نظر الإسلام إلى الجسد والروح على أنهما أمانة لله عند الإنسان، وأنه ليس من حق هذا الإنسان أن يتصرف فيهما إلا وفقا لضوابط شرعية واضحة هدفها إثراء الحياة البشرية وتعزيزها، لا تدميرها وتصفيتها، وذلك خلافا لهؤلاء الذين يجرمون في حق أنفسهم ودينهم وأمتهم، بخيانتهم لأمانة الله في أجسادهم وأرواحهم، والأنكى خيانتهم لأمانة الله في أجساد وأرواح الأبرياء من عياله.
مفارق أن يصمت علماء الإسلام وفقهاء شريعته عن quot;العمليات الانتحاريةquot;، التي يصفها الغلاة مغالطة بquot;الاستشهاديةquot;، في حين يهبون للإفتاء في كل شيء مهم وغير مهم، من الناموس الذي إذا سقط في الماء أنقض الوضوء، وحتى رضاعة الكبير التي تحقق الأخوة وتسقط الحرمة.
لقد جرى طيلة العقود الماضية quot;تبديعquot; الكثير من الظواهر الطارئة على حياة المسلمين، على الرغم من طبيعتها الإيجابية، أو على الأقل عدم إيذائها، كما هو شأن الديمقراطية مثلا، التي قيل إنها بدعة غربية، وأنها ككل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار، وبالتالي فإنه لا يجوز للمسلم الحق أن يكون ديمقراطيا، أما quot;العمليات الانتحاريةquot; التي تقتل الأنفس البريئة بغير حق، وتسفك الدماء وتفسد في الأرض، فليست بدعة quot;يابانيةquot; أو quot;فيتناميةquot;، دخيلة على ممارسات المسلمين، وسنة ذميمة طارئة على تفكير بعض غلاتهم، تستحق quot;التبديعquot; وquot;التضليلquot; وquot;النارquot;.
إن مراجعة التاريخ الإسلامي تحيل إلى مئات حالات الاحتلال والظلم والاستبداد، غير أنها لا تحيل البتة تقريبا إلى أن المسلمين قد عمدوا إلى الانتحار وسيلة للمقاومة، بل إن المتواتر الثابت المتداول في الأوساط الفقهية والشعبية الإسلامية على السواء، هو حرمة quot;الانتحارquot;، بالنظر إلى عدم أحقية الإنسان في التصرف فيما لا يملك، ناهيك عن قتل الناس وإشاعة الفتنة والتشبيه على الخلق.
لقد جاء بن لادن والظواهري والزرقاوي و من شاركهم درب سفك الدم وتفجير الأبرياء من المسلمين وغير المسلمين وإثارة الفتن والخوف والفزع وتكريه العالمين في الإسلام، ببدعة وضلالة لم يسبقهم إليها أحد من العاملين على نصرة الدين المحمدي وإعلاء رايته، وكان من واجب علماء وفقهاء الأمة الإسلامية المشهورين، من أمثال الدكتور القرضاوي والدكتور على جمعة والعلامة حسين فضل الله، وغيرهم من المراجع الدينية ذائعة الصيت، أن يتصدوا بالفتوى الصريحة الواضحة إلى حرمة هذه البدعة وتضليلها ودعوة ممارسيها والمحرضين عليها والداعين لها والساكتين عليها، إلى التوبة والمثابة وطلب المغفرة من الله والناس، والكف عن إيذاء الإسلام والإنسانية بجرائمهم النكراء.
لقد قاوم المسلمون على مر تاريخهم الغزاة من كل نوع، كفار قريش وهمج المغول والتتار و جنون الفرنجة الصليبيين وحملات الاستعماريين المحدثين، الفرنسيين والإسبان والأنجليز والبرتغاليين، غير أنهم لم يمارسوا أبدا العمليات الانتحارية، فقد تصدوا إلى أعدائهم بشجاعة وحاربوا قدر ما استطاعوا من حاربهم، ولم يبتدعوا قتل أنفسهم مهما قست ظروفهم واشتدت وطأة المحتلين عليهم.
ومن السيرة النبوية يذكر أن الرسول (ص) قد استقبل خالد بن الوليد (رض) استقبال الأبطال في المدينة المنورة بعد عودته منسحبا منكسرا من غزوة مؤتة، باعتباره قد نجح في الحفاظ على أرواح المقاتلين المسلمين، وقد كان واردا أن يؤنبه ويقرعه لأنه لم يقاتل الروم حتى آخر رمق وآخر جندي، غير أن النبي الكريم كان باستمرار ضد الانتحار بحجة التصدي للعدو، أكان ذلك في المرحلة المكية، مرحلة اضطهاد المؤمنين، أو المرحلة المدنية،مرحلة بناء الدولة والشريعة.
وقد حفلت سيرة الخلفاء الراشدين، بما يعزز النزعة الإنسانية في السلوك الحربي للمسلمين، إذ يذكر الرواة وصايا الخليفتين أبو بكر وعمر (رض) للفاتحين بأن لا يقطعوا شجرا، ولا يقتلوا صبيا أو إمراة أو شيخا، ولا يقاتلوا من لا يحمل سلاحا، وأن يعاملوا رجال الدين من غير المسلمين، من المتنسكين في الأديرة والصوامع والكنائس، برحمة وعدالة، وأن لا يمثلوا بأجساد أعدائهم المقتولين، و أن يحترموا حقوق الأسرى والمهادنين.
ولست أعلم شخصيا، أي منطق أو علم شرعي يضبط تفكير وعمل أهل القاعدة وجماعات العنف الإسلامية المدمرة، وكل أولئك الذين يسفكون بقلب بارد دماء الأبرياء المعصومة، ويغسلون أدمغة شباب مأزوم ليحولوهم إلى وسائل إجرام شنيعة، ويبدلون الإسلام من رسالة سماوية سمحاء، جوهرها إشاعة المحبة والتراحم بين الناس، إلى رسائل مفخخة تلقي الرعب في نفوس الخلق وتلحق بسمعة العقيدة المحمدية أسوأ الأثر، بما لا يلحقه أشد أعدائها بها.
إنه ليخشى أن يفسر صمت علماء المسلمين على بدعة العمليات الانتحارية، بأنها موافقة ضمنية عليها، بحجة أنها رد فعل ونتاج لظواهر يعتبرها هؤلاء العلماء منافية للشريعة الإسلامية، والبين أن فساد الواقع أو انحرافه على افتراض صحة ذلك كليا أو جزئيا، لا يمكن أن يفضي إلى منح الحلة والشرعية لوسائل احتجاج فاسدة ومهلكة للنسل والضرع والعقل والدين والحياة، من قبيل العمليات الانتحارية.
وعلى الرغم من اختلاف وجهة نظري مع كثيرين في كيفية مقاومة الاحتلال الأجنبي في العراق على سبيل المثال، حيث أرى في تثبيت العملية السياسية الديمقراطية وتعبئة القوى الحية وتحقيق الوحدة الوطنية أفضل الآليات لوضع حد للوجود العسكري الأمريكي، إلا أنه لن يكون من حقي أبدا سحب حق المقاومة المسلحة الحقة عن كل من يريد ممارستها على النحو الذي مورست به من قبل في ليبيا ضد المستعمر الإيطالي أو الجزائر ضد المستعمر الفرنسي، أما قتل المدنيين العزل الأبرياء، من شيوخ وأطفال ونساء وعمال بسطاء فقراء، وأعوان شرطة وخدمة مدنية ومسؤولين وموظفين في أجهزة الدولة الخدمية، فلا علاقة لها بالمقاومة المشروعة للمحتل، ولا يمكن النظر إليها إلا كجريمة نكراء لا علاقة لها بالدين، وهي بدعة وضلالة بينة كريهة، تستحق اللعنة في الدارين الأولى والآخرة.
إن المقاوم أو المجاهد الحق، هو الذي يقاتل من يقاتله بشجاعة ووضوح وبسالة، أما هؤلاء الذين يخدعون الناس، ويأخذون الأبرياء على حين غرة بالقتل والغيلة، ويستغلون سذاجة السذج وبساطة البسطاء وإنسانية الخلق، ليسفكوا أكبر قدر من الدماء، فإنهم عصابات من لعقة الدم، ومن المجرمين الجبناء، و زمرة ضالة من مغسولي الدماغ والأبرياء، بدل أن يعملوا على إحياء النفوس جميعا قاموا بقتلها، وبدل أن ينشروا السلام الذي هو تحية الإسلام نشروا كراهيته و وفروا الحجج والمبررات لأعدائه والحاقدين عليه، وعلى حضارته، و على إسهاماته وإضافاته لتاريخ البشرية.
أيها العلماء والفقهاء المسلمون، لا يخيفنكم القتلة أو يرهبنكم الغلاة المتطرفون، فتقعدوا عن آداء واجبكم في رفع الشبهة وتحديد موقف الإسلام الحق الداعي إلى الحياة لا الموت، والمحرض على المحبة لا الكراهية، والمشجع على مد اليد للآخر والتواصل معه بما يخدم الإنسانية جمعاء، لا المشجع على الحرب والغدر والجريمة، و لتقولوا إذا كلمتكم المدوية وتنقذون بها آلاف الشباب المأزوم بالبطالة وانسداد الأفق، لكي لا يحوله الضالون المضللون إلى أدوات لتصفية حسابات حقيرة ضيقة أو تحقيق مشاريع فاسدة منحرفة.
* كاتب تونسي

اية اعادة نشر من ذكر المصدر ايلافتسبب ملاحقه قانونيه