لا يبدو للجدل الدائر بمصر وتتردد أصداؤه في العالم، حول ما يسمى اختطاف وأسلمة الفتيات القبطيات من نهاية، على الأقل في المستقبل المنظور، إذ يبدو أن جميع الفرقاء أطراف الجدل، والذين يبدو أنهم مختلفون متخاصمون على كل الأصعدة، قد اتفقوا فيما بينهم على عدة أمور، أولها تغييب العقل والاعتماد الكامل على العاطفة العنصرية الملتهبة، ثانيها عدم السعي الجدي للعثور على حلول للإشكاليات، بقدر السعي الحثيث إلى التصادم والتناطح بين القبيلتين البدائيتين المصريتين، القبيلة المسيحية والقبيلة المسلمة، متجاهلين كل ميراث التعايش والتوافق الذي ساد الحياة المصرية المشتركة لقرون طويلة، حتى بدايات عهد انقلاب يوليو غير المبارك، حين بدأ تدمير الإنسان المصري، ومعه سائر منجزاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليدخل مرحلة يمكن توصيفها بمرحلة الصدام، الصدام داخل المجتمع المصري بين الفقراء والأغنياء، وكأنهم نقيضان لا يجتمعان ولو على حد أدنى من المصالح المشتركة، وصدام بين أصحاب الحظوة من العسكريين وأذيالهم، مع سواد الشعب المصري من المهمشين والمطحونين والمتغربين في عقر دارهم، وصدام مع العالم بدءاً مما أطلقنا عليه الكيان الصهيوني، حتى كل قوى الحضارة والتقدم في عالمنا، ولتدخل مصر تدريجياً منذ المرحلة الساداتية وحتى الآن، مرحلة الصدام بين المكونات المصرية الدينية، منذ أن أطلق السادات مارد الإخوان من القمقم، وزرعه في الهيكل الإداري للدولة، وسلمه المجتمع المدني هدية مقبولة لا ترد، ليدخل به صداماً مع نمر من قش وكرتون، هو التنظيمات الناصرية، التي لو صبر عليها سويعات لتساقطت من تلقاء ذاتها، تحت تأثير عوامل التفتت والاضمحلال في صلب بنيتها، لتكون النتيجة توجه الإخوان للصدام مع نظام الحكم وقائده، اللذين أعادا حقنهم بإكسير الحياة، وليصطنعوا صراعاً مجتمعياً مفارقاً لواقع البؤس المادي والحياتي المصري، ليوجهوا نوازعهم الاستئصالية نحو مواطنيهم الأقباط، مشعلين نيران الكراهية والصدام بمعدل تسارع متفاقم، لا يجد حتى الآن من يتصدى له جدياً، وإنما يتزايد مع الوقت أعداد المنخرطين في الصدام، سواء على مستوى إنتاج الخطاب العدائي، الذي تجاوز حدود مصر المحلية، لتتردد أصداؤه ونيرانه على مستوى العالم، في عصر العولمة وثورة الاتصالات، أو على مستوى الصدامات المسماة بالطائفية، والتي تزهق فيها الأرواح وتحرق البيوت والكنائس.
ورغم أنه يبدو أن لا أحد في مصر راغب في الاستماع إلى حديث العقل، حيث استمرأ الجميع العاطفة وثقافة الصدام، وأنه قد سبق لي في مقالات عديدة أن حاولت تناول الموضوع الأكثر حساسية والأكثر بروزاً في الصدام المتنامي بين مكوني الأمة المصرية المسلمين والمسيحيين، وهو ما أطلق عليه اختطاف وأسلمة الفتيات المسيحيات، جاهداً أن ألتزم في مقاربتي العقلانية والموضوعية، بقدر ما يتيسر لي من امتلاك مقوماتها، إلا أن استمرار الخلط والاختلاط لدى جميع الأطراف، يدفعني لإعادة عرض الأمر، وفق ما أزعم أنه رؤية موضوعية، قد تساعد من يريد العمل على إنهاء تلك المهزلة المصرية:
1- لا أعتقد أن الحوادث الجارية محل البلاغات الرسمية المقدمة والتظاهرات الجماهيرية المسيحية، والتي تتداولها وسائل الإعلام المصرية والعالمية، وتعلو فيها أصوات أقباط المهجر -ممن غادروا وطنهم وفي روح أغلبهم جروح وندبات، من ضيق العيش وتضييقه- مما يصح توصيفه أو مقاربته باعتباره quot;عملية اختطاف للفتيات المسيحيات لأسلمتهنquot; بأي حال.
2- يقول الواقع المجرد أن هناك حالات غرام بين فتيات مسيحيات وشباب مسلم، والعكس موجود لكنه مستتر، حيث لا قبل للعشاق الصغار بمواجهة ثقافة تعتبر التحول من المسيحية إلى الإسلام هداية تستدعي التهنئة، فيما التحول من الإسلام للمسيحية ردة تستوجب إقامة حد القتل بالسيف، كما يفتينا الآن بعض ممن نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الإله، لكن الحد الأدنى من الإقرار بحقوق الإنسان يعتبر هذه الظاهرة الاجتماعية أمراً يخص هؤلاء الشباب فقط إذا كان المجتمع حراً، ويخص الأسرة فقط في مجتمع شرقي محافظ، لكنه لا يمكن أن يخص الطائفة الدينية أو يخص الدولة بأي حال.
3- لو كنت أنا مكان أحد هؤلاء الآباء الذين ذهبت بناتهم خلف شباب من دين آخر، كنت سأتحمل مسئوليتي الشخصية إزاء فشلي في رعاية ابنتي وتربيتها تربية اجتماعية ودينية سليمة، خاصة وأن هؤلاء الفتيات جميعاً قد هربن مع شباب دونهن في المستوى الاجتماعي والتعليمي، بل وبوضوح شباب من قاع المجتمع، بما يشكل في حد ذاته مشكلة اجتماعية، حتى في حالة كون الطرفين على نفس الديانة من الأساس، ولم أكن لألجأ لتصدير تقصيري وفشلي الشخصي إلى المجتمع والطائفة، فهذا النهج فيه جبن وخسة، أن يهمل الآباء رعاية أبنائهم وبناتهم، ثم يتهربون من مسئولية أعمالهم بالكذب والتضليل، مستغلين طيبة وسذاجة البعض، وحماسة البعض الآخر اللاعقلانية.
4- عندما تكون الفتاة قاصراً، فإننا نكون بإزاء جريمة يعاقب عليها القانون، بغض النظر عن اختلاف الدين، وبمنأى عن ادعاءات الاختطاف والأسلمة، فالمعاشرة الجنسية أو الزواج من القاصر جريمة يستحق مرتكبها أشد العقاب، وتغيير دينها رسمياً يستدعي محاكمة الأجهزة الرسمية قانونياً، ومحاكمة الوزير التابعة له سياسياً، وهو ما لا يتيسر بالطبع في ظل نظام حكم أهم ما يتسم به التسيب والترهل، ناهيك عن التعصب المتغلغل.
5- يدلنا استقراء الواقع أيضاً أن هناك هيئات أهمها جماعة الإخوان المسلمين وجمعيات دينية رسمية تمول من أموال دافعي الضرائب مسلمين ومسيحيين، توفر الدعم المادي والتحريض والتشجيع والحماية لمثل هذه الحالات، وهذه يجب أن يكون للدولة موقفاً صارماً وقانونياً منها، لأنها مثل فيروسات فتاكة في جسد المجتمع.
6- هنالك تقصير أمني في حالة الفتيات القاصرات، وقد يكون مرجعه عدم كفاءة وإهمال الأجهزة الأمنية، وكلنا نعرف عنها ذلك في شتى المجالات، خلا مجال حماية نظام الحكم، وقد يرجع بعض هذا إلى تواطؤ بعض من أفراد الأجهزة الأمنية، نتيجة لاختراقها من قبل تيارات التطرف والتعصب، وغياب المحاسبة الحاسمة من قبل رئاسات تلك الأجهزة، في حالة ثبوت مثل ذلك التواطؤ.
7- تراخي الدولة في وضع الأمور في نصابها جريمة في حق الوطن، سواء رجع هذا التراخي إلى ضعف الحكام، وتركيزهم على حماية كراسيهم أولاً وأخيراً، أو إلى أن رموز النظام أنفسهم يحسب الكثيرون منهم على تيار التعصب والأصولية المستترة خلف قشرة رقيقة من ادعاءات الحياد والحرص على صالح الوطن، أو إلى اعتناق النظام لنهج المزايدة على تيارات التأسلم المتعصبة، سعياً لاستقطاب جماهيرية مفتقدة لنظام الحكم المتوارث للعسكريين منذ يوليو المشئوم.
8- لجوء الكثير من الأقباط للكذب والتضليل والادعاء بعمليات خطف وأسلمة، هو أيضاً جريمة في حق الوطن، ويصيب بأبلغ الضرر قضايا الأقباط العادلة، حيث يتسبب هذا النهج من بعض الأقباط في فقدانهم لتعاطف السواد الأعظم من إخوانهم المواطنين المسلمين المسالمين، والذين ينفرهم التحامل الظالم والادعاءات الكاذبة، في حين أن كسب تأييد وتعاطف هؤلاء هو العامل الأهم وربما الوحيد لترجيح كفة التسامح والليبرالية والعدالة، إذا كان لهذه القيم أن تنتصر في مصر يوماً ما.
9- لو كنا جميعاً مسلمين ومسيحيين مؤمنين بالله حقاً وليس ادعاء، لوضعنا الأمور في نصابها كل من جانبه، لكن ما يحدث بمصر الآن يؤكد انعدام العقل وانعدام الإيمان معاً، عند جميع المشاركين في هذه المهزلة، حيث لا أحد يسعى لإنهاء الصدام، بل إعادة إنتاجه، في دائرة جهنمية، تبدو حتى الآن بلا نهاية.
ليس هدف تلك السطور مجرد محاولة فك الاشتباك والاختلاط في ذلك الموضوع رغم خطورته، لكنها بالأساس دعوة للخروج من أسر ثقافة الصدام، دعوة للجماهير ومؤسسات الدولة المدنية بالدرجة الأولى، مادامت أجهزة الدولة الرسمية مصرة على عدم القيام بمسئوليتها في هذا الأمر الخطير، بقدر ذات الإصرار عن عدم أداء واجباتها تجاه الأمة المصرية في أغلب جوانب حياتها، إذ ربما يرفل حكامنا سعادة، في ظل السلام والأمن الذي توفره لهم ما ترتب على حكمهم السعيد لمصر من فوضى غير خلاقة، ريثما يتمكنون من تحويل نظام الحكم من توارث العسكريتاريا، إلى جمهورية ملكية صريحة!!
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه