من الطبيعي أن الوضع في باكستان لا يزال تحتل مركز الصدارة في الأخبار الدولية، وأن تصدر عنه العشرات والعشرات من المقالات والتعليقات.
إن هذا يعود أولا لخسارة رحيل الفقيدة بينظير، وجسامة الحدث، ويعود أيضا للمركز الاستراتيجي لباكستان النووية، وجوارها مع أفغانستان، ومع إيران الساعية للسلاح النووي، وذات الدور المفضوح في دعم طالبان والقاعدة؛ ونعرف أيضا الدور الخطير للغاية للمدارس والمجموعات الإسلامية الباكستانية في غسل أدمغة الشباب، وإعدادهم لتنفيذ العمليات الإرهابية في كل مكان. نضيف لكل هذا استمرار الخلافات التاريخية مع الهند حول كشمير، واحتمالات تفجر هذه الخلافات بين دولتين آسيويتين نوويتين لهما كثافة سكانية عالية.
لقد نشرنا في بعض المواقع العربية، قبل اغتيال الفقيدة بينظير، مقالا بتاريخ 16 نوفمبر تحت عنوان 'الرئيس مشرف بين خطر الإسلاميين والهوس الانتخابي الغربي'، وكان من رأينا أن مشرف لم يكن حازما بما يكفي لمحاصرة ومحاربة المتطرفين الإسلاميين الباكستانيين، ضاربا هنا ليعود لغض النظر هناك. لقد سمح باستمرار وجود آلاف المدارس الإسلامية التي تنفث سموم التطرف، والكراهية العمياء، وتؤجج غريزة العنف باسم الجهاد من أجل الله. إن تلك الكتاتيب والمدارس لعبت، ولا تزال تلعب، دورا تخريبيا هائلا في باكستان، وتصدر الإرهابيين للعالم، من أفغانستان، وإلى دول الغرب، ومنهم الإرهابيون الباكستانيون المعتقلون في بريطانيا.
لم يربح مشرف من سياسته الازدواجية في التعامل مع المتطرفين، بل تعرض شخصيا لعدة محاولات لاغتياله على أيدي الإسلاميين، كما أصبح موضع انتقاد من كل الجهات، ولاسيما الغرب، الذي طالبه بتحقيق الديمقراطية بالتعاون الوثيق مع الأحزاب المدنية، وخصوصا مع بينظير بوتو، التي عادت لباكستان باتفاق مع مشرف، وبرعاية غربية.
نعم، إن مشرف ليس ديمقراطيا بالمعايير الحديثة، ولكنه ليس دكتاتورا دمويا، ونظامه ليس شموليا كنظام صدام مثلا، ومن هنا كان يجب أن تكون وجهة الحملة الانتخابية لبينظير، ونواز شريف، لا باتجاه إبعاد الشقة مع مشرف، والعمل لعزله، بل، على العكس، باتجاه عرض التعاون معه على أساس برنامج ديمقراطي مشترك من أجل تعزيز الديمقراطية، وقبل كل شيء من أجل مواجهة خطر الإسلاميين بحزم شديد، حيث أن أي صراع واسع ومستمر بين مشرف والحزبين المذكورين لا يستفيد منه غير الإسلاميين، الذين يشحذون سكاكينهم لنحر مشرف والأحزاب ومحو كل أثر للديمقراطية، وتحويل باكستان لطالبان ثانية.
إن من المفارقات الكبرى أن باكستان في زمن الفترة الثانية لرئاسة بينظير للوزارة في النصف الثاني من التسعينات، كانت أول دولة اعترفت بطالبان، وخلال رئاستي بينظير ونوار شريف للوزارة سادت سياسة التساهل والتنازل مع الإسلاميين، فضلا عن التهم الكبيرة بالفساد التي وجهت لعهد بي نظير، كما اتجه شريف في آخر عهده نحو إقامة حكم استبدادي تسلطي، حتى أسقطه الجيش بزعامة مشرف عام 1999.
يظهر من الحقائق أن الفقيدة بوتو تعلمت من دروس أخطائها وأخطاء أبيها في السياسة التي اتبعت تجاه الإسلاميين، فقد رفعت عشية عودتها شعارات محاربة التطرف والإرهاب الإسلاميين، و تأميم المدارس الدينية لتحويل الطلبة نحو برامج دراسية عصرية، مدنية.
إن من المفارقات أن على بوتو، الذي تولى الحكم عام 1971 بعد الحرب الأهلية التي أدت لانفصال بنغالديش، بدأ حكمه ديمقراطيا، ومع الانتخابات، ولكنه انزلق تدريجيا نحو شعبوية غوغائية جعلته يفتح الأبواب واسعة أمام الإسلاميين، ونشير بهذا الشأن لسجل تاريخي موسع عن باكستان صدر في صحيفة لو فيجارو عدد 2 يناير الجاري، ويوضح هذه الحقيقة التاريخية.
لقد كان مؤسس الدولة محمد علي جناح رجلا علمانيا وعصريا، ولا يميز بين المسلمين والهندو، علما بسعيه لإبراز هوية البلد كدولة كبرى للمسلمين، تمييزا لها هن الهند؛ أما الدستور، فلم يسن إلا في 1956، وكان حصيلة تنازل متبادل بين العسكر ورجال الدين، إذ لأول مرة ثبتوا الإسلام دينا للدولة، ولكن دون الإشارة لأحكام الشريعة.
لقد رفع المرحوم علي بوتو شعار 'الاشتراكية الإسلامية'، [على وزن 'الاشتراكية العربية'!]، ودعا المؤتمر الإسلامي لباكستان، ومضى في تنازلاته لرجال الدين لحد أنه في 1974 طرح على البرلمان مشروع قرار بتكفير فرقة الأحمدية، وإقصائهم عن وظائف الدولة، وقد جرى تنكيل دموي بشع بهذه الفرقة، رسميا وشعبيا، وسرعان ما امتد الاضطهاد إلى المسيحيين، إذ قرر بوتو حظر كل دعاية دينية سوى للإسلام، كما منع الكحول، وخنق الصناعة السياحية بتدابيره الدينية المتشددة، وقد لجأ قبل انتخابات 1977 مجددا للمزايدة الأيديولوجية، فأعلن حكم الشريعة في البلاد. أما الجنرال ضياء الحق الذي أزاح بوتو وأمر بإعدامه، فإنه هو الذي طبق قانون حكم الشريعة، وأسس محاكم شرعية تعاقب بالجلد 'المرتد' و' الكافر'، وفي 1991 أقر البرلمان تعديلا قانونيا نص على الحكم بالموت على 'الكافر والمرتد'، وقد قتل عدد كبير من المسيحيين بناء على ذلك.
هكذا تطور نفوذ الإسلاميين بسرعة بعد أن كانت باكستان عند قيامها دولة عصرية، ولم ترفع حتى شعار كون الإسلام دينا رسميا للدولة.
بعد انتهاء عهد ضياء الحق جاء عهد بي نظير، ونواز شريف، اللذين لم يبرهنا على جدارة كافية لمركز الرئاسة، بل العكس كما مر آنفا، حتى أن نواز حاول في نهاية عهده التنصل من البرلمان والمحكمة العليا التي اقتحمها، بينما هو اليوم يدعو لإزاحة مشرف بنهمة المسئولية عن عملية الاغتيال، وهو ينادي مع أعضاء بوتو: 'مشرف القاتل'!
لقد ذكر مشرف في مؤتمر صحفي أن الفقيدة هي التي لم تراع الضوابط الأمنية، إذ كان عليها الخروج بسرعة من الاجتماع، وعدم الإطلال من السيارة التي فتح سقفها، كما أورد عدد سيارات الأمن الحكومية، ورجال الأمن الذين كانوا يحرسون بينظير، مضيفا أن 19 عملية تفجير نفذت في الشهور الثلاثة الماضية في نفس المنطقة، وكان غالبية الضحايا من الجيش ورجال الأمن.
إن دفاع مشرف عن جهازي الجيش والأمن يجب ألا يكون مطلقا، ففي التسعينات، بل وبعدها أيضا، كان لأطراف وعناصر من الجهازين دور كبير في صعود طالبان، مما يفرض على مشرف تطهيرا عاجلا، وجريئا لصفوف الجهازين من الفاسدين والمتسللين، وذلك إذا كان يريد انتصارا ساحقا على خطر طالبان، والقاعدة، وهذا أيضا سيكسبه دعما شعبيا قويا، ومزيدا من الدعم الغربي.
إن الوضع المتفجر في باكستان لا يحتمل مزايدات نواز وحزب الشعب، بل إنه يستدعي التعاون المشترك لصد الخطر الإرهابي، ولتعزيز الحياة السياسية البرلمانية.
إن على مشرف من جانبه التعاون الوثيق مع الفائزين في الانتخابات القادمة في 18 فبراير القادم، وهو كما نعتقد مدعو إلى تشديد محاربة الأصولية المتطرفة، وقواعد القاعدة وطالبان، المتحصنين على الحدود؛ ومن جهة أخرى، فإن على الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى مواصلة الضغط الودي عليه في هذا الشأن.
إن استقرار باكستان يحتل اليوم في نظرنا مركز الصدارة في المهام التي تواجه الوطنيين الباكستانيين، من عسكريين ومن مدنيين، وإن الجيش هو القوة الأساسية لضرب الخطر، ومن حسن الحظ أن مشرف لا يزال يتمتع بثقة الجيش.
إن رحيل بوتو كان خسارة كبيرة لباكستان، وللعالم الإسلامي، ولقضية الديمقراطية في العالم، خصوصا وأنها عادت بعد مراجعة جريئة لأخطاء الماضي، وأخطاء أبيهان في ضرورة محاربة التطرف والإرهاب الإسلاميين.
أخيرا، نعتقد أن الأستاذ الراشد كان على كل الحق إذ كتب:
'إن مقتل بوتو كان أمرا متوقعا، وكانت عودتها مثل فراشات النار، وبغيابها خسرت باكستان صوتا ذكيا، ومثابرا، وضروريا، لتصويب العمل السياسي في دولة كبرى كباكستان؛ ومؤسف أيضا أن تّوجَه الاتهامات إلى الطرف الذي يحارب الإرهاب قبل وبعد مقتل بنازير.'

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه