الوحدة العربية بين تداعيات
(2/2)

معظم الحكومات العربية لم تتجاوز مرحلة المراوحة مكانها، ولم تتعد أسلوب المماطلة في اتخاذ القرار، ولم تواظب إلا على تأجيل إيجاد الحل بحق الأرض المغتصبة، مما أعطاها الفرصة المواتية لكسب الوقت، وكسب المواطن، وكسب ثروات البلاد دون سؤال أو حساب، فتحولت من الشرعية الدستورية إلى الديكتاتورية quot;الأوليغارشية quot; دون رادع من أحد أو وازع من ضمير، حتى سادت سياسة الفساد وعمّت أرجاء الوطن وتفشّت في كامل أوصاله ومفاصله، ودائما الحاكم ورجل السلطة المُفدّى حاضران للتبرير أو للظلم، ودائما الحجّة ذاتها quot;الصمود والتصدّي quot; ومع مرور الوقت تمّ تعديل سبطانة الصمود والتصدي عن وجه العدو لتُسدد فقط إلى وجه المواطن العربي ووجهته، وهو لا يزال يتوسم خيرا في قيادات بلاده ورجالاتها الأشاوس الذين يتقنون جيدا الوقفة المنبرية لا غير وإطلاق الأحكام التعسفية بحق من تسوّل له نفسه مجرد المساءلة أو فتح أي باب من أبواب الحوار الذي لا يؤدي إلا إلى أبواب المعتقلات والزنازين، وهكذا ظلّ المثقّف العربي شأنه شأن المواطن العادي يواصل الانتظار المملّ مصفقا تارة ساخطا بصمت أخرى، ريثما يأتِ إعلان الوحدة العربية ويكون الإجماع العربي استعدادا للمواجهة الفعلية مع الكيان الصهيوني الغاصب المُتنامي بضراوة هائلة وإن بعد حين، وتوالت الأحيان، وتضاءلت الفرص، وتفاقمت الخلافات بين الأشقاء ودول الجوار، وتوالدت الأحقاد، وتمادت الحكومات، وتراكمت المُتغيرات، وتزاحمت المصالح والفئات، وانشقّ المثقفون، ووحده المواطن العربي لا يزال على العهد مخلصا لثوابته الوطنية والقومية، في حين أنّ العديد من المثقفين العرب الذين ملواّ المراوحة دون مبرر وقد سئموا واجب quot;الالتزام quot; في ظلّ الوهم الكبير، وهْم النهوض العربي الموعود، مؤْثرين التحوّل والانتقال إلى جدلية أخرى أساسها النزعة quot;البرغماتية quot; التي أهّلت الكثير منهم للحصول على امتيازات لم يكن هناك أحد ليحلم بها يوما، وهكذا ظلّ المواطن وحده أسير المُراوحة بين الاجترار والتحوّل، اجترار الشعارات مثل: /الوحدة، الحرية، السيادة، الاستقلال / حيث توّلد منها وتراكم عنها وفاض وغاض الكثير من القضايا المعلّقة دون طائل أو حلّ والمواطن العربي لا يملك سوى رهانه الممجوج من أجل / تحرير فلسطين، تصديق حقّ العودة، استرجاع الجولان، استقرار العراق، إحقاق الوفاق الوطني في لبنان وغيرها من المواضيع الشائكة/ وهكذا تابع المثقف العربي تقدّمه، وتعرقل من معه من صنوف المؤيدين بين خيارين إمّا المقاومة أو التطبيع، والمقاومة تعني الاعتراف العلني بوجود quot;العدو quot; المُتربّص بأمن واستقرار ومستقبل العالم العربي وأمنه وأمّتة، وبالتالي وجوب التصدّي له والمواجهة معه للدفاع عن الهوية، والهيبة، والكيان، والمصير كفرضية حتمية، في حين يُقرّ البعض الآخر بسقوط quot;النظرية الثوريةquot; وانعدام إمكانية إحياء فكرة quot;الوحدة العربية quot; باعتبار أنّ quot;العدو الحتمي quot; صار مشروع quot;صديق محتملquot;، وقد ساد شعار quot; التسامح quot; على امتدادات أمميّة تجاوزت حدود العالم العربي وتعدّت كافة الجهات ووجهات النظر، حيث يرى هؤلاء إمكانية تهذيب عداوة العدو بإعلان المسامحة المُطلقة، وقبول الصلح معه والموافقة على كامل الشروط المُسبقة منه، دون تردد وذلك بدافع quot;براغماتي quot; مُتبادل، ساهم في تحريك دفّة الأزمة من محيط الصراع العربي- الإسرائيلي، إلى خضمّ الصراع العربي ndash; العربي، وبين هذا وذاك ومن عمق الشرخ العربي الكبير، طفت على السطح حركات جديدة باسم الإسلام، توسّم منها الشارع العربي المخذول منذ نصف قرن ويزيد، بعض الأمل كقوّة رادعة يُمكن أن تدخل في حسبةِ ميزان القوى على الأقل كمعادل رعب، لكن لم تلبث هذه الفرق الطفيلية أن بدأت تُمارس صلفها ووحشيتها المروّعة لتأديب الشارع العربي لا سواه حسب أهوائها وأمزجتها المحدودة ضمن نطاق الأصولية والتكفير، وهي تتميّز باللا منطق واللا معقول، سلاحها التطرّف ودافعها الإرهاب والترهيب، مبرر وجودها الجنوني الأوحد فائض التمويل الذي دخل بفضل الدولار مرحلة من مراحل التنافس الخطير الذي يُهدد كيان الدولة ويقوّض هيبتها إلى جانب كثير من الأحزاب ذات الحضور، وعوضا عن ضرب قوى الشر في الخارج، عكفت على ممارسة أعمالها اللا إنسانية داخل الصعيد المحلي الذي انحسرت فيه حركتها المُريبة، ونشاطها الفاضح دون هدف محدد إلا اللهم جملة من الذرائع الواهية باسم الثواب والعقاب، ضاربة أسس الشريعة الإسلامية الحقيقية، عرض القناعات العشوائية المُغرضة بأفكار طائشة وماكرة لا غير، إذ هل من المنطق أن نقبل بتبرير العمليات الإرهابية بحق الأبرياء والمدنيين كالتي فجعنا متابعتها في العديد من الدول العربية التي شهدت أبشع المشاهد لصور الخراب مثل / مصر، السعودية، الأردن، المغرب، الجزائر، لبنان، العراق/، وهل يُمكن أن نؤيد هذه الأطراف المختلّة اجتماعيا وإنسانيا وعقائديّا، مهما كانت الغاية نبيلة بتلك الوسائل والأساليب العدوانية البغيضة؟.
وأود أن أختم بسؤال راودني على امتداد السطور، هل لا تزال فكرة quot;الوحدة العربيةquot; قابلة للتطبيق أو للتنظير حتى، وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه من الانهيار والتشرذم والتناقض والتباغض والتهديد العالمي الجديد؟
ثمّ هل إن مصطلح quot;الوحدة العربية quot; كان المقصود به فعلا معنى الإجماع والالتحام والاتحاد والتضامن والمشاركة والمآزرة والانتماء؟...
أتصفّح قاموس quot;المنجد في اللغة والإعلام quot; أطالع تلك المفردة البديهية في مبناها ومعناها وقد توارثناها منذ زمن بعيد، يُفاجئني أنّ الدلالة الموضّحة تختلف تماما عمّا تعنيه تلك المفردة الشائعة وقد جاء تفسيرها على النحو التالي: /وَحْدَةٌ أو وِحْدَةٌ / أي انفرد بنفسه فهو وحيد وفي تفصيل آخر / الوحدة / : معنى ً ضدّ الكثرة، وأوجّه السؤال إلى أهل المشورة والاصطلاح والتشريع هل كان المُراد من شعار الوحدة العربية هو ما شهدناه وخبرناه مُمارسا علينا كشكل من أشكال quot; العزلة العربية quot; لا غير والتي نحياها في زماننا الراهن متمثّلة بانفراد كل قطر، وحيدا بعيدا عن القطر الآخر، لا يقيم وزنا سوى لقراراته ولا يحترم التزاما سوى لقوقعته، حيث تتناقض كل دولة بمواقفها وتتفاوت بتصريحاتها وبياناتها مع نظرائها من الدول الأشقاء؟
تراه من يملك جدّيّا محاكاة هذا المصطلح quot;الوحدة العربية quot;، مقاربته، معالجته، تأكيده، تفسيره، شطبه، نفيه، تعديله، وهو يحمل من التداعيات في ذاكرتنا المكتظّة والمتعبة حدّ التلف، ما يكفل لنا المُطالبة دون تردد بتحديد موضوعية مطلب الشعوب العربية، ومطلب الدول العربية، ومطلب حكامها الأبرار، بعيدا عن التعليل والتأجيل والمماطلة والثرثرة، وأشدد بإلحاحٍ على ما هو المقصود فعليا ب quot;الوحدة العربية quot; وكيف السبيل إلى المُباشرة الجديّة للبتّ أو البتر.. وأظنه قد آن الأوان للحسم، فمن المخجل أن تتحقق الوحدة الأوربية بإزالة الحواجز والحدود، لدعم الاقتصاد وquot;اليورو quot;، بينما نجد أنّ العالم العربي على أبواب مرحلة جديدة من الغزو والسلب والمحو ولا يزال يغطّ في سُباته ويركن إلى طمأنينته الفادحة، لا يكترث بعبرة ولا يُبال باحتلال غير مأمون الجانب مهما تحلّى بالدبلوماسية والديموقراطية والمسوغات، فالمنطقة برمّتها وثرواتها وشعوبها وحكامها قيد التخطيط والتكتيك والرسم وفق الخريطة والجداول والمصالح الإسرائيلية- الأمريكية أولا وتاليا وأخيرا فلتكن المواجهة أو التسليم؟..
وكفانا تحايلا وشعارات، وضحك على الذقون، وتأجيج خواطر، واستعراض مواقف وتجميل صفاقات وquot;صفقات quot;.

[email protected]
www.geocities.com/ghada_samman

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه