ها هو عام
آخر يمرّ مرّة أخرى تاركًا في حلوقنا طعم المرارة. ومن الصّعب إجراء جردة حساب سريعة لأحوالنا. لكن، هذه هي طبيعة المقالات السيّارة، فليكن!

ولم يكد العام
يمرّ حتّى صُعقنا وصُعق معنا العالم بمقتل تلك المرأة الجميلة، المسلمة المُنقَّبَة، الّتي حاولت العودة إلى وطنهاپاكستان لزرع بعض الأمل المتمثّل بإمكان العيش بصورة أخرى بعيدًا عن العنف، بعيدًا عن الإرهاب الّذي يضرب بقاعًا مختلفة من هذا العالم العربي والإسلامي. السيّدة بوطو الّتي طالتها أيدي الإرهاب كانت تمثّل الوجه الآخر للمرأة المسلمة الّتي طلبت العلم ولو في الغرب فوجدته. ثمّ كانت شغلت مناصب سياسيّة هامّة في وطنها إلى أن تغرّبت. وبعد أعوام من الغربة رغبت في العودة، غير أنّ الإرهاب، أيًّا كان مصدره، قد قضى الآن على ما تمثّله هذه المرأة من حلم. يمكن القول إنّ اغتيال بوطو هو اغتيال ليس فقط لهذا الوجه السّياسي الّذي تمثّله هذه المرأة، إنّما هو اغتيال لوجه المرأة، للمرأة ككلّ، في هذا العالم الإسلامي الّذي نخرت فيه الذّكورة المزيّفة حتّى بات نسخة هزليّة من المجتمع البشري.
لذلك سنواصل القول: لن تخرج هذه المجتمعات الإسلاميّة والعربيّة من قيعانها الآسنة ما دامت على هذه الحال، ما دامت ذكورتها المزيّفة هي المسيطرة، ففي نهاية المطاف لا حلّ لهذه المجتمعات بغير وضع المرأة في مركز المجتمع. فليس الإسلام، كما يأفكون، بل المرأة هي الحلّ.

ففي العراق،
هذا البلد العريق على ما يرمز إليه في الذّاكرة العربيّة، فقد كشفت العروبة فيه عن عوراتها على الملأ. صحيح أنّ العنف في هذا البلد قد بدأ يتضاءل - وكلّنا أمل أن يتوقّف هذا العنف بالمرّة لما فيه حياة البشر هناك على اختلاف طوائفهم وشعوبهم - إلاّ أنّنا لا يمكننا أن ندسّ رؤوسنا في الرّمال متجاهلين ما أفضى إليه هذا البلد بعد تقويض دكتاتوريّة سفّاحه المعاصر. لقد انكشفت على الملأ عورات هذا البلد لأنّ الدّكتاتوريّة كانت أخفت تحت البساط، وبالحديدوالنّار، كلّ عيوب هذه المجتمعات. فهل يمكن الحديث عن شعب عراقيّ واحد، أم أنّ ما يفرق بين هذه المجموعات السكّانيّة هو أكثر عمقًا ممّا قد يجمعها؟ لقد أثبت العنف الدّموي، الطّائفي، القبلي والعرقي على أنّ حدود هذا البلد الّتي وضعها الاستعمار لم تكن حدودًا قوميّة، بل هي لعبة تمّ فيها تمزيق الشّرق إلى كيانات مصطنعة، على غرار مناطق أخرى في العالم.
ورغم كلّ ذلك، فهذه هي الحدود الدّوليّة المعترف بها، وهذه هي الحدود الّتي يجدر بالجميع على اختلاف مللهم ونحلهم التّعامل معها. هل يمكن خلق شعب عراقيّ جديد؟ الإجابة على ذلك ليست بالأمر السهل، غير أنه ومن أجل ذلك فلا سبيل أمام العراقيّين، إذا كانوا يرغبون في هذه التّسمية أصلاً، سوى طرق الباب الأوحد الّذي يفضي إلى ذلك، وهو باب فصل الدّين عن الدّولة. بغير تبنّي هذا المبدأ، فلن تقوم للعراق قائمة بعد اليوم، لن تقوم قائمة للكيانات العربيّة بعد اليوم.

وفي لبنان،
وعلى صغر مساحة هذا البلد، إلاّ أنّه لم يصل هو الآخر إلى مرحلة بناء المجتمع المدني العابر للعصبيّات الطّائفيّة والدّينيّة، فنحن نشهد منذ عقود على زيف هذه الذّكورة السّياسيّة اللّبنانيّة، ذكورة الدّيكة الطّائفيّة المتحكّمة فيه. فأحزاب هذا البلد ليست أحزابًا بقدر ما هي تجمّعات طائفيّة، وحتّى هذه الطّائفيّة منقسمة أصلاً فيما بينها إلى حمائل وقبائل إلى آخر هذه التّركيبة الغريبة العجيبة من البشر الّذين يبدو أنّهم لا يرغبون في أن يتشكّل لديهم رابط مدنيّ أيًّا كان، ذلك الرّابط الّذي هو الوحيد الّذي يمكن أن يحمي الفرد في المجتمعات المعاصرة.
ليست طائفة الرّئيس هي المهمّة، وليست طائفة الحكومة ومجلس النّواب هي المهمّة. إنّما الأهمّ في هذا البلد مثل غيره من البلاد، هي طائفة الإنسان، من ذكر وأنثى، طائفة البشر والشّجر أجمعين. ولا يختلف لبنان عن غيره في هذه المسألة، فالباب الأوحد أمامه هو باب فصل الطّائفة عن السّياسة، بل وأبعد من ذلك يجدر بهذا البلد إذا كان ينشد الحياة أن يحظر جميع الأحزاب الدّينيّة، مسيحيّة كانت أم إسلاميّة على اختلاف جميع ملل هذا الكيان.

أمّا في فلسطين،
فحدّثوا عن بني فلسطين ولا حرج.فقد كُنّا بفلسطِين فصرنا بفلسطَيْن. وبعد سنوات من الفساد المستشري برئاسة عرفات ذهب الفلسطينيّون للاقتراع فجاؤوا بأسوأ ممّا سبق. جاؤوا بقيادات لا يهمّها فلسطين بقدر ما يهمّها الأيديولوجيّة الدّينيّة الّتي تعيش في عالم الغيب. ويكفي لهذا الغرض أن نقتبس من كلام الكاتب باسم النّبريص الّذي يعيش هناك، هذا الكلام الّذي يقول كلّ شيء عن هذه الحال: quot;إنّ أسوأ ما نُكب به شعبُ التيه هذا، هو أنّ مقاليد أموره غدت في أيدي مَن لا يؤتمنون على شيء: لا على الحاضر ولا المستقبل. ولا على الآلام ولا على الآمال. فكيف سنأمل فيهم، مع حلول السنة الجديدة؟ كلا! لا أمل... ولنقل الحقيقة عارية مُدمّاة، كما هي في الواقع والعيان. لا أمل!quot; (عن إيلاف). فماذا نضيف على هذه الشّهادة؟ لا شيء، فأهل غزّة أدرى بشعابها.

وها نحن نقول كلّ هذا،
ولم نطرق بعد باب البعث القبلي الجاثم على صدر الشّعب السّوري منذ عقود. هذا البعث الّذي حوّل هذا البلد إلى سجن لكلّ من يرغب من أبنائه في تنفّس الحريّة. فالاعتقالات فيه مستمرّة، ولا زالت أذرعه تعيث قتلاً وفسادًا في لبنان، بوصف لبنان لعبته الوحيدة في مقارعة إسرائيل.
كما لم نطرق باب شبه جزيرة العربان، ولم نعرّج على وهران ولا تلمسان، ولم ندلف إلى مصر المحروسة أو السّودان والسّمران، فعن هؤلاء قيل الكثير قبل الآن.
فماذا نقول إذن، بعد كلّ هذا الكلام؟ من سخرية القدر الحقيقة أنّّ يبدو أن الفلسطينّيين من مواطني إسرائيل هم أوفر العربان حظًّا وعيشًا في هذا الشّرق الآسن.
فكلّ عام وأنتم بخير وعقل، ففي نهاية المطاف:
العقل وليّ التّوفيق.

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه