كانت موضوعة (الله) في ملحمة السجال الهائل بين الفرق الإسلامية من أهم الموضوعات وأخطرها، ليس من حيث أهميتها بل من حيث ما جرى عليها من فكر، ونبع منها من فكر، كان ذلك بين السنة والشيعة والمعتزلة والمتصوفة، معركة كلامية مضنية، قاسية، أخرجت الله تعالى من ملكوته الخاص، وأدخلته ملكوت عقولنا البسيطة.
الأمر لا يتعلق بوجود الله سبحانه، فهذه موضوعة مسلمّة في علم الكلا م، لا تحتاج إلى برهان، والبرهان إذا كان ضروريا هنا فلإقناع الخصم المعاند وليس لأنها حقا تفتقر لذلك.
المعركة كانت حول (صفات الله) من عدل ورحمة وعلم وإرادة وغيرها من الصفات التي يسمونها بالصفات الثبوتية، وإلى جانبها الصفات الا خرى التي يسمونهاه بالصفات السلبية، أي الجهل والظلم والعجز وغيرها، ومن ثم علاقة هذه الصفات بذات الله!
كانت وما زا لت معركة قاسية....
يعيب الشيعة والمعتزلة على أخوانهم السنة بالتجسيم، أي تجسيم الله، فالله في بعض النصوص السنية جسم، ولا يهم هنا عدم إمكان تصور ذلك، فالجسمية معلومة ولكن الكيفية مجهولة، وربما قالوا بالوجه واليدين والرجلين، وربما وُصف بأنه أمرد وشاب...
يعيب السنة على الشيعة بأنهم عطلوا الله، وحذفوه من الوجود، لا نهم يقولون بأ ن صفاته عين ذاته، فليس هناك علم زائد على الذات، بل العلم هو عين الذات، وليس هناك إرادة زا ئدة على الذات، بل هناك ذات مريدة بإنيتها، بكنهها، بل أكثر من ذلك، الله يعلم من حيث يريد، ويريد من حيث يعلم، وهكذا، توكيد صارم على التجريد، فالله ليس ذاتا وصفات، بل ذات صرف، إ نه صرف الوجود.
كذلك قالت المعتزلة!
فضاع الله بين جسم لا نعرف كنهه، وبين ذات في غاية الشفافية، هي أ شبه بهيولي الكون الأ ولى، حيث لا جنس ولا فصل ولا نوع لها! وبالتالي، لا لون، ولا طعم، ولا حجم، ولا وزن....ألخ...
ضاع الله بين جسمية مخيفة وشفافية هي الاخرى مخيفة....
هناك يمكن تجزئته ولو عقلا، وهنا يمكن أن يتبخر بسرعة البرق فيما لو تعرّض لهبة ريح لا تحرك ذيل ثوب بال!
تُرى هل هناك علاقة ضرورية أو شبه ضرورية أو علا قة على كل حال بين (تجسيم) الله السني وبين سلطانهم الحكومي الذي تسيّد على المساحة الاكبر من الزمن الإسلامي؟
وهل هناك علاقة ضرورية أو شبه ضرورية أو علاقة على كل حال بين (تشفيف) الله الشيعي وبين هذا التاريخ المليء بالاحزان والدموع والاوجاع؟
هناك تجسيم بشكل واضح... علني... مثير... وهنا تجريد مذهل... تجريد مثير... هناك يملأ العين في يوم القيامة وهنا يبقى بعيدا عن تناول الحس، بل حتى الخيال.
هناك تجسيم مخيف، فهو قابل للتجزئة عقليا، وهنا شفافية خائفة تشبه خوف الدائرة على نفسها، تتعرض للقلق وربما الحذف جراء أي ريح غازية!
ضاع الله بين هذه وتلك!
تُرى هل تجسيد الاله يقود إلى جسمانية في التعامل مع الحياة والاخر؟
وهل تشفيف الإ له يقود إلى السلبية والإنطواء والابتعاد والقناعة البائسة؟
هل لذلك علاقة بهذا الا نشداد الشيعي للدعاء فيما تظهر علامات معاكسة في علاقة السني بالدعاء؟ كلمة شيعية سا رية في أوساطهم أو أكثر أوساطهم (لا نملك غير الدعاء)!
المعركة عقلية صرفة، فهي تعتمد القياسات العقلية البحتة، ولم ينطلق فيها أبطالها من الواقع، من الكون، فليس في الكون ما يدلنا على نوع العلاقة بين الذات والصفات، أقصد العلاقة بين الله وصفاته! نعم هناك ما يدلنا في الكون على صفات الله، وهو منطق القرأن الكريم، ولكن من أين لنا أن نعرف كنه العلاقة بين الذات والصفات؟
هل يمكن للعقل البشري أن يحيط بهذه القضية؟
صعب!
إن العقل البشري لحد هذه اللحظة لم يستطع أن يسجل لنا معرفة متواضعة حول كيفية إدراكه، حول كيفية وعيه، حول كيفية فهمه، ما زالت القضية مبهمة لحد اللعنة، وبالتالي، كيف يتسنى لهذا العقل أن يعي كيف يعلم الله، وكنه العلاقة بين الله وعلمه؟
ترف فكري؟
لا أدري...
ربما...
ولكنّه مضيعة للوقت... وتسبَّب ببدماء عزير ة على طريق التكفير والتجهيل والتضليل، فالذين يجسمون الله كفروا لانهم جعلوا من الله مركبا، والذين يجردون الله بتلك الطريقة معطلون، لأنهم ضيعوا أو غيبوا الصفات التي هي تجليات الله في الوجود.
وسالت الدماء...
وما زالت تسيل، وسوف تبقى تسيل، والرب حائر بعباده، ترى ألم أخلق الخلق كي أُعرف، فكيف إنقلبت المعادلة فصرت سببا في بحور من الدم المسفوح، بلا ذنب وبلا جريرة؟
الله بقدر عدد أنفاس الخلائق، كل منا له (الله) خاص به، تبعا لثقافتنا المخزونة، تبعا لألامنا، تبعا لا حلامنا، تبعا للظروف التي نمر بها، تبعا للمذاهب التي فطرنا عليها، تبعا للدين الذي إنتمينا له جبرا بالولادة، تبعا للكتب التي نقرأها ونطالعها، تبعا لمنظوماتنا الاخلاقية، تبعا لكل ما يحيط بنا، ونحيط به!
يقدم لنا أهل التجسيم (الله) مٌبرهنا عبر معادلات في غاية الصعوبة والتشعب والتفرع، نقليا وعقليا، سجال مضني، فهل ذلك متيسِّر لنا نحن أصحاب الفكر البسيط، المهمومين بحياتنا اليومية؟
يقدم لنا أصحاب الشفيف الله مُبرهَنا عبر معادلات في غاية التعقيد والتكثير والتحليل، نقليا وعقليا، سجال متعب، فهل ذلك متيسّر لنا نحن أصحاب الفكرا لبسيط، المهومين بحيانا اليومية؟
دعوا الله لله وحده...
وإذا سألني أحدهم هل الله مسلم أ م مسيحي، سني أم شيعي، ديكارتي أم سبونيزي، في جعبة عبد القاهر البغدادي أ م في خيال الشيخ المفيد...
سأقول له:
دع الله لله!
وتذكر أ ن العلم أ كتشف الكوارك الذي قد ينبي باكتشاف القانون الكلي للوجود، وأكتشف الخارطة التفصيلة للجينات...
فاتقوا الله.
يحكم أهل التجسيد بكفر من يقول بزيادة الصفات على الذات لان ذلك يؤدي إلى تعدد القديم، ويحكم أهل التجسيم بكفر أهل التجسيد لان ذلك يؤدي إلى التعطيل..
وبعد!
ما زالت المعركة سارية...
وما زالت دمائنا تجري أنهارا والواقع هو... هو... لم يتغير!

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية