تلك هي المرأة التي قهرت الخوف في أعماقها. تلك هي المرأة التي آمنت بحريتها، وقدرتها على ممارسة هذه الحرية، وأهمية دورها في الحياة والمجتمع. تلك هي (بنظير بوتو) امرأة المواجهة التي وقفت في وضح النهار، وتحدّت ذئاب الليل وخفافيش الظلام. المرأة التي وطئت بنعالها فتاوى القتل والإرهاب، وشيوخ الجهل والتخلف والخرافات.
كانت ضد استغلال الدين وتوظيفه لخدمة الأغراض والنزوات الشخصية، وضد الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة، والحق الإلهي في السيطرة على البشر. كانت ضد الديكتاتورية والسياسات المعادية للديمقراطية. كانت ضد اضطهاد المرأة ومنعها من العلم والتعليم، وضد الانتقاص من عقلها وقدرها وكرامتها. وضد التمييز بين إنسان وإنسان بسبب دينه أو أثنيته أو معتقده. كانت ضد الأحزاب التي تحمل السلاح وتعتمد العنف والإرهاب والقمع والاغتيالات والتسلط، وتدعو للجهل والأمية. كانت ضد المدارس التي تدعي تعليم الدين، ولا تعلم سوى الكراهية وحب الموت والقتل واحتقار الحياة والبشر. كانت ضد المدارس التي تتستر بالدين، وتخرّب عقول التلاميذ وتهدمها، وتنشر السموم في قلوبهم وأدمغتهم، وتعد الذين يفجرون أنفسهم ويقتلون من حولهم باثنين وسبعين امرأة حسناء في الجنة.
لم تكن عملية اغتيال السيدة بوتو عملية إقصاء سياسي فقط. بل هي أيضا عملية تغييب جسدي وفكري، لامرأة شجاعة، وجموع كثيفة آمنت بمبادئها وفكرها، وأملت في الخلاص من واقعها. مما يدلل على خوف الفئة الباغية من تلاقح الأفكار، ومواجهة الآراء الواقعية، وقرع الحجة بالحجة، ومواجهة خصمهم حيا.
من منطلق خاص بفهمهم للدين، ولأسباب سياسية أيضا، قتلوا بنظير بوتو. قتلوها إيمانا منهم بثقافة متوارثة تملكتهم وربطتهم بفكر ومعتقدات العصور المظلمة والحكم الفردي والتفويض الإلهي. وكم أعلنت بوتو جهارا نهارا عن عزمها على ردع خفافيش الظلام وردهم إلى جحورهم وأوكارهم منبوذين مكرهون. وعداوة أولئك القتلة معها قديمة، فمنذ سنوات وسنوات يكررون ويجترون على شاشات الفضائيات كرههم لها وحقدهم عليها، وأنها ليست سوى أفضل من رجل فاسق، وما عدا ذلك فلا.
لقد قتلوها لوأد الديمقراطية، وثقافة الحوار وتعدد الآراء. قتلوها استجابة لعقيدة تعادي الترابط الإنساني وحقوق الإنسان، وتحتقر الحياة وحق الحياة التي هي أقدس الأقداس والمعتقدات. قتلوها سعيا لتأجيج حرب أهلية تنقسم فيها البلاد، وتقتتل المذاهب والأثنيات، ويعم الخراب، وتنتشر أعمال القتل والسلب والنهب والفوضى، فتلك بيئتهم الملائمة التي ينمون فيها، ويثرون فيها، ويكدسون الأموال، وتؤهلهم ليكونوا حكاما لبعض الأقاليم يصدرون منها الإرهاب. قتلوها كي ينتصر جهلهم ودعواتهم للتخلف، ولأنهم أدركوا أنها ستكون سدا منيعا في وجه أمراء الإرهاب والكهوف والجحور، ودعاواهم الكاذبة المضللة.
قتلها أولئك الذين لم يعرفوا العواطف النبيلة والمشاعر الإنسانية، أولئك الذين تتملكهم غريزة الكراهية والإكراه. أولئك الذين لا يؤمنون في التواصل مع الناس بالحسنى، ولا يحترمون إنسانية الإنسان ولا إنسانية بعضهم بعضا. أولئك الذين لا يمتلكون القدرة على الحوار بالموعظة الحسنة، وإقناع الآخرين بآرائهم ومعتقداتهم، لأنهم جهلة منبوذون، أو لآن آرائهم وقناعاتهم لا تتماشى مع عصر الحرية والمساواة وحقوق الإنسان. أولئك الذين يتلذذون بالقتل، وينتشون بالحقد والضغينة وإسالة الدماء. أولئك الذين ولدوا وعاشوا في الكراهية، وتتلمذوا على عقيدة الكراهية والغدر والجبر والإكراه.
قتلها أشباه البشر- الآمرون والمخططون والمنفذون- الذين لم تتم أنسنتهم ولم تكتمل بشريتهم، ولم يساعدهم على ذلك من هم حولهم. أولئك الذين يستمتعون بالكذب والخداع، ويتلذذون بالعنف وإسالة الدماء. قتلوها لأنهم يكرهون المرأة سيدة حرة متعلمة، ويعشقونها لحما وجسدا وحوضا للنفايات. قتلوها لأنهم يكرهون المرأة العاقلة المفكرة التي تشعر وتحس وتحلم، ويعشقون المرأة الجارية الجاهلة الخائفة من الجن الأحمر والأزرق، المستسلمة لقدرها، اللاهثة خلف رضاهم وشبقهم، فتلك يسفحون تحت أقدامها الأموال والكرامات.
هل أفلح الذين ولوا أمرهم لشيوخ الجهل والخرافات؟ هل أفلح الذين ولوا أمرهم لشيوخ الحيض والنفاس والتجمر ودخول الحمام؟ هل أفلح الذين ولوا أمرهم لمتعهدي فتاوى الكراهية والعنف والقتل؟ هل أفلح الذين ولوا أمرهم لأدعياء امتلاك الحق الإلهي والحقيقة المطلقة؟ أم أن هؤلاء لم يزدادوا سوى جهلا وأمية وتخلفا وفقرا؟ ولم تنتشر في أوساطهم وعقولهم سوى الجن والعفاريت والخرافات؟
إن قصاص هؤلاء القتلة على الأرض أن يرتعوا في شقائهم وجهلهم وأميتهم وتخلفهم، أن يعيشوا في الحقد والكراهية، وأن لا يعرفوا معنى الحب والتآلف والتعايش مع البشر. وأن تعمى بصيرتهم وضمائرهم عن الخير والحق والعدل، وأن يروا الصالح طالحا، والطالح صالحا.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية