تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية والدولية طلب السيد جورج بوش بأن يشهد لحظة شروق الشمس في القدس القديمة، وقد لبّت له بلدية القدس هذا الطلب، بل وزادت على ذلك، بأن أصدرت أوامرها، لكل المحلات والأمكنة المحيطة بفندق الرئيس، بإطفاء الأنوار الكهربائية، كي لا تؤثر هذه في روعة وفتنة المشهد الطبيعي الساحر، حين سمعت الخبر من التلفزيون العبري، شعرت ببعض الأمل، فها هو الرجل الأقوى في العالم، يُثبت، ولو في آخر عمره السياسي، أنه واحد من طينتنا نحن البشر العاديين متذوقي الجمال، قلت لنفسي إنّ مَن يطلب رؤية هذا المشهد الباذخ الجمال، لا شك هو رجل أقلّ قسوة مما نظن، بل ربما يخبئ تحت جلده مشروع شاعر! ذلك أنّ كل من رأى هذه اللحظة الفاتنة في القدس، يتمنى لو تتكرر، وفوق ذلك يتمنى لو كان شاعراً، ليُخلّدها في قصيدة، فهي لحظة أو لحظات لا أروع ولا أفتن، شمس واطئة كبيرة الحجم، حمراء، برتقالية الشفق، تبزغ من بين الغيوم في الشتاء، لتشرق على مكان، هو بكل المعاني، مُجمّع الأسرار والصندوق الأسود للبشرية، فهنا، ها هنا، تتجاور الأديان الثلاثة في حوار الجغرافيا والتاريخ، ممثلة في علاماتها الكبرى: حائط المبكى والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، إنه مكان لا يضاهيه في محمولاته ومرموزاته مكانٌ آخر في العالم، والمشهد المرغوب من بوش، هو المشهد ذاته الذي حرص على رؤيته كثيرون من مشاهير العالم، ممن زاروا المدينة، من سياسيين وفنانين وأدباء وشعراء، وبالأخص من الفئة الأخيرة،فكم من فنان تشكيلي عالمي زار المدينة المقدسة ورسم لحظة الشروق هذه، بل كم من أديب أو شاعر، كتبَ عنها، منذ قرن على الأقل وحتى هذا الأوان، غصت في هذه الأفكار السعيدة، واستحضرت أطياف كزانتزاكس وبورخس وتشومسكي وسواهم، لأصحو بعد ساعات على خبر ثان، ومن المحطة العبرية ذاتها، يقول إنّ الرئيس الأميركي أعطى الضوء الأخضر للإسرائيليين باجتياح قطاع غزة في [عملية عسكرية كبيرة]! عملية عسكرية كبيرة؟ ولمن؟ لنا نحن المساكين؟ يا للهول إذاً!
طارت السكرة وجاءت الفكرة بأسرع من ومضة برق في شتائنا الفلسطيني الماثل، فما سمعته هو مجرد حلم سرعان ما تبخّر، وعلينا، بعد هذا التصريح الأحمر لا الأخضر، أن نُحضّر أنفسنا، نحن سكان هذا القطاع التعيس، لمجازر، نضرع إلى الله والشيطان معاً، ألا تكون شبيهة بمجازر مخيم جنين الشهير، فبحجة تقليم أظافر ومخالب حماس والجهاد، ستهجم إسرائيل علينا، وهي المستعدة لذلك منذ أشهر، لتطحن الأخضر واليابس، ولتخلط الحابل بالنابل، ذلك هو عهدها معنا، منذ مجازر [الاستقلال، استقلالها] وحتى مجزرة جنين الأخيرة، ناهيك عن مجازرها الصغيرة اليومية، المتكررة هنا على امتداد مساحة القطاع، إنّ الحجة موجودة، وثمة مَن لا يتوانون عن توفيرها لهم من جانبنا، وكل يوم ، من الجهاد الإسلامي وصولاً إلى حماس، والحجة هي [إطلاق الصواريخ على سديروت]!
لقد كان المستوى السياسي في حكومة أولمرت ينتظر موافقة بوش، حتى يأمر مؤسسته العسكرية والأمنية بتنفيذ المخططات الناجزة، وها هو أكبر رئيس دولة في العالم يعطيهم التصريح، فمن هو القادر الآن، في قارات العالم الست، على الوقوف في وجه بوش؟ لا أحد بالطبع، ولهذا لا عزاء لنا نحن المليون ونصف المليون من ساكني المكان، منذ لحظة خروج التصريح هذه، فمن طلب رؤية مشهد شروق الشمس في القدس القديمة، هو الرجل ذاته الذي أعطى لأولمرت الضوء الأخضر لإرسالنا نحن إلى غروب الحياة، إنه، بهذا المعنى، رسول الجحيم، لا رسول السلام والدولة الفلسطينية الموعودة في نهاية 2008!
كيف نُفكّك هذه المفارقة؟
وكيف يستقيم لرجل المشهد الطبيعي الشاعري، الغامر بالنور، أن يُرسلنا إلى نهاياتنا الفاجعة في ليل بهيم؟
لقد بدأت إسرائيل منذ أسبوعين بتقليص كمية الكهرباء إلى غزة، حتى بتنا لا نتمتع بهذه النعمة، سوى نصف الوقت لا أكثر، وحتى صرنا نشهد انقطاعات الكهرباء المفاجئة مرتين وثلاثاُ وأربعاً في الساعة الزمنية الواحدة مِن [نصف الوقت] إياه،
إنه الوقت الذي يلزم للتحضير والإعداد للمجزرة،
وإنها الخطوات الصغيرة اللازمة لتنفيذ الخطوة الكبيرة،
بوش يشهد لحظة شروق الشمس من شرفة فندقه في القدس، ونحن ننتظر غروب حياتنا على يده في غزة، إنهم هكذا مشاريع الشعراء في أميركا، هل تذكرون الشاعر رامسفيلد؟
كان شاعراً ولم يمنعه الشعر من اقتراف كل ما تعرفون ولا تعرفون،
والآن : جاء دور مشروع الشاعر جورج بوش،
فمن ينقذنا منه، ومن ينقذنا قبل ذلك وبعده وفوقه وتحته مِن أنفسنا؟
هذا هو السؤال المطروح على الغزاويين منذ اللحظة وحتى إشعار آخر، هذا هو السؤال الذي بلا جواب!
وإلى أن يأتي أحد بمحاولة الجواب، مِن لا مكان ولا زمان، نخشى أن تسيل دماء كثيرة لأبرياء كثر، هم أولادنا وأمهاتنا وبناتنا وشبابنا، هؤلاء الذين لم يروا يوماً عليه العين منذ أول الانتفاضة، هؤلاء الحالمون بسلام طال انتظاره، فلديهم مثل كل الآخرين، أحلام وطموحات وأشواق، ويريدون تحقيق بعضها أو كُلها، فقط الزمن لا يُسعف، والمكان لا يُسعف، فثمة دائماً وأبداً، لسوء طالعهم، أمثال quot; مشروع الشاعر quot; جورج دبليو بوش.