه على الاستقلال عن الأسرة، والحياة الفردية بالمدن أو على هوامشها، وكان الجديد الجوهري هو أن يتمكن الفلاح العامل في المصنع من كسب قوته منفرداً، دون الاضطرار إلى المشاركة مع الآخرين، كما في العمل الزراعي الذي وحدته الأساسية الأسرة وليس الفرد، وكان هذا يعني الانفتاح على قيم جديدة يتسع لها المجال كإمكانية، وإن لم نستطع القول بأن التسامح هنا صار مجرد خيار وليس حتمية، فإننا نستطيع أن نجزم بأن القاعدة الموضوعية القديمة للتسامح المصري العتيد كانت قد بدأت تهتز وتتخلخل بتغير الظروف المعيشية وطبيعة الإنتاج ووسائله، ونسجل هنا في منتصف تلك الفترة ظهور جماعة الإخوان المسلمين بأيديولوجية الخصام والكراهية، مستندة للطبقة الوسطى الناشئة، وذخيرة الأفراد المهمشين والزائدين عن الحاجة في المدن الآخذة في النمو، ليكونوا طلائعها بعد ذلك لغزو قلب الريف ذاته.
المرحلة الثالثة والأخيرة من بداية منتصف القرن الماضي تميزت بتفجر الزيادة السكانية، والتضخم الهائل والعشوائي للمدن، وتعاظم العناصر التي بدأت واهنة في المرحلتين السابقتين، فقد نمت المصانع وتضاعف عدد العاملين بها مرات ومرات، ودخل فيها الفلاح المسالم عدة حروب من عام 1948 إلى عام 1973، وترك أرضه التي ضاقت به، ليأتي بمفرده بثروات لم يحلم بها من بلاد النفط، ليعود حاملاً أحدث الأجهزة الكهربائية، وليقوم بتجريف أرضه وزرعها بالهياكل الخرسانية.. تغيير كيفي تراكمي هائل في طبيعة الحياة المصرية، وفي علاقات الإنسان المصري بمحيطه الحيوي بمكوناته الطبيعية والبشرية.
كان من الممكن أن يأخذ هذا التحول منحى إيجابياً باتجاه الحداثة، لكن استهدافه من قبل الوهابية المدعومة بالبترودولار، وتحطم مشروع العسكرتاريا اليولوية التحديثي المظهر، أدى إلى ما وصلنا إليه، من تصدع الأسس الموضوعية والثقافية للتسامح المصري العريق، لتمهد الشعب المصري لقبول الأفكار المتعصبة الوافدة، بل والقيام بدور الحاضنة ثم المصدر لها، وقد تحولت عوامل المناعة في معظمها إلى عوامل خنوع واستسلام، بل وعوامل ترجيح وانتشار.
ينبغي أن نضع في الاعتبار أيضاً أن خروج ملايين المصريين في نفس تلك الفترة للعمل والإقامة المؤقتة بخارج البلاد قد أضعف الشعور الوطني، فارتباط الإنسان بالوطن لا يتأتى بموجب مقولات نظرية، بقدر ما هو نتيجة لارتباط حياتي بالوطن وأهله، فيما الخلاص الفردي بالهجرة المؤقتة قد يولد لدى الفرد شعوراً بالضياع، أو بالانتماء إلى المجتمعات التي هاجر إليها وقيمها، هكذا عاد المهاجرون لبلاد النفط بفيروسات الكراهية والتعصب، في حين أن المهاجرون إلى الغرب مثل القليلون منهم قنوات للانفتاح على العالم والحداثة، أما الغالبية فقد عجزت عن التأقلم مع بيئاتها الجديدة والغريبة، فاختارت إما الحياة في جيتوهات خاصة، وكأنها لم تغادر بلادها، وإما كانت صدمة الحضارة عليها أقوى مما تحتملها، فولدت دفاعاتها السيكولوجية المضادة نوازع كراهية وعداء وتعصب، صدرتها إلى مصر مع ما تصدر من دولارات!!
بالطبع لا نريد أن نقول أن تصدع التسامح المصري كان وراءه الانتقال من مجتمع الزراعة إلى مجتمع الصناعة، لكننا نقول بأن التسامح الذي تأسس على طبيعة مجتمع الزراعة المصري قد تداعى مع ما حدث من تحولات، ثم فشلنا في اكتساب قيم المجتمعات الصناعية، كما فشلنا في تأسيس صناعة حقيقية قادرة على البقاء، ثم تزامن مع هذا الفشل أو ساهم فيه الهجمة الضارية للفكر الوهابي.
الوضع إذن في مصر لا يحتمل الاسترخاء اعتماداً على ميراث التسامح المصري المزعوم، فالتسامح في مصر يتصدع، ومصر بكل مؤسساتها وبنيانها الاجتماعي تتصدع، لكننا فيما أظن لم نصل بعد إلى اليأس التام أو نقطة اللاعودة، لكنها غير بعيدة منا، إنها هناك على مرمى النظر!!
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه