ما دعاني إلى العودة للحديث عن الشذوذ الجنسي هو الهجوم العنيف الذي شنه بعض الدعاة وأساتذة الدين الإسلامي في الجامعات المصرية على أسرة فيلم (حين ميسرة) فقد ذكر موقع (العربية نت) بتاريخ quot;05/01/2008quot; خبرا جاء فيه: (طالب المفكر الإسلامي والأستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة الدكتور عبد الصبور شاهين بإحالة بطلتي ومؤلف ومخرج فيلم quot;حين ميسرةquot; على النيابة العامة للتحقيق معهم بتهمة الدعوة إلى نشر الشذوذ الجنسي والسحاق والتخريب الأخلاقي، مشيرا إلى أن quot;الأصابع الأميركية والصهيونيةquot; تقف وراء مثل هذه الأعمال الفنية الشاذة ضمن مخطط تخريبي لتدمير أخلاق المجتمع) وتابعت العربية نت: (من جانبه، قال أستاذ الفقه والشريعة بجامعة الأزهر بالقاهرة علوي أمين: إن تقديم مشاهد الجنس والشذوذ والسحاق على شاشة التلفزيون والسينما هي إثم، ومشاهدتها كذلك إثم، مضيفا إن quot;السحاق غير موجود في مصر، ولن يكون موجودا في يوم من الأيام، مشيرا إلى أن quot;هناك أناسا لا يعلمون معنى كلمة سحاق(quot;وتابعت العربية نت (وقال الداعية يوسف البدري: إن المشهد laquo;السحاقيraquo; يدل على انحدار الأخلاق في السينما ووسائل الإعلام التي ساعدت على ذلك، ودعا الأزهر إلى quot;فرض رقابتهquot; على الفن والإبداع وعلى جميع منافذ الثقافة والإعلام، مؤكدا أن هذا هو دوره الذي تخلى عنه، وذلك وفقا لما ورد في صحيفة quot;الرأيquot; الكويتية الجمعة 4-1-2007) وقد كتب أحد المعلقين على خبر العربية نت قائلا: ( وين الأخلاق يعني إذا ببلادنا العربية بلاد العزة والكرامة صار هيك بقى كيف ببلاد الأجانب شو بيصير والله يستاهلوا محاكمة) وكتب آخر (انا لله وانا اليه راجعون هل تحتاج مصر الى فتح اسلامي جديد لا زالة هذه المنكرات!!!! اين عمرو ابن العاص من هذا..) ولعل صاحب هذا التعليق لا يعرف شيئا عن رأي بعض المؤرخين في ولادة ابن العاص ونسبه! أو لعله يريد من ابن العاص أن يغير جينات البشر!.
لكن التعليق الأقوى كان من إحدى السيدات، التي أزعجها كثيرا أن ينكر أستاذ الفقه والشريعة بجامعة الأزهر الدكتور علوي أمين، أن ينكر وجود السحاق في مصر، فكتبت تقول: (وانت ايش عرفك؟؟؟ بالله عليك وين عايش انت يا شيخ؟؟؟.................. يعني رجاء بغض النظر عن رأيي بالفيلم او بموضوعه ولكن عندما اسمع ان أب اغتصب ابنته او أن اما تشغل بناتها في الحرام، فآسف بقولي هذا ان السحاق يصبح موضوعا اسهل للتقبل او شيئا طبيعيا اكثر رغم وضعه تحت عنوان الشذوذ الجنسي).
لا شك أن لكل قاعدة استثناء. والشذوذ الجنسي استثناء من القاعدة العامة التي قطباها ذكر وأنثى. لكننا هنا لسنا بصدد تحليل، أو البحث عن أسباب، أو وضع حلول لمعالجة هذه الظاهرة. فهي ليست ظاهرة حديثة أو طارئة، أو وقف على بعض المجتمعات دون الأخرى، بل هي ظاهرة مغرقة في القدم، ومنتشرة في كل المجتمعات البشرية الغربية والشرقية والعربية والأعجمية، بغض النظر إن كانت واضحة للعيان مسموح بها في مكان ما، أم كانت ممنوعة مخفية تمارس في السر في مكان آخر. فقد رأت أكثر الدراسات الطبية أن هذه الجينة (جينة الانحراف الجنسي) هي من المكونات الفيزيولوجية والغرائزية لدى بعض الناس من الذكور والإناث، تولد معهم، بمعنى أن لا يد لهم فيها، ولا حيلة لهم معها. ولا يستمتعون بالجنس إلا بممارستها. دون أن ننكر دور بعض العوامل الاجتماعية والقانونية في تنميتها أو في الحد منها. لكن هذه العوامل لا يمكنها بحال من الأحوال أن تغرس الشذوذ في نفوس الطبيعيين، ولا أن تجتثه من نفوس المنحرفين. وما يعنينا هنا هو الكيفية والطريقة التي يتعاطى بها بعض كبار الناس quot;المؤتمنينquot; مع المشاكل التي تعترضنا.
إن مشكلتنا الرئيسية تكمن في خوفنا من مواجهة مشاكلنا وأمور حياتنا، أو ربما في عدم قدرتنا على التصدي لهذه المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والفكرية والسياسية. ولهذا يتبع بعض الناس، وأخص بالذكر بعض قادة الفكر الديني والسياسي، يتبعون سياسة النعامة، ودفن رؤوسهم في الرمال، أو إلقاء المسؤولية على الغير، والتشبث بنظرية المؤامرة التي يتخذونها ذريعة لإخلاء مسؤوليتهم، ولفرض وصايتهم على المجتمع. ظنا منهم أن نكران الحقيقة يلغي وجودها، أو أن التعامي عن رؤية المشاكل أو تجاهلها أو إلقاء مسؤوليتها على الأعداء والآخرين، يساعد على حلها أو زوالها، الأمر الذي زاد من عدد مشاكلنا، وعقّدها أكثر مما كانت عليه، فصارت أصعب وأخطر وأشمل وأسرع انتشارا.
لقد أنكر أستاذ الشريعة علوي أمين وجود ظاهرة السحاق في مصر- ونتمنى أن يكون إنكاره صحيحا- وأكد على عدم إمكانية وجود هذه الظاهرة حتى في المستقبل، وأثّم كل من شاهد ويشاهد الفيلم. ولكن ماذا عن العادة السرية التي تمارسها بعض الإناث؟ هل ينكر وجودها أيضا؟ وماذا عن المفاخذة؟ وماذا عن اللواط؟ وماذا عن الرجال الذين يمارسون الجنس مع زوجاتهم بخلاف الطبيعة؟ وماذا عن المرأة التي توافق زوجها على ممارسة منحرفة معها، هل تتعفف هذه المرأة عن ممارسة السحاق؟ ثم ألا تنتمي كل هذه الممارسات المنحرفة إلى أرومة واحدة؟ فلماذا إذن نقرّ بوجود هذه وننكر وجود تلك؟ أم أن أخلاق نسائنا خير من أخلاق رجالنا؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نتهم المرأة بإثارة الفتنة وزعزعة إيمان الرجال، ونحبسها في كيس أسود وبين أربعة جدران؟ ولماذا نختلق الأحاديث ونشيع أن أكثر أهل النار من النساء؟
أما الداعية الإسلامي الأستاذ يوسف البدري فقد اتخذ من إثارة الفيلم لهذه الظاهرة الموجودة quot;السحاقquot; ذريعة للمطالبة بفرض وصاية رجال الدين على الثقافة والفن والأدب والتأليف والطباعة والنشر، بحجة حماية أخلاق المجتمع. أما الأستاذ عبد الصبور شاهين فقد طالب بمحاكمة ومعاقبة أسرة الفيلم بتهمة التخريب الأخلاقي. وجميع هؤلاء الأساتذة أعادوا سبب ظاهرة السحاق إلى وجود مخطط استعماري لتدمير أخلاق المجتمع!
إن ما يدعو للحيرة والاستغراب أن استعمار الغرب لبلدان المشرق العربي لم يدم أكثر من ثلاثين سنة (1917-1947) ثم استقلت هذه البلدان (ثورة الضباط الأحرار في مصر 1952). وقد مضى على استقلالها الآن ما يقارب ستين عاما، أي ضعف المرحلة التي قضاها الاستعمار في بلادنا!. أما قبل ذلك فقد كانت هذه البلدان تحت سلطة الخلافة الإسلامية العثمانية، التي جاءت بعد الخلافة الإسلامية العباسية، التي حلت محل الخلافة الإسلامية الأموية.. فكيف استطاع الغرب والكفار والاستعمار خلال ثلاثين سنة أن يؤثروا علينا كل هذا التأثير المريع؟ ويغرسوا فينا الرغبة في ممارسة الشذوذ الجنسي، ويعلمونا كل ما هو سيئ وبشع من أخلاق وممارسات؟ في الوقت الذي لا نألوا فيه جهدا في محاربة هذا الغرب وقيَمه، وهذا الاستعمار وشعاراته، وشتمه ليل نهار، والدعاء عليه بالخسف والخسران والدمار؟ لا بل إن التشبه بالكفار من الرذائل والموبقات الكبار التي نتجنبها، ونغرسها في قلوب وعقول أطفالنا منذ الصغر، لا بل منذ أن كانوا أجنة في أرحام أمهاتهم.! ومما يدعو للعجب العجاب أيضا: لماذا نُقبل نحن على تقليد وتعلّم ما هو سيء لدى الغرب والكفار والاستعمار؟ ولا نتعلم منهم ما هو حسنٌ! ولا نتأثر بهم أو نقلدهم في مراعاة حقوق الإنسان، وفي القضاء النزيه العادل، وفي صدق القول، والأمانة، والالتزام بالقوانين، والإخلاص في العمل، والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن الجنس والدين، وفي حبهم للعلم والاختراع؟
وهل حقا أن الغرب والاستعمار هو سبب كل الأمراض والبلايا والمصائب التي تعصف بمجتمعاتنا، كالكذب والنفاق وشهادة الزور، والرشوة والاختلاس، وتزوير التاريخ، وتزييف الحقائق، والجهل والتكفير، والتعلق بالخرافات، والقمع والاضطهاد، والجبر والإكراه والكراهية، وسياسة التهميش، والانتقاص من حقوق الآخرين، والتحريض على القتل، والتمييز ضد المرأة، والتمييز ضد المذاهب والأديان الأخرى، وغسل عقول الطلبة والتلاميذ!. وهل هذه الأمراض أقل أهمية أم أنها أشد خطرا وأمضى ألما من السحاق؟
وأخيرا أليست الجرائم الأخرى التي تُرتكب- كما قالت إحدى المعلقات- كاغتصاب الأب لابنته، والأخ لأخته، واغتصاب العم أو الخال لابنة أخيه أو ابنة أخته، ثم قتل تلك الفتاة المسكينة المغتصبة بحجة الدفاع عن الشرف، أليست هذه الجرائم أكثر هولا، وأشد فتكا في الأسرة والنفس البشرية والتعاليم الدينية والعادات الاجتماعية من ممارسة السحاق؟
[email protected]

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه