وفقاً لما يُعرف فى فقه القانون بمبدأ quot;إقليمية القوانينquot; فإن كل القوانين، لا تكون نافذة فعّالة إلا داخل الدولة التى أقرّتها، وفقاً للنظام القانونى والمعايير الدولية، المعترف بها.
وعلى هذا المبدأ تدخل بعض الإستثناءات؛ من ذلك أن قانون الجزاءات الجنائية (العقوبات) فى مصر، يؤثم ويعاقب على أىّ فعل يشكل جريمة وفقاً للقانون المصرى، حتى ولو وقع فى الخارج، وحتى إن لم يكن الفعل مؤثماً وفقاً لقانون الدولة التى وقع فيها الفعل أو حدث الشروع فى تنفيذه. كما أن هذا القانون (المصرى) يعاقب أشخاصاً أرتكبوا جريمة فى مصر، كفاعلين أصليين أو كمشاركين لهم، حتى ولو كانوا مقيمين فى أى دولة بالخارج أو من مواطنيها. أما تنفيذ الحكم الصادر فى هذه الحالات فيكون ممكنا إذا كانت ثمت معاهدة لتنفيذ الأحكام بين مصر وبين الدولة التى يُراد تنفيذ الحكم المصرى فيها.
وفى القانون المدنى المصرى، مبادىء ومواد تدخل فى نطاق ما يسمى بالقانون الدولى الخاص، وهو القانون الذى ينظم ويحكم العلاقات المادية والشخصية بين أفراد يقيمون أو يتملكون فى دولة أو فى دول غير مصر. مثال ذلك أن يكون شخص مصرى مسلم، قد امتلك أموالاً أو عقارات فى بريطانيا وتزوج فيها مواطنة بريطانية وأنجب أولادا منها، إضافة إلى أولاده فى مصر، ثم تـُوفى فى الولايات المتحدة. فأى قانون للمواريث وللزواج وللتملك ولرسم الأيلولة على التركة، هو الذى يـُطبق فى هذه الحالة، أو فى كل موضوع منها على حدة؟ وفى المواد التى نص عليها القانون المدنى ما يقتضى تطبيق قانون أجنبى، غير مصرى، فى حالة معّينة، وتكون المحاكم مُلزمة باعمال قانون غير مصرى، والزامها هذا يكون من نص القانون المصرى فهى (المحاكم) إذ تطبق القانون الغير مصرى، تكون- وهى تفعل ذلك ndash; تطبق القانون المصرى الذى الزم الإحالة إلى قانون غير مصرى.

وفى قانون الإستثمار أنه quot;.. يجوز تسوية منازعات الإستثمار المتعلقة بتنفيذ أحكام.. القانون بالطريقة التى يتم الإتفاق عليها مع المستثمر. كما يجوز الإتفاق بين الأطراف المعنية على تسوية هذه المنازعات فى إطار الإتفاقات السارية (بين مصر) ودولة المستثمر أو فى إطار إتفاقية تسوية منازعات الإستثمار بين الدولة ومواطنى الدول الأخرى التى انضمت إليها جمهورية مصر العربية بالقانون رقم 90 لسنة 1971، كما يجوز الإتفاق على أن تتم تسوية المنازعات المشار إليها بطريق التحكيم أمام المركز الأقليمى للتحكيم التجارى الدولى بالقاهرة.
والواضح من هذا النّص أن منازعات الإستثمار يُفصل فيها (أ) بالطريقة التى يتم الإتفاق عليها مع المستثمر (ب) فى إطار الإتفاقات السارية بين (مصر) ودولة المستثمر (ج) فى إطار إتفاقية تسوية منازعات الإستثمار بين الدول ومواطنى الدول الأخرى (د) أمام المركز الإقليمي (لا المصري) للتحكيم التجارى الدولى بالقاهرة.
وهى كلها بدائل حديثة للمحاكم المختلطة تجيز للمستثمر إختيار طريقة فضّ المنازعات الخاصة بإستثماره، دون اللجوء إلى المحاكم المصرية.
وقد كنت رئيساً لمحكمة الإستئناف العليا بالقاهرة للأحوال الشخصية (أجانب)، وكان الخصمْ يُقدم للمحكمة ترجمة رسمية معتمدة بقانون دولته، فى الحالات التى كانت تلتزم المحكمة إعمال هذا القانون، وهى بذلك كانت تـُطبق القانون المصرى الذى يحيل إلى قانون خارجى فى منازعة خاصة. كذلك فإن أحداً لم يدّع أن قانون الإستثمار يعارض وينتقص من السيادة المصرية التى مؤداها أن تقوم السلطة القضائية فيها بالفصل فى كل منازعة تقع على الأراضى المصرية.
وإذا كان ذلك هو الحال فى المنازعات الإستثمارية، وفى الخلافات المدنيّة، فإنه يكون أولى وأوجب فى المعاهدات الدولية ؛ ذلك أن هذه المعاهدات أو الإتفاقات لا تنـْفـُذ إلا بعد أن يقرها مجلس الشعب ويصدرها رئيس الدولة، ومن ثم تصبح ndash; بالفعل والحكم ndash; ضمن القوانين المصرية. ومخالفتها تكون خطأ على الطرف الذى خالف أو نقض أو اعترض أو ألغى من طرف واحد. ونقدم فى ذلك أمثلة أربعة، حتى يعرف غير المتخصصين (والمتخصصين) أن مسائل الكرامة والإنفعال والتشنج لا تدخل فى مفهوم العلاقات الدولية، وأن مبدأ السيادة قد دخلت عليه عناصر كثيرة إقليمية ودولية، تعاقدية وفرضية، تجعل له مفهوماً آخر، لا تستقل الدولة بتقديره، وإنما هى تلتزم فى ذلك أحكام القانون الدولى العام، وقرارات الموسسات الدولية التى تنضم إليها، ونصُوص المعاهدات والإتفاقات التى تقرها وتوافق عليها فتصبح هذه الإتفاقات وتلك المعاهدات نسجاً من نسيج قوانينها وبعْضاً من مفهوم سيادتها:

(أ) فى يناير 1952 ألغت الحكومة المصرية معاهدة 1936 التى كانت قد انعقدت بين مصر وبريطانيا (المملكة المتحدة)، والتى ترتب عليها إلغاء الإمتيازات الأجنبية بمقتضى معاهدة مونترو 1937. وكان هذا الإلغاء المنفرد من جانب الحكومة المصرية بقالة أن المعاهدة قد استنفدت أغراضها. وقد كان هذا خطأ دوليا ومصريا فادحاً، ترتب عليه أن سقط نظام الحكم المصرى وتنازل الملك عن العرش ثم الغيت الملكية، وحُلـّت الأحزاب، واستولى العسكر على الحكم بإنقلاب سُمى حركة، ولم يطلق على هذا الإنقلاب لفظ ثورة إلا فى مقدمة دستور عام 1956. وظلت بريطانيا تتمسك بالمعاهدة حتى تاريخ إنتهائها عام 1956. أى إن الإلغاء لم ينتظر مدة أربع سنوات، كان من الممكن للحكومة التى لا تتملق مشاعر الجماهير أن تـُجمد التنفيذ بالفعل، ولا تقوم بالإلغاء بصورة درامية أساءت إلى مصر كثيراً.
وفى عام 1956 وقـّعت مصر فى عهد العسكرتاريا معاهدة جديدة، حلّت محل معاهدة 1936، ولم توقع بريطانيا إلا بعد أن وضعت نصاً يخول للسودانيين الإختيار بين الإستقلال أو الوحدة مع مصر. ونظراً لما كان قد حدث عام 1954 من منازعات بين الإنقلابيين وتحول مصر بالفعل والواقع إلى دكتاتورية عسكرية عمدت إلى عسكرة المجتمع المدنى، فإن السوادانيين إختاروا عام 1956 الإستقلال عن مصر بدلاً من الوحدة مع نظام دكتاتورى. ومن يومها لم تستقر مصر ولا هدأ السودان، وكان ذلك مصداقا لقول الشاعر (أحمد شوقى) وأين الفوز، لا مصر استقـّرت .. على حال ولا السودان داما.

(ب) فى عام 1929 وقد كانت مصر فى ظلال الإستعمار البريطانى، اُبرمت معاهدة توزيع مياه النيل بين الدول المشتركة فى حوض النهر، وقد راعت بريطانيا أن تكون لمصر حصة كبيرة. وفى التسعينيات من القرن الماضى تغيرت أحْوال الدول المشتركة مع مصر فى حوض نهر النيل، وبدأت تطالب بتعديل معاهدة 1929 وتغير حصص الأعضاء، وهى فى ذلك تأمل أن تعدل حصة مصر (التى قيل يوماً إنها سوف تصل إلى القدس) بإدعاء أن الظروف قد تغيرت وأن معاهدة 1929 قد استنفدت أغراضها. وبدأت فى مصر دعوى للمحافظة على هذه المعاهدة، وفى ذلك قالت جهة سيادية quot; إن ماء النيل خط أحمر quot;، لكن هذا الخط أخضر بالنسبة لدول حوض نهر النيل. وحبذا لو تركت مصر اسلوب التشديد والتهديد وعملت على الإتفاق مع هذه الدول بهدوء وفى غير ضجيج حتى تصل إلى الحفاظ على مصالحها، مع إقناع زعماء هذه الدول بأن مصلحة مصر هى مصلحتها، وأن الحلول السلمية تقتضى الإتفاق والتفاهم (Compromise) لا التهديد وإعلان الحرب، ذلك لأنه من المقرر فى علم الإجتماع أنه ما إن تبدأ الظاهرة حتى تتخذ لنفسها مسلكاً يتبع قانونها الخاص، فلا يستطيع من يُشعل الحرب أن يسير بها وفقاً لما خطـّطه لها، أو أن يقفها تبعاً لرغبته ومصلحته. والدليل على ذلك قائم شاهد فى حرب اليمن 1962، وإغلاق مضايق تيران بما أدى إلى اشتعال حرب 1967.

(ج) فى 26 يوليو 1956 أمّم الرئيس المصرى شركة قناة السويس بإعتبار أنها شركة مساهمة مصرية، واستولى فى نفس اليوم على المجرى المائى للقناة والمكاتب الإدارية للشركة. لكن التأميم لا يكون صحيحاً وناجحاً إلا إذا كانت كل عناصر الشركة أو الهيئة التى تـُؤمّم موجودة كلها تحت يد من يتخذ قرار التأميم، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى شركة قناة السويس، فقد كان حملة الأسهم (Share holders) أشخاص من مواطنى فرنسا وبريطانيا، فلم يرتضوا التأميم ولم يقبلوا التعويض الذى حدده لهم قرار التأميم. ونصح المستشارون القانونيون المصريون الرئيس المصرى بشراء الأسهم التى كانت تتداول فى بورصة باريس مخافة أن يلجأ حاملوا الأسهم أو بعضهم إلى القضاء الفرنسى أو القضاء البريطانى لإستصدار أمر بالحجز على أية طائرة مصرية تهبط فى مطار خارج مصر أو أية باخرة مصرية ترسو فى أى ميناء مماثل. وبذلك تقف كل الخطوط البحرية وخطوط الطيران المصرى وتتعطل، فلا تترك الأراضى المصرية أبداً. ومن أجل شراء أسهم الشركة التى أُمّمت تسرعا ودون دراسة جادة، فوضت مصر سمساراً يهودياً من الأسكندرية، فأشتراها بأعلى الأسْعار. ولما اطمأنت كل من فرنسا وبريطانيا على بيع مواطنيهم من حملة الأسهم هذه الأسهم رتبوا العدوان الثلاثى (أكتوبر 1956) وكان من نتيجته أن حصلت إسرائيل من مصر على إتفاق سرى (لم يُعلن للشعب) تمر سفنها بمقتضاه فى خليج العقبة ومضايق تيران. وفى عام 1967 كانت إسرائيل قد استكملت إستعدادها للحرب التى كان يعرف الرئيس المصرى أن مصر غير مستعدة لها. وانطلقت بعض الإذاعات العربية تعاير الرئيس المصرى بأنه لا يصح أن يكون زعيماً للعرب فى الوقت الذى مكّن اسرائيل من أن تصبح دولة عظمى تمتد يداها، عبر خليج العقبة ومضايق تيران، إلى جنوب ووسط أفريقيا وتهدد منابع النيل، وتنتشر كذلك إلى الشرق الأقصى. وقد كان الأمر محسوباً بدقة فانفعل الرئيس المصرى وأغلق مضايق تيران، فوقع فى فخ الحرب، لأن إغلاق المضايق المائية هو فى القانون الدولى العام عمل من أعمال الحرب، وبهذا وقعت حرب 1967 التى ما زالت آثارها المدمرة والمهينة ممتدة، وسوف تظل فعّالة ربما لقرن من الزمان.
وبعد ذلك قبلت الحكومة المصرية التفاوض على تعويض الدول حملة أسهم قناة السويس، وبدأت المفاوضات عن ذلك فى روما بتاريخ 19/12/ 1958.


(د) فى مارس 2007 وقـّعت مصر فى برشلونة اتفاقا مع دول الإتحاد الأوروبى يتعهد بمقتضاه طرفا الإتفاق بالعمل على تأكيد الديموقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان فى كل المجالات. وبناءً على موافقة مجلس الشعب المصرى على ذلك الإتفاق واصدار رئيس الجمهورية له، أعلن الرلمان الأوروبى فى 17/1/ 2008 قرارا اثبت فيه الموافقة المصرية على انعاش الديمقراطية والتزام حكم القانون وحقوق الإنسان، وأهمية مصر كدولة مركزية بين دول الإتفاق، وحدد القرار بعض ما لوحظ على السلطة المصرية من قصور فى ذلك ثم دعا القرار دول الإتحاد الأوروبى أن تضع جدول أعمال اللجنة التى تنعقد فى مصر (والتى ألغت السلطة المصرية إنعقادها) أن تقدم تقريراً عنْ تطور هذه المسائل.

هذا القرار من البرلمان الأوروبى لم يكن تدخلا فى شئون مصر الداخلية، لكنه حدث بناء على اتفاق أقره مجلس الشعب وأصدره رئيس الجمهورية بإلتزام إتفاقية برشلونة، التى تفرض على أطرافها مراعاة حكم القانون وحقوق الإنسان فضلا عن تثبيت الديمقراطية فى كل الأنشطة السياسية. فكأن اقرار اتفاقية برشلونة أجاز لكل الأطراف الموقعة عليها أن تراقب تنفيذ التزام الدول التى أقرت الإتفاقية بما جاء فيها، وأصبح ذلك ضمن القانون المصرى، ما دامت مصر قد وافقت عليه بمجلس الشعب وإصدار رئيس الجمهورية. هذا الأمر غاب عن بعض رجال السلطة ndash; عمدا أو عفوا ndash; فأثاروا لغطاً وضجة لا لزوم لها، وهى تضر بمصالح مصر الحيوية أكثر مما تفيد. وكان من الصواب تجاهل القرار الصادر من البرلمان الأوروبى ndash; لو أن السلطة المصرية ترى أنه لا يناسب ظروفها الحالية، أو أن تـُصدر بيانا هادئاً تقول فيه إنها إنها سوف تدرس القرار، وترى ما تستطيع عمله فى شأن تنفيذ ما يمكن تنفيذه منه وفقاً لظروفها الحالية. أما أن يثير بعض رجال السلطة فيها ضجاً وغضباً، ويقولون إن القرار تدخل فى شئون مصر الداخلية، فهو أمر لا مبرر له ولا صحة فيه، وهو يؤلب عليها من الدول أكثر مما يؤلّف. ذلك لأن الكل يعلم تمام العلم أن مصر بتوقيعها اتفاقية برشلونة أجازت للبرلمان الأوروبى أن يتابع تطبيق التقدم الديمقراطى فيها وأن يُراقب حكم القانون وحقوق الإنسان، وهذا القرار كان يبيّن للجنة التى كانت سوف تنعقد فى القاهرة، مع أطراف من السلطة المصرية، وجهة نظر البرلمان الأوروبى، كما لو كان يحدد لهذه اللجنة جدول أعمالها.
إن المعاهدات والإتفاقات الدولية ndash; متى أقرّها مجلس الشعب وأصدرها رئيس الجمهورية ndash; تصبح ضمن أحكام القانون الداخلي، وتنفيذها أو مراقبتها بمعرفة الأطراف المعنية لا يكون تدخلا فى الشئون الداخلية لمصر، فإن كان كذلك فالمسئول عن دعوة الغير إلى التدخل فى شئون مصر الداخلية هو من وافق على اتفاقية أو معاهدة يقتضى تطبيقها لزوما حدوث هذا التدخل.
وعلى العرب جميعاً، فى شئونهم الداخلية والخارجية، أن يتعودوا اتباع سبيل العلم والعلماء، وأن يلتفتوا عن طريق الجهل والجهلاء، حتى لا يسيئوا إلى أنفسهم ويستعدوا الأغيار عليهم، وتتقطع بهم سبل الإتصالات والمعاملات والمعونات الخارجية. وقديماً قال الشاعر:
لا ينال العالم من غيره .. ما ينال الجاهل من نفسه

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية