سيناريو وراثة الحكم المتوقع في مصر بين يوم وآخر ليس السيناريو الأول الذي يحدث بمصر منذ أطاح انقلاب يوليو 1952 بالنظام السياسي الدستوري الديموقراطي، والذي كان يتجه لملكية دستورية يملك فيها الملك ولا يحكم، رغم السلبيات المتوقعة من تجربة ديموقراطية حديثة العهد، كانت بحاجة إلى الرعاية والتقويم حتى يشتد عودها، وليس استئصالها واستبدالها بملكية غير دستورية، يملك فيها الملك ويحكم، ويعطي الشرعية الدستورية والقانونية إجازة مفتوحة.
وراثة الحكم هي أن ينتقل الحكم من الملك إلى ولي عهده، ولا يشترط للتوريث أن يكون ولي العهد ابناً للملك أو الحاكم، كما لا يغير من الأمر أن يكون لولي العهد لقباً آخر مثل نائب الرئيس، والذي يختاره وينصبه الرئيس منفرداً، دون مشاركة أي من مؤسسات النظام، فهكذا نصب عبد الناصر ولي عهده السادات، وحدد السادات ولي عهده مبارك، وكان انتقال السلطة في الحالتين توريثاً محضاً، بل وكان مستنداً إلى شرعية دستورية سنتها 'جمهورية يوليو'، وتستكمل ديكوراتها باستفتاءات شعبية على الملك الجديد، هي أشبه بالمراسم البروتوكولية.
كما كان سيناريو توريث السلطة في المرتين السابقتين يختلف عن التوريث الملكي ببعض الرتوش جمهورية الشكل خاوية المضمون، فإن سيناريو التوريث الجديد والمتوقع سيكون أيضاً ملكياً من حيث المضمون، لكنه سيضيف رتوشاً جديدة على المسرحيتين السابقتين تعطيه شكلاً ديموقراطياً، فبدلاً من الاستفتاء ذو النتيجة المحسومة والمحددة مسبقاً، سيكون هناك عملية انتخاب ديموقراطية الشكل خاوية المضمون أيضاً، يتنافس فيها مع ولي العهد مرشحون منعدمي فرص النجاح عملياً، فيما ولي العهد مضمون نجاحه بفضل جهاز الدولة البيروقراطي وجناحه السياسي المسمى بالحزب الوطني الديموقراطي، وبمساندة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية.
كان يمكن أن نعتبر السيناريو الجديد برتوشه الديموقراطية خطوة أو بعض خطوة ديموقراطية إلى الأمام، رغم هزالها وعدم تماشيها مع الانقلاب الديموقراطي في كل العالم، فقط لو تم تنصيب ولي العهد كما حدث في المرتين السابقتين، أي أن يختار الرئيس نائباً له، ممن يتوسم فيهم الصلاحية، ومن لهم جدارة تؤهلهم لتقدم الصفوف، بغض النظر عن كفايتها لتولي هذا المنصب الخطير، فقد كان للسادات جدارة عضويته في تنظيم ما أسميناه 'الضباط الأحرار'، وكان لمبارك جدارة قيادة القوات الجوية في حرب أكتوبر، لكن حين تكون جدارة الوريث هي بنوته للرئيس، فإن السيناريو الجديد يكون بلا مراء نكبة (وليس نكسة) للمسيرة السياسية المصرية، هذا بالطبع من حيث الشكل، أما ما نتوقع من هذا السيناريو من حيث المضمون، فهو ما يحتاج منا لغير قليل من إمعان النظر.
في محاولاتنا لرسم صورة لما يمكن أن يكون عليه المستقبل السياسي لمصر في ظل سيناريو التوريث شبه المؤكد، هناك ما يمكن أن نحدده بقدر كبير أو كامل من اليقين، وهناك ما يضعنا أمام أكثر من احتمال، وإذا بدأنا بما نعتبر حدوثه يقينياً سنجد ما يلي:
bull; أن يستقبل العهد الجديد بالسخط والتذمر المكتوم من الجزء المحدود المهتم من القاعدة الجماهيرية، وباللامبالاة وربما بالارتياح من قطاع لا بأس به من الجماهير التي تعتنق مبدأ 'اللي تعرفه أحسن من اللي ماتعرفوش'، وممن يقدرون للعهد الحالي الاستقرار وعدم الدخول بالبلاد في مغامرات عسكرية وصدامات مع القوى العالمية الكبرى، كما سيقابل بالارتياح من الأقباط وقياداتهم الدينية، الذين رغم شكاواهم من العهد الحالي، إلا أنهم سيحمدون عدم حدوث الأسوأ، وهم الذين لا يؤرقهم أكثر من قفز الإخوان المسلمين على السلطة، فيدخلون ومصر كلها معهم نفقاً مظلماً قد يكون بلا نهاية.
bull; المثقفون ورجال الصحافة والإعلام والأحزاب الكرتونية منها وشبه الكرتونية نتوقع أن يظلوا على حالهم وانقسامهم الراهن، ما بين مطبلين مزمرين من جانب، وناقدين ناقمين حنجوريين من جانب آخر، ونتوقع أن يظل دور الجميع في الحياة السياسية هامشياً، وعلاقاتهم بالجماهير منعدمة، إلا ما يدخل منها في نطاق التسلية والإلهاء وتنفيس المكبوت بالتصايح في الجرائد الخاصة والقنوات التليفزيونية الفضائية، وهذا فيما نتوقع بعد مرور فترة أولى انتقالية من الضبط والربط تفرضها الأجهزة الأمنية فور وقوع الواقعة، لتعود بعدها الأحوال إلى قديمه تحت شعار: 'ويظل العرض مستمراً'.
bull; الإخوان المسلمون سيواجهون التوريث بالصياح والتنديد ظاهرياً، حتى لو تم الأمر عبر صفقة سرية معهم، تلك الصفقة التي نرى الجزء الظاهر منها الآن في التصالح مع جناحهم العسكري، عبر ما قدم لنا على أنه مراجعات فقهية للجماعات الجهادية، لكن الشجب والتنديد ضرورة حياة للجماعة المحظورة اسماً، لتبقى أمام الجماهير رمز الرفض الذي لا يلين للواقع المتردي، أما تحت السطح فسيكون التوريث على هوى الإخوان، فعلاوة على أنه سيمنحهم مادة جديدة للرفض العنتري، وهم الذين يتعيشون على الرفض دون تقديم بديل حقيقي، لا يقوم على غير دغدغة العواطف الدينية لشعب مؤمن بالسليقة، هم غير مستعدين وغير متحمسين لاستلام سلطة تضعهم في موقع المسئولية والمساءلة، والتوريث أفضل لمستقبلهم من انتقال ديموقراطي حقيقي للسلطة يأتي بالعلمانيين إلى الحكم، ويسير بمصر في اتجاه التنمية والحداثة، ويحقق إنجازات حياتية للشعب، تصرفه عن خطاب السلفية والعداء والكراهية، ثم هم سيتعشمون أن تكون القبضة الجديدة للنظام أقل بطشاً وإحكاماً للسيطرة، مما يعطي لهم المزيد من التغلغل إلى أجهزة الدولة ومفاصلها، والانفراد بعقول وقلوب الجماهير، علاوة بالطبع على ما قد يجنونه من مكاسب من صفقة التوريث إن صح حدوثها.
bull; ستستمر تشكيلة المسيطرين على الحكم حالياً كما هي، سواء ما يعرف بالحرس القديم أو الجديد، وسيزداد التعاون بينها حفاظاً على بقاء الجميع، وستقوى شوكة تلك المجموعات إلى حد بعيد، ذلك أنها إذا كانت تستمد قوتها حالياً من رضاء رأس السلطة عليها، فإن الوضع سينقلب، ويصبح وجود رأس السلطة مرتهناً برضاء ومساندة هذه المجموعات له، وهو الوضع الشبيه بالفترة الأولى من حكم السادات، قبل أن يقلب المائدة على ما سماه مراكز القوى بثورة 15 مايو التصحيحية حسبما أطلق عليها، لكننا لا نتوقع أن يتكرر هذا السيناريو في المستقبل، حيث مراكز القوى الجديدة يربط بينها وبعضها البعض وبينها وبين الحكم المصالح المشتركة اقتصادياً وسلطوياً، مما يتضاءل إلى جانبه التنافس والتناحر، علاوة على أن السادات كان من خارج مراكز القوى الناصرية ومفروضاً عليها، أما الوريث الجديد فهو ابن مراكز القوى الحالية وصاحب الفضل على بعض أجنحتها، وهو طوق النجاة والبقاء لها جميعاً، ومع تزايد نفوذ مراكز القوى لنا أن نتوقع تزايد معدلات الفساد المالي والاحتكارات وسيطرة العائلات والشللية على الحياة الاقتصادية والسياسية.
الغير اليقيني من الملامح هو ما سوف يتجه إليه العهد الجديد بعد فترة قد تكون قصيرة أو متوسطة المدى، أي بعد من سنتين إلى ثلاث سنوات، أو بعد استقرار السلطة للعهد الجديد عبر ولاية ثانية، أي بعد ست سنوات من الحكم، ويمكن أن نرى من هنا ثلاثة احتمالات لثلاثة طرق يمكن السير فيها:
bull; محاولة الإبقاء على الوضع كما هو عليه، بذات تكتيكات الرؤى قصيرة الأمد، التي تستهدف مجرد البقاء يوماً بعد يوم، بمغازلة الداخل والخارج بإصلاحات سياسية واقتصادية محدودة، بعضها حقيقي وبعضها دعائية وادعائية، وفي نفس الوقت المزايدة على تيار الإخوان المسلمين فكرياً وعملياً، بالمزيد من التمكين لرموز الإسلام السياسي داخل نظام الحكم، مع الاستمرار في سياسة الضربات الأمنية المحدودة للجماعة المحظورة، تجعلها دائماً في حالة وجع لا يفضي إلى الموت، وحالة تماسك عقائدي وتنظيمي يكفل لها كفاءة الدفاع المتربص دائماً للهجوم، دون أن تمتلك القدرة على الوثوب إلى كراسي الحكم، هذا إذن احتمال أن 'يظل العرض مستمراً'.
bull; الطريق الثاني هو الرضوخ للضغوط الخارجية، والاستجابة للهامش الليبرالي الضئيل بالحزب الوطني والصفوة المصرية، والإقدام على إصلاحات سياسية واقتصادية ليبرالية حقيقية، تأخذ قوتها الدافعة من ضرورات الوضع الاقتصادي، بشدة احتياجه إلى التوافق مع آليات السوق العالمي والانفتاح وجلب استثمارات خارجية بمعدلات تحدث طفرة في مسيرة التنمية، باعتباره الطريق الوحيد لتحاشي انهياراً اقتصادياً واجتماعياً، بما لابد وأن ينعكس على الحياة السياسية، ما قد يتواكب معه انصراف الجماهير عن الافتتان بالقضايا التي يثيرها تيار الإسلام السياسي، سواء تلك التي تتمركز حول المرأة، أو حول العداء للذين كفروا بمختلف صنوفهم وأماكن تواجدهم، وفي هذه الحالة ربما نشهد تطوراً جذرياً في فكر الجماعة المحظورة، لتتحول إلى أيديولوجية تماثل تلك التي لحزب العدالة والتنمية التركي، هذا الاحتمال إذن هوة احتمال التوجه الليبرالي والتحديث.
bull; الطريق الثالث هو التراجع أمام تيار الإسلام السياسي، أساساً بتأثير مراكز ذلك التيار داخل الحزب الوطني وجهاز الدولة البيروقراطي، خاصة إذا ما صاحب ذلك مباركة من القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، بالإضافة بالطبع إلى الاستعداد الجماهيري للسير في هذا الاتجاه، والقوة التنظيمية الرائعة للجماعة المحظورة، وقد تختار الطغمة الحاكمة هذا الاتجاه إذا ما قارنت بينه وبين الوجه التحديثي الليبرالي، الذي يتطلب عملاً شاقاً ودؤوباً، كما يتطلب مواجهة قوى عاتية عديدة على رأسها الفساد والتيار السلفي، علاوة على هواجس الممسكين بزمام الحكم أن طريق الليبرالية لابد وأن يلقي بهم في النهاية خارج الحكم، وربما إلى ما خلف القضبان، ليجدوا أن من الأنسب لهم ركوب حصان السلفية المغري للجميع، والذي لابد وأن يأتي بكل من يمتطيه تحت سنابكه، فعل هذا السادات والولايات المتحدة وإسرائيل وياسر عرفات وعمر البشير، وأحدث من يسرج الحصان حالياً ليمتطيه زين العابدين بن علي في تونس.
bull; إذا كنا لا نحب أن نصنف ضمن المتفائلين أو المتشائمين، فإن علينا أن نحجم عن ترجيح أياً من الاحتمالين الثاني والثالث، أي الخيار التحديثي أو السلفي، أما الاحتمال الأول وهو بقاء الوضع على ما هو عليه بمصر الآن، فرغم أن هناك كثيراً مما يشير إلى استحالة بقائه إلى ما لانهاية، إلا أن ما نرصده من أن مصر دأبت طوال تاريخها المديد أن تتدهور ببطء أو تتقدم ببطء، لكن الأحوال فيها لا تصل إلا فيما ندر إلى ذروة يعقبها تغيير جذري، ما لم يطرأ عليها مؤثر خارجي كاسح، هذه الخاصية المصرية إن صحت ترجح الاحتمال الأول، بأن 'يظل العرض الحالي مستمراً'.
[email protected]

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه