إعمال حكم القانون (Rule of Law) أمل وعمل كل الشعوب التى تسعى إلى النهضة والتى تعرف أنه لابد من حمل مشاعل التنوير. ذلك أن حكم القانون يجعل كل شىء منضبطاً محدداً معروفاً من قبل لدى الجميع؛ وهو أمر يضاعف مردود أى نشاط فردى أو جماعي. لكن القانون ليس لفظاً يُساق أو حروفاً تـُلاك بغير نفاذ إلى معانيه ومقاصده. وللوصول إلى هذه الدرجة من الفهم أو لهذه الحالة من الإدراك، لابد أن يكون الشعب أو الأكثرية فيه، قد نبذت التجسيد واستوعبت التجريد، فإذا لم يحدث ذلك تعلقت الجماعة أو الشعب بالأشخاص، حكاما كانوا أو إداريين. فمن لا يستطيع أن يلحظ القانون لا يرى إلا الحاكم أو الوزير أو المدير أو العمدة أو شيخ الخفر. وهؤلاء يرُون القاضي ولا يفهمون أو يدْركون القانون، ومن ثم فإنهم يتصورون أن القاضي يستطيع أن يفعل أى شىء، ولا يمكنهم إستيعاب فكرة أن المحكمة أو القاضى يتبع فى كل حركاته ولفتاته، وأحكامه وقرراته، قوانين موضوعة من قبل، ومعروفة له وللمحامين. حقيقة أن للقاضى ndash; وخاصة فى المسائل الجنائية ndash; مساحة للتقدير، لكن ذلك يحدث ضمن ضوابط ومعايير يحكمها النظام القضائى، وتنتقل بين رجال القضاء والمحامين جيلاً إثر جيل.
من أول نتائج الإستنارة معرفة الحق وبيان الحد؛ دون وجود أى إتجاه للمماطلة أو المشاغبة. والقاضى فى مثل هذا المناخ يحكم فى دعاوى جدية، يوازن بين مستندات صحيحة، ويرجح بين أقوال صادقة، لايداخلها الكذب ولا يشوبها الإختلاق. ولقد كنت مدعوا إلى فرنسا من وزارة الخارجية ومن جامعة السوربون، وكان ضمن برنامج الزيارة أن أحضر إنعقاد الجمعية العامة لمستشارى محكمة إستئناف باريس، وأدهشنى أن رأيت أن عدد المستشارين 21 مستشاراً، يشكلون سبع دوائر للقضايا الجنائية والمدنية والتجارية والبحرية والعمالية والأحوال الشخصية، يضاف إليهم رئيس المحكمة، وعمله إدارى فى الغالب، فيصبح العدد 22 مستشاراً. هذا فى الوقت الذى بلغ فيه عدد المستشارين فى محكمة إستئناف القاهرة حوالى ثلثمائة مستشار. وفى هذه الزيادة البالغة ما يدل على كثرة المخاصمات والمنازعات، سواء عن حق أو عن غير حق، كما يؤدى إلى أن يُصبح عمل المحاكم أقرب إلى الكمّ منه إلى الكيف (Due to quantity not quality).
عندما بدأت العمل فى نيابة الأسكندرية، كان الغاء القضاء المختلط قد حدث مُنذ وقت غير بعيد، ومن ثم كانت التقاليد والمعاملات حضارية لم تزل. فقد كان من المقرر والشائع أن يرسل كل محام إلى زميله المحامى عن الطرف الآخر، حافظة مستندات موكله وأن يتلقى فى الوقت نفسه حافظة مستندات خصم موكله. وبعد أن يتبادل المحاميان الإطلاع يناقشان موضوع الخصومة، ويحلاّن معا ما يمكن حله منها، فإذا بقيت نقطة أو أكثر دون إتفاق بينهما لجآ إلى المحكمة لتفصل فى نقطة واحدة أو نقطتين، من مستندات حرص كل جانب على صحتها وسلامتها ومن مرافعات تتسم بالجدية والتزام القانون. بعد ذلك ابتدأ الأمر يتغير إلى ضده، من ذلك أن السلطة كانت قد عدّلت عقوبة حيازة أو إحراز جواهر مخدرة فجعلتها جناية بعد أن كانت جنحة، وحدث فى قضية إتجار عقوبتها الأشعال الشاقة المؤبدة أن سرق سكرتير التحقيق، والموظف فى النيابة، إذن تفتيش بيت المتهم الذى بمقتضاه حدث التفتيش وتم ضبط المخدارت، وشاع أن الموظف باع أصل أذن التفتيش إلى المتهم مقابل مبلغ كبير، وكانت النتيجة أن أصبح التفتيش دون سند، وهو بالتالى تفتيش باطل. وبعد إجراء التحقيق مع الموظف لم تثبت عليه أية جريمة وإن كان جُرمه مفهوماً للجميع، وبهذا وُقــّع عليه جزاء بخصم نسبة من مرتبه، وكان هو يعرف ذاك من قبل، ولم يعبأ بالخصم لأنه تقاضى ألف ضعف لما خسره. وبدأ وكلاء نيابة الأسكندرية ndash; بعد هذه الواقعة ndash; فى كتابة إذن التفتيش بنصه فى صلب محضر التحقيق، حتى إذا ما سُرق لم يكن لذلك الأثر الذى يحدث إذا لم يكن الأذن بالتفتيش مثبتاً فى محضر التحقيق. وكذلك شاع أن يمكـّن كاتب فاسد شخص من حرر شيكاً دون رصيد، وهى جنحة فى كل القوانين، أن يكتب على الشيك تاريخاً آخر فيحوّله بذلك من شيك يعاقـَب على عدم الوفاء به بالحبس إلى أن يصبح سنداً إذنيا (كمبيالة) تخرج من النطاق الجنائى لتصبح منازعة مدنية. والكاتب الفاسد يحسبها تماماً، فيقتضى من المتهم بإصدار شيك دون رصيد قائم وقابل للسحب رشوة تزيد أضعافاً مضاعفة عن المبلغ الذى يخصم من مرتبه إذا ما وُقـّع عليه جزاء إداري.
وثمت واقعة أذكرها لتبين مدى ما حدث فى النفوس من زيادة الشر وإتباع سبيل الظلم وأغرب طرائق التزوير. فقد كنت قاضياً فى دائرة بمحكمة القاهرة، وفى الجلسة المدنية عُرضت قضية واقعتها أن شخصا كان مديناً بمبلغ كبير جداً لشقيقين. سدد لهما المدين مبلغ الدين ووقعا على مخالصة بذلك. لكنهما عادا وطالباه بالمبلغ أمام المحكمة، فلّما دفع الخصم الدعوى بأنه سدد مبلغ الدين وقدم المخالصة التى وقع عليها خصماه أمامه، أنكراها وطعنا عليها بالتزوير. ندبت المحكمة قسم أبحاث التزييف والتزوير بمصلحة الطب الشرعى لمضاهاة توقيع الشقيقين (ويحصل ذلك باستكتاب الخبير المنتدب لكل منهما توقيعه، ومضاهاته فنياً على التوقيع المنسوب إليه على الإيصال محلّ الطعن بالتزوير) وانتهى الخبير الفنى المختص إلى أن توقيع كل من الشقيقين مزور عليه ولم يصدر منه. جُن جنون الخصم، فالمبلغ كبير جداً، وقد قام بسداده، ووقع الشقيقان أمامه، واعتبار المخالصة مزورة سوف يوقعه فى جنحة تزوير محرر عرفى. مع أنه كان له محام فقد أصر هو على الكلام وذكر ما حدث وظل يقسم بالله ويكرر القول بحُرقة وحماس أن الشقيقين وقعا على المخالصة أمامه؛ وهو يطلب ندب كبير قسم أبحاث التزوير والتزييف لمراجعة تقرير الخبير الفنى بعد إجراء عملية استكتاب جديدة وفحص آخر. خطرت فى بالى فكرة فسألت المحكمة الرجل عن كيفية مشاهدته للشقيقين وهما يوقعان، هل وقـّع كل منهما أمامه مشاهدة، أم أنهما وقعا عن بعد من مشاهدتهما؟ فقرر الرجل أنهما وقعا واحد بعد الآخر على المخالصة التى كانت على مكتب فى الغرفة بينما كان هو يجالس الآخر. أثناء المداولة قلت لزميلىّ، وماذا لو أن كل من الشقيقين وقع فعلاً ولكن باسم شقيقه، وهو أمر لا يتصوره أحد، ولم يتخيله المدين الذى اقتضى المخالصة منهما بعد أن وقعا عليها أمامه. أصدرت المحكمة حكما جديداً، بندب قسم أبحاث التزييف والتزوير لمضاهاة توقيع كل من الشقيقين باسم شقيقه، على التوقيع الأصلى له وباسمه. كانت المفاجأة أن الخبير الفنى الذى فحص انتهى إلى أن كـُلاّ من الشقيقين قد وقع باسم شقيقه، دون أن ينتبه خصمهما إلى ذلك لأنهما تعمدا لفت نظره عن رؤية هذا التزوير، الذى لم يخطر على باله أبداً، ولم يذكره أمام المحكمة، خاصة وأن مناخ السداد وظروفه تكون مناسبة للصلح وحسن النية. حكمت المحكمة برد وبطلان سند السداد وبإبراء ذمة الخصم من المبلغ الذى سدده فعلاً، بعد أن ثبت لها أن توقيع كل من الشقيقين بدلا من شقيقه يدل على أن التخالص قد حدث وأنهما أرادا الكيد لخصمهما وايذائه، بذلك وقعا هما في جنحة تزوير ونال الرجل حكما ببراءة ذمته من الدين.
ذاك أسلوب فى القضاء يجري على الكيف (Quality) كما هو شأن الفنان الذى يرمى إلى انتاج تحفة فنية بصرف النظر عما يستغرقه من وقت فى الإنتاج وعن العائد الذى يقتضيه مقابل ذلك، وهو اسلوب يختلف عن الأسلوب الكمىّ الذى يهدف إلى إنتاج أكبر عدد، أو إنجاز أكثر عمل، وهو يردد العبارة التى شاعت وذاعت quot; على قد فلوسهم quot;.
هذا فيض من غيض، عن ذكريات العمل القضائى، تبين كيف تحولت النفوس إلى الشراهة والنهم والشر واللدد فى الخصومة، فزادت أعداد القضايا فى المحاكم، وبات القضاة - فى حرص على الإنجاز- يلجأون إلى أسلوب الكمّ، فى عمل لابد فيه من التروّى والتأنى والتدقيق. وهذا الذى يحدث فى مصر يحدث فى أكثر البلاد العربية، لكنى أختص مصر بالذكر حتى لا يقول قائل: ولماذا ترى القشة التى فى عين أخيك ولا ترى الخشبة التى فى عينك؟ يقصد بذلك أن ينبه إلى عدم ذكر أخطاء ومساوىء عند الغير قبل بيانها فى البلد الذى يحيا فيه صاحب القلم؛ وهو مصر.
ثم ماذا؟ كيف يمكن أن يحيا الناس فى أجواء تمتلىء بالكراهية والضغائن والمكائد والمشاغبات واللدد فى الخصومة والتربص للإيذاء؟ أليس عيشاً فى الجحيم؟ (ولجان بول سارتر مسرحية عنوانها quot; الجحيم هم الناس quot;). كيف يستسيغ العقل السليم والخلق المستقيم أن يُرفع فى مصر كل يوم نصف مليون آذان بالصلاة، ومع ذلك لا توجد فيها معاملة واحدة صحيحة (إلا نادراً)؟.
Email:
[email protected]

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه