يغيب الدكتور جورج حبش في وقت تمر فيه القضية الفلسطينية في مرحلة حاسمة. هناك شعاع أمل في تسوية قد لا تكون عادلة، لكنها تسمح للفلسطيني بأن يكون له quot;وطنquot;. صحيح أن هذا الوطن ليس على كل الأرض التاريخية لفلسطين. لكنه quot;وطنquot; يسمح للفلسطيني بأن يكون على الخريطة الجغرافية للشرق الأوسط بعدما كرّس وجوده على الخريطة السياسية ولكن بطريقة سلبية للأسف الشديد. هذه الطريقة جعلت من الفلسطيني وقودا في معارك لا علاقة له بها أكان ذلك في الأردن أو في لبنان... أو على أرض فلسطين نفسها كما يحصل الآن. هل يتعلم الفلسطينيون شيئا من تجربة جورج حبش ومن أحلامه وطريقة تفكيره ذات الطابع العبثي في معظم الأحيان؟
كان الدكتور جورج حبش مؤسس quot;الجبهة الشعبية لتحرير فلسطينquot; وأحد مؤسسي حركة القوميين العرب، التي في أساس quot;الجبهة الشعبيةquot; حالما كبيرا. كان يحلم بفلسطين أولا وكان يحلم أيضا بتغيير خريطة العالم العربي الذي صار في أيامنا هذه عوالم عربية. كان يذهب بعيدا في أحلامه وكان يعود بين حين وآخر ألى أرض الواقع ليكتشف ألحقائق المؤلمة والمزعجة التي رفض دائما الأقرار بها. فأذا به يمارس عملية هرب مستمرة من دون أن يفارقه الحلم بتحرير كل شبر من فلسطين. الأكيد أن جورج حبش الذي حمل لقب quot;الحكيمquot; مات وفي قلبه غصة. شاهد فلسطين تغرق في حروبها الداخلية بين quot;فتحquot; و quot;حماسquot; بعدما بدا في مرحلة معينة أن في الأمكان تحقيق أنجاز ما أستنادا الى أتفاق أوسلو الذي سارع ألى رفضه والتنديد به. لم يكن جورج حبش في يوم من الأيام على علاقة بموازين القوى. كان يحلم. كان رومانسيا. كان صادقا ونقيا. كان مختلفا عن رفاقه خصوصا أولئك الذين أنشقوا عنه وأسسوا جبهات منافسة من منطلقات أنتهازية ليس ألاّ. كان يمتلك صفات أيجابية كثيرة لكنه لم يكن سياسيا. ولكن ما العمل في عالم عربي يعجب فيه الشارع بالشخص والشعارات التي يرفعها من دون أن يسأل يوما ألى أين سيأخذه الشخص بشعاراته؟
كان جورج حبش الذي غيبه الموت السبت الماضي في أحد مستشفيات عمان قطعة من فلسطين. لم يكن وحده الذي حلم بفلسطين، بل جعل كثيرين منا يغرقون معه في الحلم. ثمة من أستفاق باكرا وأنطلق ألى رحاب الواقعية والسياسة ساعيا ألى أنقاذ ما يمكن أنقاذه من فلسطين، وثمة من بقي معه ألى اللحظة الأخيرة أسير شعارات غير قادر على التملص منها. الأقوياء هم الذين خرجوا من الجبهة ألى رحاب العالم. بقي الضعفاء. بين الضعفاء الصادق - الساذج ألى حد كبير، وبينهم الأنتهازي الذي كان الأنتماء ألى quot;الجبهة الشعبيةquot; علة وجوده وحيثية أجتماعية له. ولكن ما لايمكن تجاهله في أي شكل أن quot;الجبهة الشعبيةquot; بزعامة جورج حبش لعبت دورا أساسيا على صعيد التطورات السياسية التي شهدها الشرق الأوسط وكانت في أحيان كثيرة تعبيرا عن أتجاه الريح في المنطقة نحو مزيد من التراجع. أكثر من ذلك، أفتعلت الجبهة في مناسبات عدة أحداثا معينة أدت ألى تغييرات جذرية على المستوى الأقليمي. ألم تكن الجبهة وراء أختراع خطف الطائرات وأحتجاز الرهائن مطلع السبعينات من القرن الماضي؟ ألم تكن الجبهة وراء التعجيل في الصدام بين الجيش العربي الأردني والمقاتلين الفلسطينيين في العام 1970 بعد خطفها ثلاث طائرات مدنية ألى ما سمي quot;مطار الثورةquot; قرب المفرق في الصحراء الأردنية؟ ألم تكن الجبهة وراء رفع الشعارات الداعية ألى أسقاط أنظمة عربية معينة، نظرا ألى أن الطريق ألى فلسطين، وألى القدس تحديدا، تمر بهذه العاصمة العربية أو تلك؟
كان جورج حبش خطيبا لامعا. كان يلهب الصالة التي يتحدث فيها بصوته الجهوري والشعارات الطنانة التي يطلقها غير آبه بما يحل بهذا الشعب العربي أو ذاك. كان يدافع عن نظام صدّام حسين غير آخذ في الأعتبار ما يفعله هذا النظام بالعراق والمجتمع العراقي. وفي مرحلة معينة راح يدافع عن نظام الخميني في أيران غير مدرك خطورة هذا النظام على المنطقة وكونه، بلبوس أخرى ذات طابع مذهبي، أستمرارا لنظام الشاه الذي برر للقوات الأجنبية الوجود في منطقة الخليج بعدما شكل تهديدا لدول المنطقة. وعاد مجددا ألى الدفاع عن نظام صدّام بعد أحتلاله للكويت غير مدرك لأبعاد تلك الجريمة على الصعيد الأقليمي وتأثيراتها السلبة على الفلسطينيين أنفسهم. كان جورج حبش في حاجة مستمرة ألى طرف خارجي يستند أليه. بقي مع مصر جمال عبدالناصر ألى حين سقط الرجل ومشروعه في العام 1967، ثم راح يتجه يسارا معتقدا أن الماركسية خشبة الأنقاذ وفيها الحل السحري. لم يدرك أن ألأتحاد السوفياتي لم يكن سوى قوة عظمى تقف على ركائز هشة وأن همه الأول والأخير أستخدام أوراقه في الشرق الأوسط لتحسين موقعه التفاوضي مع القوة العظمى الأخرى التي أسمها الولايات المتحدة الملتزمة جديا أمن أسرائيل والدفاع عنها.
كان جورج حبش رجلا مهذبا وحساسا بعيدا كل البعد عن الطائفية والمذهبية. ومن حسناته رفضه الذهاب بعيدا، أي ألى العنف، في معالجة أي خلافات فلسطينية، حتى عندما أنشق عنه شخص وأسس جبهة منافسة بهدف الأسترزاق. المؤسف أنه لم تكن له يوما علاقة بالسياسة البناءة التي تستند ألى مشروع واضح يأخذ في الأعتبار موازين القوى الأقليمية والدولية. أنتقل من الشعارات القومية العربية، بما فيها شعار quot;الثأرquot; ألى لغة ماركسية- لينينية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالواقع العربي. ولكن يبقى من فضائله أنه تخلى عن منصب الأمين العام للجبهة عندما تقدم به العمر. تلك فضيلة لا يمتلكها سوى قليلين في عالمنا العربي. بقيت في الرجل الآدمي خصائل لها علاقة بالديموقراطية والتصرفات ذات الطابع الحضاري، ربما تكون عائدة ألى أنه درس في الجامعة الأميركية في بيروت وتخرج منها وعاش في أجواء رأس بيروت...
شاء القدر أن يتوفى quot;الحكيمquot; في عمان. حبذا لو أعتذر، ولو متأخرا، من الأردن ومن الملك حسين، رحمه الله، الرجل الذي أنقذ القضية الفلسطينية غير مرة، خصوصا عندما حال دون قيام الوطن البديل على أرض بلده. حبذا أيضا لو أعتذر جورج حبش قبل غيابه من اللبنانيين ومن مشاركة مقاتليه في الحرب اللبنانية مع طرف لبناني ضد طرف آخر بما خدم في نهاية المطاف النظام السوري الذي كان همه الوحيد تدمير ما أمكن تدميره في لبنان... حبذا أخيرا لو أعتذر من الكويت والكويتيين بعد الموقف المشين الذي أتخذه من الأحتلال العراقي لهذا البلد العربي الآمن.
كانت quot;الجبهة الشعبيةquot; تضم في البداية، أي في أواخر الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي، مجموعة كبيرة من المثقفين. كان هؤلاء على تواصل مع خيرة المثقفين العرب. كان معظم هؤلاء من خريجي أفضل الجامعات المحترمة في لبنان والغرب. كانوا مثاليين ورومانسيين مثل جورج حبش. أنتهت quot;الجبهة الشعبيةquot; منذ فترة طويلة عندما أنفض هؤلاء عنه وسار كل في طريقه. غاب جورج حبش وهو يرفض مواجهة السبب الحقيقي الذي دفع بهؤلاء ألى الأبتعاد عن الجبهة. بقي جورج حبش يحلم. مات وهو يحلم رافضا في أي لحظة النزول ألى أرض الواقع والتعاطي معه من منطلق أن التمسك بالخطأ فضيلة! هل يمتلك الفلسطينيون القدرة على فهم تجربة جورج حبش والأستفادة منها ومن المآسي التي مروا فيها؟ أم يستعيدون تلك التجربة العلمانية الفاشلة... تحت شعارات دينية هذه المرة ترفعها quot;حماسquot; ومن على شاكلتها؟