منهج القرآن الكريم في التأريخ:

ما هو التاريخ (2 / 3) : لا توجد حقائق تاريخية دون تأويلات

التاريخ كلمة تختزل باستدارة حروفها حكاية الوجود كله

لقد حفل القرآن الكريم بالكثير من الوقائع التاريخية التي تناولت حياة العديد من الشخصيات والأمم الغابرة، المؤمنة منها والكافرة، ويشكل التاريخ محوراً أساسياً في الكثير من سور القرآن الكريم، وذلك لأن التاريخ بمنظور القرآن الكريم هو المختبر الحقيقي لصواب الفعل البشري، فمن أراد أن يتجنب أخطاء الماضي فليعد إلى صفحات التاريخ، ومن أراد أن يتعلم سنن النهوض الحضاري فليعد إلى سجلات التاريخ، وهذا ما يوحي به قوله تعالى: ((قُلْ سيروا في الأرضِ فانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الذينَ مِنْ قَبْلُ)) سورة الروم 42.
فالقرآن الكريم يعد التاريخ مرجعية للتصويب الحضاري، وما من شك بأن هذه المرجعية لا يمكن أن تفيدنا إلا إذا تعاملنا معها تعاملاً موضوعياً صحيحاً، ولهذا يسلك بنا القرآن الكريم طريقة تأريخية موضوعية فريدة، فهو أولاً ـ وقبل كل شيء ـ يدعونا للنزاهة والحياد والإنصاف في تقييم الآخرين، وتسجيل مواقفهم كما وقعت فعلاً، مهما كانت مواقفنا منهم، أو مواقفهم منا، ومن ذلك مثلاً قوله تعالى: ((يا أيُّها الذينَ آمَنُوا كُونُوا قوَّامينَ للهِ شُهَداءَ بالقِسْطِ، ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ على ألا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ للتَّقْوى، واتَّقُوا اللهَ، إنَّ اللهَ خبيرٌ بما تَعْمَلُون)) سورة المائدة 8.
ويحذرنا القرآن الكريم كذلك من الظنِّ والوَهْم والهوى وكل ما من شأنه أن ينأى بنا عن رؤية الواقع على حقيقته، فيقول تعالى: ((وما يَتَّبعُ أكثرُهم إلا ظَنَّاً، إنَّ الظَّنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً، إنَّ اللهَ عليمٌ بما يَفْعَلُونَ)) سورة يونس 36، فالقرآن الكريم يريد منا أن نقرأ التاريخ كما جرى فعلاً، لا كما نتمنى لو أنه جرى، وهذه مسألة حساسة تستحق منا الكثير من التأمل، لأننا حين نقرأ التاريخ كما جرى فعلاً فإننا نستطيع استنباط السنن التي تحكم مسيرة التاريخ، وبهذا نكتسب المزيد من القدرة على توجيه الأحداث القادمة وفق أهدافنا، أما حين نقرأ التاريخ كما نتمنى لو أنه جرى فإن الفائدة الوحيدة التي نجنيها من هذه القراءة الموهومة أنها تجعلنا نحقد على التاريخ لأنه لم يجر كما نريد!
ومن سمات المنهج القرآني في التأريخ أيضاً أنه لا يكتفي بالتوجيهات النظرية التي تحذِّر من علل التأريخ، بل يقدِّم لنا من خلال قصصه المختلفة شواهد واقعية على منهجه الفريد بالتزام الموضوعية، فنراه يصوِّر لحظات الضعف البشري التي انتابت بعض الأنبياء عليهم السلام في مناسبات عديدة، وذلك حرصاً من القرآن الكريم على تقديم الوقائع كما جرت فعلاً، حتى وإن كانت تتعلق بأفضل الخلق، وبهذا المنهج الإلهي الفريد قدَّم لنا القرآنُ الكريمُ المثلَ الأعلى في الموضوعية التاريخية.
ومن الأمثلة على هذا المنهج القرآني الفريد بالتزام الموضوعية تلك الآيات التي تضمنت العتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض تصرفاته، مثل تصرفه مع مولاه زيد الذي كان يرغب بتطليق زوجته بينما ظل النبي يمنعه ويخفي عنه الأمر الإلهي بأن يطلقها منه ويتزوجها هو: ((وإذ تقولُ للذي أَنعَمَ اللهُ عليهِ وأنعمتَ عليهِ أمْسِكْ عليكَ زوجَكَ واتَّقِ اللهَ وتُخفي في نفسكَ ما اللهُ مُبْديهِ وتخشى الناسَ واللهُ أحَقُّ أن تخشاه)) سورة الأحزاب 37، ومن الأمثلة أيضاً عتاب القرآن الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم لقبوله الفداء في أسرى بدر: ((ما كانَ لنبيٍّ أن يكونَ لهُ أسْرى حتى يُثْخِنَ في الأرضِ ، تُريدُونَ عَرَضَ الدُّنيا واللهُ يُريدُ الآخِرَةَ، واللهُ عزيزٌ حكيمٌ)) سورة الأنفال 67، ومنها أيضاً عتابه للنبي صلى الله عليه وسلم بشأن الصحابي الأعمى الذي جاء يسأله عن الإسلام، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم لانشغاله بدعوة زعماء قريش الكبار، فنزل فيه قوله تعالى: ((عَبَسَ وتولَّى 0 أنْ جاءَهُ الأعمى 0 وما يُدريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى 0 أو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى 0 أمَّا من استغنى فأنتَ لهُ تَصَدَّى 0 وما عليكَ ألا يَزَّكَّى 0 وأمَّا من جاءَكَ يَسْعى 0 وهو يخشى 0 فأنتَ عنه تَلَهَّى 0 كلا إنَّها تَذكرة)) سورة عبس 1 ـ 11، والشواهد في القرآن الكريم على هذا المنهج الفريد في تأريخ الأحداث تأريخاً أميناً كثيرة جداً.
ومن الملاحظات الجديرة بالملاحظة أيضاً حول طريقة القرآن الكريم في التأريخ أنه عندما يروي واقعة تاريخية ما فإنه لا يحفل كثيراً بذكر التفاصيل التي قد تشوش الرؤية، بل يكتفي بذكر ما يخدم باستنباط سنن التاريخ، ويعطي العبرة، فهو في الغالب لا يذكر تاريخ الواقعة، ولا اسم المكان الذي وقعت فيه، ولا يصرح بالأسماء الصريحة للأشخاص الذين شاركوا فيها، بل يركِّز على ذكر الخطوط العريضة للواقعة حتى يصوغها في النهاية على شكل معادلة رياضية تصلح للتطبيق على الوقائع المماثلة، في أي زمان وأي مكان، وبهذا المنهج القرآني الدقيق تغدو عملية (التأريخ) علماً كالرياضيات والكيمياء والفيزياء، لأنها تقدم لنا التاريخ بصورة قوانين قابلة للتطبيق، وبهذا نكتسب القدرة على تسخير الأحداث وتوجيهها على النحو الذي نريد، ويكسبنا كذلك القدرة على صناعة المستقبل الذي نريد.
ومن الأمثلة على هذا المنهج الفريد في التأريخ حديثُ القرآن الكريم عن أصحاب الكهف، فمن هم أولئك الفتية؟ ومتى وقعت قصتهم؟ وأين يقع الكهف الذي آواهم؟ وكم كان عددهم؟ ومن هو الملك الظالم الذي فروا بدينهم منه؟ إن هذه الأسئلة وأمثالها لا يتوقف القرآن الكريم عندها بل يمضي لبيان العبرة من القصة دون أن يحفل بالتفاصيل التي لا تقدم ولا تؤخر.
ومن الأمثلة على هذا المنهج الفريد أيضاً حديث القرآن الكريم عن ((الذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خاويةٌ على عُرُوشِها 0 قالَ أنَّى يُحْيي هذهِ اللهُ بعدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللهُ مائةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ..)) سورة البقرة 259، فمن هو الذي مر؟ وما اسم القرية التي مرَّ عليها؟ ومتى كان مروره؟ إن هذه التفاصيل وأمثالها لا يحفل القرآن الكريم بها، بل يتوجه لذكر الخطوط الرئيسية للواقعة من أجل إظهار السنن الإلهية التي تحكمها، والعبرة التي ترمي إليها.
ومن خلال هذه الأمثلة وغيرها يظهر لنا الفارق الأهم ما بين المنهج القرآني في التأريخ ومنهج المؤرخين الذين يكتفون عادة بسرد الوقائع، ويسهبون في ذكر التفاصيل، ولا يحفلون من قريب ولا من بعيد ببيان السنن الإلهية التي تحكم مسيرة الأحداث، وبهذا يضيع على قارئ التاريخ الغاية الأهم التي يفترض أن يجنيها من مطالعة كتب التاريخ.
ومن الملاحظات الجديرة بالتوقف عندها ملياً ـ ونحن نستعرض الطريقة الفريدة التي ينتهجها القرآن الكريم في التأريخ ـ أنه لا يكتفي بذكر الوقائع مجردة عن الظلال الموحية التي تتعلق بها، بل يستهلُّ السرد بافتتاحية يمهد فيها للحديث عن الواقعة، ثم (يرسم الحركة التي وقعت بكل تفاصيلها، ويرسم معها المشاعر الظاهرة والباطنة، ويسلِّط عليها الأضواء التي تكشف زواياها وخباياها، ثم يقول للمؤمنين حُكْمَه على ما وقع، ونقده لما فيه من خطأ وانحراف، وثناءه على ما فيه من صواب واستقامة، وتوجيهه لتدارك الخطأ والانحراف، وتنمية الصواب والاستقامة، وربط هذا كله بقَدَر الله وإرادته وعلمه ونهجه المستقيم، وبفطرة النفس، ونواميس الوجود) .
وذلك لأن التاريخ بمنظور القرآن الكريم ليس مجرد أقاصيص تحكى للتسلية وتزجية الوقت، ولا هو مجرد تسجيل للوقائع والأحداث، وإنما هو وجبة تربوية دسمة نتلقاها للدراسة والعبرة ((لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِم عبرةٌ لأُولي الألْبابِ)) سورة يوسف 111، ((فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ)) سورة الأعراف 176، وقد تنبهت أمم الأرض إلى هذه السمة في التاريخ فأصبحت تعد دراسة التاريخ من دروس التربية للأمة، فنجدها تصوغه بحيث يؤدي مهمة تربوية في حياتها .
وأخذ العبرة من التاريخ، وتوظيفه في تربية الأمة، لا يعني أبداً تزييف تاريخ الأمة وتقديمه في غير صورته الحقيقية، أو الاكتفاء منه بالصور الوضيئة التي تخدِّر أعصابنا وتخيِّل لنا أننا بخير، وأننا خير أمة على وجه الأرض، لمجرد أن في تاريخنا بعض النقاط المضيئة، لأن هذه التصرف بالتاريخ، وهذا الاصطفاء للأحداث والوقائع، سوف يعوقان الأمة عن تسطير تاريخ جديد يسمو بها إلى الآفاق البعيدة التي ترنو إليها، ومن أجمل ما قرأت في هذا السياق كلمات للشاعر المعروف (نزار قباني) التي سطرها في سيرته الذاتية، يقول فيها: (إنني أحترم التاريخ حين يكون شرارة تضيء المستقبل، ولكنني أرفضه بعنف حين يتحول إلى نصب تذكاري، أو إلى برشامة كتب على غلافها الخارجي: ليس في الإمكان أبدع مما كان) .
من هنا تبدو بجلاء أهمية الالتزام بالموضوعية والحياد والدقة في عملية التأريخ، على النحو الذي علمنا إياه القرآن الكريم، وبهذا يمكن أن نجني من قراءة التاريخ فائدتين ثمينتين:
bull;الفائدة الأولى: فهم السنن التي تحكم مسيرة التاريخ.
bull;الفائدة الثانية: اكتساب القدرة على التعامل مع الأحداث تعاملاً إيجابياً مثمراً.
وقد حاولت جهدي في الفصول القادمة من هذا الكتاب أن أستلهم طريقة القرآن الكريم في التأريخ، لعلِّي أستطيع تقديم قراءة لتاريخ الوجود تقترب من الموضوعية قدر المستطاع، وتبرز أهم السنن الإلهية التي تحكم مسيرة هذا الوجود، راجياً أن أكون قد وفقت بهذه القراءة، مؤكداً من جديد أن الهدف الأخير من هذا الكتاب ليس تكرار الحديث عما وقع عبر التاريخ من أحداث، ولا إضافة معلومات تاريخية جديدة إلى سجلات التاريخ، بل هدفي الأساسي من هذا الكتاب أن أقدم صورة شاملة (Panorama) لمسيرة التاريخ، لعلنا نتعلم منها التفكير بشكل تاريخي صحيح، ونكتسب القدرة على التعامل الإيجابي مع الأحداث والمستجدات، ونساهم ببناء مستقبل أفضل للبشرية.. فإن الهدف الأخير من قراءتنا للتاريخ ليس استحضار الماضي، بل استجلاء كيفية أدائه في الحاضر، وبهذا تغدو قراءتنا للتاريخ دعوة لاستخدام مخزون الذاكرة من أجل رؤية مستقبلية أفضل.

التاريخ والزمن:
من الوجهة الزمنية يمكن أن نقسم التاريخ إلى مراحل ثلاث: ماض، وحاضر، ومستقبل، وهذا التقسيم هو في الواقع تقسيم خادع إلى حد بعيد (وتنشأ الصورة الخادعة من أننا نعيش في الحاضر، والحقيقة هي أن الحاضر لا وجود له، ففي اللحظة التي تفرغ فيها من قراءة هذه الجملة تشعر بأن ما كنت تعتبره حاضراً قد أصبح جزءاً من الماضي، وأن المستقبل أصبح حاضراً، وأنه لن يلبث هو الآخر أن يصبح جزءاً من الماضي) .
وهذا يعني أن مراحل التاريخ الزمنية ليست سوى سلسلة متصلة يتداخل فيها الماضي بالحاضر بالمستقبل على نحو يتعذر فيه الفصل ما بين هذه الأزمنة.
إلا أننا بالرغم من هذه الحقيقة نجد أنفسنا مضطرين للأخذ بالتقسيم ما بين الماضي والحاضر والمستقبل من قبيل التبسيط، وتسهيلاً على الدارسين للتاريخ الذين يتفاوت اهتمامهم بمراحل التاريخ وفقاً للغايات التي يأمل كل منهم تحقيقها:
bull;فالمؤرخون يهتمون بالماضي أكثر من اهتمامهم بالحاضر والمستقبل، وكم يسعد المؤرخ أن يحول الماضي ـ بما فيه من شخصيات وأحداث وأمكنة وأزمنة ـ إلى كتب ومجلدات أنيقة لتحتل مكانها اللائق على الرفوف.
bull;أما السياسيون فإن الحاضر يبقى هو شغلهم الشاغل، لأنهم لا يؤمنون إلا باللحظة الراهنة وما يجب أن يفعلوه (الآن) لكي يبقوا على رأس السلطة.
bull;وأما الأثرياء والمستثمرون ورجال الأعمال وأصحاب الشركات الكبرى فإنهم مع اهتمامهم الكبير بالحاضر الذي يشكل سوقهم اليومية، فإنهم لا يغفلون المستقبل تحسباً من أن يباغتهم ببعض المفاجآت فيقلب مشاريعهم رأساً على عقب.
وهكذا يبدو التفاوت واضحاً بين اهتمام فئة من الناس بالتاريخ واهتمام الفئات الأخرى، تبعاً لمصالح كل منهم، ويبدو لي أن هذا التفاوت يعبر عن نوع من قصر النظر الذي يطبع السلوك البشري عامة بطابعه، هذا السلوك الذي يركز الاهتمام على (فترة) معينة من التاريخ ويذهَل عن علاقتها بالفترات السابقة والفترات اللاحقة.
ومن هنا ندرك عظمة القرآن الكريم الذي لم يتوقف عند سرد وقائع الماضي وحده، ولم يقتصر على معالجة الحاضر فحسب، بل خصَّص إلى جانب ذلك مساحات واسعة للحديث عن مستقبل هذا الوجود وما سوف يجري فيه من أحداث، وذلك لوضع البشر في إطار الصورة الشاملة لمسيرة الوجود، وحضهم على الاستفادة من دروس الماضي، لتجنب أخطاء الحاضر، والتخطيط الصحيح للمستقبل الذي لا ينتهي بانتهاء هذا الدنيا بل يمتد ليتواصل مع الحياة الآخرة التي ستفضي بنا إلى الخلود في إحدى الدارين، الجنة أو النار.
ومما تجدر ملاحظته هنا أن النصوص التي وردت في القرآن الكريم عن مستقبل هذا الوجود جاءت بصيغ عامة غير صريحة الدلالة، فنهاية هذا الوجود كما تصورها النصوص غير معلومة الزمان ولا معلومة الكيفية، كما أن العلامات الصغرى والعلامات الكبرى التي تسبق تلك النهاية أو تنذر بها (النار، الدابة، الدجال، طلوع الشمس من مغربها..) غير صريحة الأوصاف ولا معلومة الزمان ولا المكان، ونعتقد أن هذا الإبهام من جهة الوحي يرمي إلى ترك باب المستقبل مفتوحاً للاجتهاد البشري حتى آخر لحظة من لحظات هذا الوجود، ونلمح مثل هذا المقصد في بعض الأحاديث التي تحضنا على مواصلة العمل حتى آخر لحظة من لحظات هذا الوجود، وذلك كسباً للوقت الذي هو أثمن ما يملكه الإنسان في حياته الدنيا، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا قامت الساعةُ، وبيَدِ أحَدِكُم فَسيلةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ ألا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَها فَلْيَفْعَلْ)) .
ولهذا خصصت الشريعة الإسلامية للزمن مكانة خاصة، فهي إلى جانب توزيعها للعبادات توزيعاً زمنياً دقيقاً، فإنها تحضُّ المؤمن على الاستفادة من الوقت المقدَّر له في هذه الدنيا إلى أقصى حد ممكن حتى لا يضيع منه دقيقة واحدة بغير عمل، ويكسب المزيد من الرصيد عند الله عزَّ وجلَّ، مما يرشِّحه للخلود في دار النعيم.
أما الملاحظة الأخرى التي نود التوقف عندها، ونحن في معرض الحديث عن التاريخ وعلاقته بالزمن، فهي أن ما يقع في زمن معين من أحداث ينبغي ألا نصدر عليه حكماً نهائياً مبرماً بأنه خطأ أو صواب، خير أو شر، إلا بعد مضي فترة كافية وظهور مؤشرات أكيدة على اختتام الحدث وعدم بقاء أية متعلقات به، وذلك لأن الحدث أشبه بالصوت الذي قد لا يصلنا صداه إلا بعد فترة من الزمن قد تطول وقد تقصر، وكذلك هي معظم أحداث التاريخ فقد لا تظهر نتائجها النهائية إلا بعد أمد قد يستغرق أجيالاً طويلة، وإن من يرجع إلى سجلات التاريخ يجد جعبته مليئة بمثل هذه الأحداث.
وعلى سبيل المثال فإن بوادر انهيار (الخلافة العثمانية) بدأت قبل قرنين من سقوطها الفعلي في عام 1924، وكذلك (الاتحاد السوفياتي) لاحت بوادر سقوطه قبل عشرين عاماً على الأقل من إعلان سقوطه الرسمي في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، وجَسَد نبي الله سليمان عليه السلام بقي فترة طويلة من الزمن قبل أن ينهار ويخر إلى الأرض ويكتشف الجن أنه فارق الحياة ، وهكذا هي جولات التاريخ، فإن نهاية الحدث أو نتيجته قد تتأخر كثيراً أو قليلاً عن بدايته.
ويعلمنا التاريخ أيضاً أن لا نتعجل بالحكم على رجاحة بعض القرارات التاريخية أو فشلها، بل نعطيها ما تستحقه من الزمن قبل إصدار الحكم عليها، فكم من قرارات اتخذت في وقت من الأوقات فأيدها الناس أشد التأييد، وتحمسوا لها غاية الحماسة، ولكنها بعد حين من الزمن عادت بأفدح الخسائر والنكبات، وكم ـ بالمقابل ـ من قرارات عارضها الناس في حينها معارضة شديدة أو حكموا عليها بالفشل الذريع، ولكنها بعد حين من الزمن أثمرت أفضل النتائج، وليس (صلح الحديبية) الذي أبرمه النبي محمد  مع قريش (7هـ / 628م) إلا مثالاً واحداً على ما نقول، فقد عارض الصحابة رضوان الله عليهم هذا الصلح بشدة لما رأوا فيه من غمط لحقوقهم، لكن الأيام أثبتت أن الصلح كان فتحاً كبيراً للإسلام والمسلمين، فقد أظهر الصلح أن المسلمين ليسوا دعاة حرب وقتل ودمار، بل دعاة سلام وخير ومحبة، كما هيأ الصلح جواً من الهدوء والأمان بين الطرفين جعل الكثيرين ممن لم يكونوا قد دخلوا الإسلام يراجعون مواقفهم، ثم لم يلبثوا أن أسلموا، وبهذا قويت شوكة المسلمين، وتوسعت دائرته، ولم يمض عامان على الصلح حتى فتح الله على المسلمين مكة سلماً دون حرب، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهكذا.. فإن ما يتراءى لنا في اللحظة الراهنة أنه انتصار كبير قد يكون على المدى البعيد هزيمة منكرة، وما يلوح لنا في الحاضر أنه هزيمة مخزية قد يثبت بعد حين أنه هو الانتصار الحقيقي، وهذه السمة تدل دلالة دامغة على أن التاريخ لا يسير بصورة عشوائية، بل ترعاه العناية الإلهية التي لها وحدها القدرة على التحكم بالنتائج والنهايات، والتي يبدو جلياً أنها وضعت للتاريخ مساراً محدداً لا يخرج عنه قيد أنملة، ولعل أجمل ما قرأت في التعبير عن هذه السمة في التاريخ ما كتبه الأديب الروسي الشهير (ليو تولستوي) في روايته الشهيرة (الحرب والسلام) إذ كتب يقول: ( إن الأفراد ليسوا سوى أدوات طيِّعة في يد التاريخ، ينفذون الأهداف المخفية عنهم.. والعناية الإلهية تدفع هؤلاء الناس، كلاً منهم على حده، لكي يصلوا إلى غاياتهم الشخصية، لكن هذه الغايات المتفرقة تجتمع بعضها مع بعض لكي تحقق غاية عظيمة جداً تختلف عن كل توقعاتهم)!
ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن الأحداث الكبرى ـ ناهيك عن الأحداث الصغرى ـ التي شهدها التاريخ لم تغير من المسار الذي رسمته يد العناية الإلهية مقدار شعرة.. نعم.. ربما أحدثت بعض الأحداث الكبرى صخباً شديداً في حينها، حتى ظن الناس أن تلك الأحداث قد غيرت مجرى التاريخ فعلاً، إلا أن صخب تلك الأحداث لم يلبث أن خَفَتَ بعد حين، ولم يبقَ من آثارها شيء، وتابع التاريخ مساره المقدَّر له من الخالق العظيم سبحانه.
ومن الغريب أن معظم الناس ـ بل وكثير من المؤرخين المتمرسين كذلك ـ لا يلتفتون إلى هذه السمة التي تطبع حقب التاريخ المختلفة بطابعها المميز، مع أن التاريخ يمدنا بالكثير من الوقائع التي تظهر هذه السمة بوضوح، وتبين وجود تخطيط مسبق، أو برنامج زمني إلهي يحكم مسيرة التاريخ، ويجعل أفعال البشر المتفرقة تصب في مجراه العام، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه السمة في مواضع عديدة، منها قوله تعالى: ((إِنَّهُم يَكيدونَ كَيْداً 0 وَأكيدُ كَيْداً 0 فَمَهِّلِ الكافرينَ أَمْهِلْهُم رُوَيْداً)) سورة الطارق 13 ـ 15، وقوله تعالى: ((سَنَسْتَدْرِجُهُم من حيثُ لا يَعْلَمونَ 0 وَأُمْلي لَهُم إِنَّ كَيْدي مَتينٌ)) سورة الأعراف 182 ـ 183، فقد يقرر بعض الناس قراراً ويعملون بكل طاقتهم على تنفيذه، إلا أن تنفيذ هذا القرار يبقى رهناً بمشيئة الله تعالى الذي إن شاء أنفذه، وإن شاء لم ينفذه، وهذا لا يتعارض مع الحرية الفردية كما قد يتراءى للوهلة الأولى، فإن الحرية الفردية مقررة شرعاً بصريح الكتاب والسنة، وهي مناط التكليف للإنسان، إلا أن هذه الحرية الفردية ليست مطلقة، بل هي مقيدة بالحدود التي تتيح للإنسان القيام بأمانة الاستخلاف بحُرية تامة، ولكن دون أن يتجاوز الحدود ليغير مسار التاريخ عن الوجهة التي رسمتها يد العناية الإلهية.
وما قصة نبي الله يوسف عليه السلام مع إخوته إلا مثال ناصع على هذه الحقيقة، فقد تحايل إخوة يوسف على أبيهم لكي يرسله معهم في رحلتهم إلى مصر، بحجة الحصول على المزيد من التجارة والربح، وكانوا قد أضمروا في أنفسهم التخلص من يوسف الذي كانوا يحسدونه أشد الحسد على قربه من أبيهم وحبه الكبير له، وبالفعل ذهبوا به وألقوه في غيابة الجُبِّ، واعتقدوا أنهم تخلصوا منه إلى غير رجعة، ولم يَدُر في خلدهم أن فعلتهم هذه سوف تنقلب ضدهم، وأنهم قد وضعوا يوسف عليه السلام على أول الطريق إلى المجد!
وهذا لا يعني أن العباد غير مسؤولين عن أفعالهم، بل هم مسؤولون عن الأفعال التي تدخل في نطاق تكليفهم، كما هي حال إخوة يوسف الذين هم دون ريب مسؤولون عما فعلوه بأخيهم، وأما ما حصل بعد ذلك مع هذا الأخ المظلوم وما ناله من مكانة عالية فإنه يندرج في إطار البرنامج الإلهي الشامل لهذا الوجود، وهذا ما أشار إليه يوسف عليه السلام حين التقى بأبيه وأمه وإخوته بعد فراق طويل حين قال: ((إنَّ رَبِّي لَطيفٌ لما يَشاءُ، إنَّهُ هُوَ العَليمُ الحَكيمُ)) سورة يوسف 100، واللطف هنا يعني أن قَدَر الله تعالى يجري بصورة لطيفة خفية لا يشعر بها أحد، ولا تخطر على بال، حتى إذا اكتملت عناصر الحدث جاءت النتيجة النهائية مزلزلة، كما تزلزل إخوة يوسف عندما رأوا أخاهم الذي ارتكبوا بحقه تلك الأفعال الشنيعة وقد رفعه الله تعالى إلى أعلى المناصب!

.......................................................................................................................

- سيد قطب: في ظلال القرآن 5/2820، دار الشروق، بيروت / القاهرة 1982.
- انظر: محمد قطب (كيف نكتب التاريخ الإسلامي) ص 23، دار الوطن للنشر 1992م.
- نزار قباني: قصتي مع الشعر، منشورات نزار قباني، بيروت 2000.
- نورمان بريل: بزوغ العقل البشري، ص 315، ترجمة إسماعيل حقي، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة، نيويورك 1964
- أخرجه البخاري في الأدب المفرد 479، وأحمد في المسند 3/183، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه.
- قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد: مدة طويلة نحواً من سنة [ ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/693، مؤسسة الريان بيروت، دار اليقين مصر ]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه