(1-2)

أ - نقاط عن البرنامج الانتخابي

توقفنا أكثر من مرة، قبل انتخاب سركوزي وبعيده، عند البرنامج الإصلاحي الطموح الذي بنى عليه حملته الانتخابية. إنه برنامج يشمل جملة من الإصلاحات الكبرى في مختلف الميادين، كسوق العمل وعقوده الجديدة، وساعات العمل، ونظام التقاعد الخاص، بما يؤدي كل ذلك لزيادة الانتاجية، وزيادة الثروة الوطنية، وهو ما سيسمح بزيادة القوة الشرائية للفرنسيين، والقدرة على المنافسة التجارية الدولية؛ كما يشمل البرنامج قضية الهجرة، وضمان الحد الأدنى من الخدمات في المدارس ووسائل النقل العامة خلال الإضرابات، والتعليم الابتدائي، والتعليم الجامعي، والبيئة، وتحديث المؤسسات، والعناية بمعمارية العاصمة لتعود لرونقها السابق، وإلغاء الإعلانات في فنوات التلفزيون العام الممول من الدولة. إن الرئيس الفرنسي يصف برنامجه الإصلاحي ب'برنامج الحضارة'، أو من أجل الحضارة، قاصدا التغيير والتجديد المستمرين بما يواكب تحديات العولمة، ولبرالية الاقتصاد، ومستجدات الوضع الدولي، وكل ذلك سيسمح بالخروج من قوقعة 'النموذج الفرنسي الفريد'، الذي لم ينتج غير البطالة الواسعة، والركود الاقتصادي بالمقارنة مع دول أوروبية أخرى كألمانيا وبريطانيا. إنه أيضا النموذج الذي فشل في تحقيق اندماج أبناء الهجرة بحيث يؤمنون بالمواطنة الفرنسية، وواجباتها، وحقوقها، ويحترمون قوانينها، مع الحفاظ على أصولهم الثقافية، والجغرافية، والروحية.

إن الرئيس الفرنسي يدافع عن نهجه في العمل لتحقيق الإصلاحات دفعة واحدة وليس تحقيق إصلاح واحد والانتظار لتحقيق إصلاحات أخرى، مفسرا، ومبررا بأن كل هذه الإصلاحات مترابطة جدا. ومن هذا المنطلق أيضا يرد على من ينتقدون حضوره في كل الجبهات، قائلا إنه انتخب ليكون رئيسا يعمل لا رئيسا رمزيا، وقال إن وجوده على كل الجبهات يجعله المسئول الأول عما يقع من أخطاء وفشل. إن خصومه يتهمونه بالقيادة الفردية، وحتى بالنزعة الملكية وكأنه ورث عرشا ولم يأت بانتخابات عامة. مع ذلك أليس ضروريا ترك مساحة أكبر لتحرك وحضور رئيس الوزراء؟ ألا يغالي في تحركه على كل الأصعدة؟

إن من أبرز أسس النهج الجديد لسركوزي هو الانفتاح على شخصيات من غير معسكره، والإيمان بالتعددية، والشفافية، وإرادة التغيير؛ وإصراره على الحوار الاجتماعي مع النقابات للتوصل سوية ومع أرباب العمل لحلول واقعية وناجعة للمشاكل، وقد جلس مع زعيم النقابات الشيوعية محاورا، وأشاد بروح الحوار.

إن الرئيس الفرنسي شخصية سياسية متعددة الجوانب، ومركّبة إن صح التعبير، ومن هنا ما يبدو من تناقضات في مواقفه وسلوكه، أو ما هو حقا تناقضات.

لقد حضر بلير مؤتمر الحزب الحاكم، الذي انعقد منذ أيام للتحضير للانتخابات البلدية المقبلة، وقوبل، وهو العمالي الاشتراكي، بترحيب حماسي جدا، ومعلوم أن بينه وسركوزي توافقا، وتجاذبا، وتشابها في النهج. وقف بلير خاطبا ليشيد بديناميكية الرئيس الفرنسي، ولينتقد دعاة الحفاظ على كل شيء كما هو، وهو يقصد الاشتراكيين الفرنسيين، وقال إن القضية ليست قضية يسار ويمين، بل قضية صواب وخطأ، أي أن دعاة التغيير هم الذين على صواب.

ب ndash; شيء عن حصيلة ثمانية شهور:

رغم قصر الفترة فقد وقعت أحداث مهمة، فرنسية، وخارجية ذات علاقة بفرنسا، وبعضها يستحق مقالا مستقلا كقضية السياسية الكولومبية ndash; الفرنسية، 'بيتنغور' المختطفة الأسيرة منذ ست سنوات عند العصابات الماوية في كولومبيا، ومن ذلك أيضا قضية الفرنسيين الستة المحكوم عليهم في تشاد بثماني سنوات بتهمة محاولة خطف أطفال تشاديين. هذه قضايا هي خارج موضوع اليوم.

إن من المفيد أولا أن نقف وقفة خاطفة جدا عند ما تحقق بعد ثمانية شهور من برنامجه للإصلاح الداخلي.

إن الفرنسيين مستعجلون رغم دعم الأكثرية لبرنامج الإصلاحات، وفي فرنسا أطراف وأحزاب ونقابات تعارض التغيير، وذلك من منطلقات مختلفة، وإن مدة ثمانية شهور قصيرة جدا في عمر الرئاسة، ومن هنا فمن السابق لأوانه التوصل لحكم موضوعي على الموضوع. لقد سألوه عن الهم الأول للفرنسيين اليوم وهو القوة الشرائية، وأين مكانها من تصريحاته في المؤتمر، وكان جوابه أن مجموع الإصلاحات ستعني زيادة القوة الشرائية، وأنه إن كانوا يقصدون رفع الأجور والمرتبات اعتباطا فمن أين الدفع والأموال اللازمة غير موجودة، والعجز المالي والتجاري خطير. أما عن موضوع الهجرة، فنعرف أن الحكومة الفرنسية تريد وضع ضوابط صارمة لها وفقا لنظام 'الكوتا'، ولكن ها هي اللجنة التي ألفها سركوزي لبحث قضايا التمنية الاقتصادية توصي بإطلاق الهجرة! إن رئيس اللجنة ' أتالي' كان من أقرب مستشاري ميتران، الذي طبق خلال حكمه سياسة منح هويات الإقامة بعشرات الآلاف دفعة واحدة للمهاجرين غير الشرعيين، وهي سياسة ثبت فشلها وضررها؛ وقد رد بعض الباحثين على دعوة لجنة أتالي داعين سركوزي لرفضها، وهو المتوقع، إذ لا علاقة مباشرة بين إطلاق الهجرة والتنمية الاقتصادية المطلوبة في هذه المرحلة، خصوصا وأنه يجب التفكير في إشكاليات السكن، والضمان الاجتماعي، واندماج أبناء الهجرة الموجودين منذ سنوات، وقد رد سركوزي في مؤتمره الصحفي على صحفية اتهمت الحكومة بسجن مهاجرين غير شرعيين فرد بأن ذلك غير صحيح ولا يوجد غير مهاجرين غير شرعيين بانتظار تسفيرهم لبلدان الأصل، وأضاف أنه لن يكرر تجربة الاشتراكيين بمنح الهويات بشكل جماعي، وأنه حتى حكومة أسبانيا الاشتراكية والحكومة الألمانية قد تراجعتا عن سياسة فتح أبواب هويات الإقامة كيفما اتفق.

بخصوص مشروع إصلاح النظام الخاص فقد أخذ يشق طريقه بدعم شعبي واسع، وفيما يخص سوق العمل وتجديد العقد تم مبدئيا التوصل إلى أساس اتفاق بين النقابات وأرباب العمل بعد جلسات تفاوض استمرت شهورا أربعة، ويظهر أن نقابة[ س. ج. ت. ]اليسارية هي وحدها متحفظة على ما توصلوا إايه، وهي نفس النقابة التي أشعلت إضراب المطار عشية أعياد الميلاد والعام الميلادي الجديد، تاركة المئات من العائلات بانتظار مرهق أياما.

في مجال الجامعات تم تخصيص مليارين لإصلاحها، ومنحها حكما ذاتيا؛ وبالنسبة لخدمات الحد الأدنى فلا قانون حتى الآن، أما فيما يخص وعد سركوزي بإلغاء قانون العمل 35 ساعة فقط فقد ناقض نفسه في مؤتمره الصحفي الأخير حين قال إن الهدف ليس الإلغاء القانوني بل جعل القانون السابق أساسا للعمل الإضافي المجزي.

نترك ملاحظاتنا اليوم لهذا الحد، لنشير لبعض المواقف الدبلوماسية البارزة وأهمها تحقيق فكرته عن عقد اتفاقية أوروبية مبسطة بعد رفض المشروع السابق، والتحرر من هوس العقدة الأمريكية، ومشروع الحلف المتوسطي، والضغط على سوريا بشأن لبنان، ودعم تشديد العقوبات على إيران، وتعزيز العلاقات مع دول الخليج، وتأييده لحصول الدول العربية على الطاقة الذرية للأغراض السلمية.

إن من بين المواقف الخارجية لابد من وقفة أمام زيارة القذافي مؤخرا لباريس والترحيب الحار به من جانب الرئيس الفرنسي، وعقد اتفاقات هامة معه، ومن ذلك في مجال الطاقة الذرية للأغراض السلمية. إن دعوة القذافي لفرنسا جاءت بالترابط مع الإفراج عن الممرضات البلغاريات، ولكن الزيارة أثارت جدلا واسعا في الوسط السياسي الفرنسي، إذ عارضتها أحزاب اليسار وشرائح من المثقفين بسبب المواقف السابقة للعقيد، يضاف لذلك تصريحه في أسبانيا قبل زيارة باريس بأن الإرهاب 'سلاح الضعفاء'. هنا يرد سركوزي بأن ليبيا قد تخلت عن الإرهاب، وعوضت ضحايا طائرة لوكربي، وتخلت عن مشروع صنع سلاح نووي، هذا وقد أيدت وزيرة الخارجية الأمريكية دعوة سركوزي للرئيس الليبي. والسؤال يبقى رغم ذلك: إلى أي مدى تغير نهج العقيد وسياساته؟! إن التقارير المنشورة أخيرا عن مفاوضات مع سوريا وإيران، والتوصل لاتفاق ما[؟] تتطلب مزيدا من المعلومات الدقيقة، ومزيدا من الوضوح؛ فهل جرى اتفاق حقا؟ وفي أية قضايا؟ هل حول لبنان؟، أم العراق؟، أم القضية الفلسطينية؟ أم هو اتفاق باتجاه آخرإن صحت المعلومات المنشورة؟؟

لقد جرى استطلاع رأي قبل المؤتمر الصحفي الأخير أظهر تراجعا في شعبية سركوزي، ولكن استطلاعات ما بعد المؤتمر أظهرت تأييد الغالبية لما قدم من إيضاحات في المؤتمر، وكيفية عرضه للأمور، حتى عند الحديث عن خصوصيات علاقاته. إن تراجع الشعبية قبل المؤتمر قد يفسر أولا بمتغيرات اقتصادية سلبية دولية خلال الشهور الماضية، كانعكاسات أزمة العقار الدولية، وتصاعد أسعار النفط. إن الوضع الاقتصادي هو ما يهم المواطن الفرنسي بصورة رئيسية أكثر بكثير من الاهتمام بأن لسركوزي صديقة، ربما هي مرشحة غدا لتكون زوجته، أو ركوبه طائرة صديق مليونير، أو عدم الإعلان عن دخوله يومين للمستشفى لمرض في الحنجرة! نضيف للعامل الاقتصادي دور الحملات الضارية التي يتعرض لها باستمرار، لاسيما من الاشتراكيين، والسياسي ' الوسطي' [بايرو]، الحاقد على الرئيس الفرنسي، وكذلك حملات أقصى اليمين. كما أن معظم وسائل الإعلام، وخصوصا اليسارية والعديد من القنوات التلفزيونية، إما هي تسكت عن الخطوات الجيدة، أو تبتر عرضها، وأكثر من ذلك، إنها تعير اهتماما استثنائيا بقضايا ثانوية وشخصية، هذا ونقول عن العلاقات الخاصة للرؤساء وكبار المسئولين إن سركوزي يظهرها للعيان وهو مطلق في حين كان لميتران عشيقة أنجب منها بوجود زوجته، وكذلك كانت لشيراك المتزوج علاقاته العاطفية خارج الزواج، ولكن تلك الحالات لم تثر الضجة، حيث أن الثقافة والتقاليد السياسية الفرنسية لا تعير أهمية خاصة لهذه الجوانب من حياة الرؤساء والمسئولين وذلك بالعكس من الثقافة والتقاليد السياسية الأنجلو ndash; سكسونية.

إن الملاحظ هو ضعف المعارضة اليسارية، وتشتتها، والتناقضات والصراعات الداخلية في صفوفها، ولذا كان نهج وأساليب تعاطيها الأمور في الموقف من الحكومة لا تناسب معارضة قوية كفء تستطيع طرح ومناقشة القضايا الكبرى، وتبيان الأخطاء، مع دعم كل إجراء صحيح، ومعارضة كهذه ضرورة كبرى للديمقراطية لأن الحكومات والرؤساء غير معصومين.

بجانب كل التحديات الكبرى التي تجابه فرنسا في مجال الإصلاح، تأتي اليوم تهديدات القاعدة لضرب المصالح الفرنسية، وتدمير المعالم السياحية، واغتيال بعض الشخصيات، مثل رئيس بلدية باريس الاشتراكي، وهو موضوع متشعب جدا، ولا مجال لتناوله هنا.

لقد عنونا مقالنا بذكر ما يسميه سركوزي بالعلمانية 'الإيجابية'، وهو هنا يمس مبادئ العلمانية الفرنسية وتاريخها وأسسها. إن مثل هذا الموضوع الخطير يكاد يمر مر الكرام في وسائل الإعلام المشغولة بالحديث عن زوجة الرئيس المطلقة، وعن كلارا، وعن وعكته.

لقد قدمنا في هذه الحلقة ملاحظات عن أداء الرئيس الفرنسي، وسمات أساليبه، وملخصا لأفكاره الإصلاحية لأن مثل هذه المقدمة ضرورية قبل تناول مفهومه للعلمانية، وذلك لكي نضع القضية في السياق السياسي، والاجتماعي، والثقافي العام.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف، تسبب ملاحقة قانونية