لو كان قادة دولة إسرائيل يفقهون دروس التاريخ والجغرافيا، لماتوا خجلا من quot;الجدارquot; الحقيقي الذي أقاموه بموازاة حدود الضفة الغربية، وquot;الجدارquot; الحلم الذي ينوون إقامته على الحدود مع سيناء المصرية، وربما quot;جدرquot; أخرى على خط التماس مع سوريا والأردن ولبنان، وهي quot;جدرquot; حقيقية على أية حال، أسلاك شائكة أو كلاب حراسة.
التاريخ يحدث أن اليهود احتموا سابقا وراء الجدران، لكنها لم تمنع تهديم الرومان لها على رؤوسهم، وإنهاء دولتهم التي لم تعمر طويلا، والتاريخ يحدث أيضا أن جدران دولة سليمان لم تصمد أمام جحافل نبوخذنصر، وأن السبي الكبير كان نتاجا لاحقا، والتاريخ سيحدث أن جدران الضفة أو سيناء أو غيرها، لن تحمي دولة مصرة على أن تكون عنصرية، ومصرة على أن تستمر بالقوة، وليست هناك دولة في التاريخ استمرت بالقوة فحسب.
فقه الجغرافيا أيضا، يعوز قادة الدولة العبرية، فالأسوار مهما كانت حصينة لم تمنع حركة البشر وإرادة الناس، والجدران دليل عزلة مهينة، ليست عزلة جغرافية فحسب، بل عزلة نفسية ووجدانية وثقافية وسياسية، عزلة قابلة للتكثف والتراكم حتى تنتهي بالمعزول إلى التلاشي والذوبان، بالضرورة في وسط جغرافيا المحيط الأكبر، وهو محيط عربي إسلامي بالضرورة.
هذا الكلام لا يردده غوغائي عربي، غزت عقله وقلبه شعارات الصمود والمقاومة،التي غالبا ما لم تستند في الممارسة إلى ما يصدقها، بل هو حصيلة تحليل عقلاني لسيرة دولة قامت على الاغتصاب، وليست إسرائيل أول دولة قامت على الاغتصاب، فمن التاريخ القريب جدا ثمة دولة quot;الابرتيادquot; الجنوب-أفريقية، التي لو لا حكمة نيلسون مانديلا فيها، لكان البيض معها مادة انتقام ثلاثة قرون من التمييز العنصري البغيض، وثمة أيضا الدولة الفرنسية التي أقامت في الجزائر أكثر من مائة عام، تحول فيها المواطنون الأصليون إلى مواطنين من درجة ثانية وثالثة، وانتهت برغم القوة الباطشة إلى هزيمة مهينة.
هذا الكلام كذلك، قاله بطرق متعددة بعض قادة إسرائيل، من قبيل إبراهام بورغ رئيس الكنيست السابق، الذي صدع في لحظات شجاعة بما يعجز رؤوس الحركة الصهيونية عن فهمه، أو بالأحرى عن الرغبة في فهمه، فقد كتب القيادي العمالي قبل سنوات أن إسرائيل ستنتهي كدولة في غضون خمسة وعشرين عاما إذا ما واصلت السير في طريق سياستها الحالية، أي سياسة التنكيل بالشعب الفلسطيني ونكران الحد الأدنى من حقوقه.
إسرائيل تثبت كل يوم أنها تريد الأمن والأرض معا بلا مقابل، و تحاول آلتها الدعائية أن تصور أصل الشر ومصدر الإرهاب حركة حماس، و قد كانت سنة 1948 تصور الحكومات العربية كذلك، و في سنة 1967 انتقلت الصفة إلى عبد الناصر، ولاحقا إلى فصائل منظمة التحرير، ولا شك أنها ستجد باستمرار ما وسعها التاريخ من تلصق به هذه الصفة.
لست أدري شخصيا، ولا حتى أشد أنصار السلام والحوار في العالم العربي، ما هو برنامج إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وهل أن على هؤلاء مثلا أن يقبلوا العيش في أرضهم وأرض أبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم عبيدا محاصرين ومحرومين جوعى بلا كرامة، وأن يسلموا لغرباء جمعوا من شتى أصقاع الأرض تحت تأثير أسطورة عمرها ثلاثة آلاف عام، وبتواطؤ قوى دولية ضعف ضميرها، ففرطت في أمانة وتنازلت عما ليس في ملكها أصلا.
الإسرائيليون يعتمدون في وجود دولتهم منذ إقامتها قبل ستين عاما، على القوة، ثم القوة المكررة، ثم القوة المفرطة، ولا شيء غير ذلك، وهم لا يزالون يعتقدون أنهم بالقوة يحلون مشاكلهم، وليست ثمة دولة واحدة في العالم المعاصر مثل إسرائيل، اعتمادا على القوة في تأسيسها واستمرارها، والحق أن القوة أكبر دليل على الضعف، وأن القوة أكبر دليل على التلاشي، لأن كل قوة إلى الضعف مرجعها، وفي بقية البلدان تضعف الأنظمة وتسقط لكن الدول باقية، أما في إسرائيل فإن ضعف النظام أو سقوطه سيعني نهاية الدولة ذاتها.
يتحدث قادة الدولة العبرية اليوم عن اجتياح غزة وإنهاء دويلة حماس، والحق أن اجتياح غزة لا يخيف الفلسطينيين بقدر ما يخيف أعداءهم، وقد جرب الفلسطينيون العيش في ظل الاحتلال مثلما لم يجرب أي شعب آخر، وليس لديهم كغيرهم ما يخسرون، كما خبروا مقاومة الاحتلال أكثر من خبرتهم أي حرفة أخرى، وفي النهاية فإنه ليس لديهم ما يخسرون، إنما الإسرائيليون هم من فر قبل سنين خارج أي أطر اتفاقية.
والاسرائيليون الذي أقاموا كيانهم السياسي على عقيدة احتقارية للآخر، عنصرية تجاهه، يظنون أنهم يمنون على منظمة التحرير والفلسطينيين إذ وقعوا معهم quot;أوسلوquot; و سلموهم كنتونات للإشراف عليها، وكان ظنهم أن على الزعيم الراحل عرفات ومن سار على دربه، أن يتحول إلى شرطي يقمع طموحات شعبه quot;غير المشروعةquot;، وأن عليه أن ينتظر وينتظر وينتظر حتى تتكرم عليه تل أبيب بجرعة إضافية، وغالب الظن أنه إذا سكت من باب الاعتدال السياسي، فإنه لن يمنح شيئا، وسيجد العبرانيون من الأعذار دائما ما يبرر لهم كل عنجهية وعنصرية وعدوانية.
الصهيونية أديولوجية عنصرية قائمة على عقدة مرضية، حولت اليهود الذين اعتنقوها من الناحية النفسية والعقلية إلى حالات مرضية، يعيشون على كراهية الآخر بدل محبة الإنسان، وعلى الخوف من كل شيء وفي كل زمن، وإلا أي حياة هذه التي لا يمكن أن تستمر إلا بحمل المدنيين للسلاح، وبتلقين النشء الحقد المقدس والكراهية العمياء والشك في كل الأشياء، وما دامت إسرائيل مصرة دستورا وسياسة على أن تظل الصهيونية عقيدتها الرسمية، فإن حكمها سيكون حكم كل ايديولوجية مرضية، نهايتها نهاية كل أمر غير طبيعي في الوجود.
القوة إذا دليل على فشل المشروع الصهيوني، والعدد أيضا دليل آخر، فثلاثة أرباع اليهود ما يزالون غير إسرائيليين، وخمس مواطني الدولة العبرية، وإن كانوا مواطنين من درجة ثانية، ليسوا يهودا، ولا حتى روسا أو فلاشا، بل عربا فلسطينيين، والذين صمدوا في وجه المذابح وجرائم الإبادة في حروب التطهير العرقية، أضحوا اليوم إجمالا أكثر من نصف ساكنة فلسطين التاريخية، وبعد عشرين عاما سيكونون أكثرية، والمهاجرون الإسرائيليون أو المنحدرون من نسلهم أقلية، وستتحول المعركة إلى ما يشبه تماما، ما كان قائما في جنوب أفريقيا العنصرية.
نعود ختاما إلى التاريخ كما بدأنا، فإسرائيل المقامة في فلسطين ليست أول تجربة استيطانية لليهود الصهاينة، أو غير الصهاينة، فقد سبق لهؤلاء المسكونين بعقدة quot;الدونيةquot; رغم قوتهم، أن أقاموا مستوطنات في قارات العالم الخمس، انتهت جميعها إلى الانهيار والفناء، لأن أساسها كان بغيضا ومرضيا.
التاريخ يؤكد أن الدول التي تقوم على أساس عقيدة عسكرية تعتمد على القوة في حركتها، تسقط في حدود قرن على أقصى تقدير، وقد سبق لمملكة القدس الصليبية أن استمرت ما يقارب تسعين عاما ثم انتهت بعد ذلك، فالأجيال في الشعب والقيادة عادة ما تفتقد وهج العقيدة بالتدريج مع تعاقبها، والجندي الإسرائيلي الذي حارب في صفوف الكهانا ليس هو الجندي الذي حارب قبل أشهر في غزة أو جنوب لبنان، ولن يكون الجندي الذي سيجتاح غزة أو غيرها بعد غد، فالجنود المتأخرون غير المؤسسين، وجنود الانترنت والنوادي الليلية، ليسوا أولئك الذين عانوا في معتقلات النازية.
فلتطغى إسرائيل إذن ولتتجبر، ولتقصف المدنيين العزل، الأطفال والشيوخ والنساء، ولتقطع الكهرباء والماء حتى يفنى الرضع والحدج في الحاضنات لنقص الغذاء والدواء، ولتغتال من قادة الفلسطينيين من تشاء، بالسم أو بالقصف الغادر أو بالقنص الجبان أو بالإفناء، ولتلعب على أوتار الانقسام العربي والهون الأممي وغياب الضمير الغربي، فكل ذلك لن يضمن مستقبلا ولن ينسي مطالبا بحقه ولن يقنع أحدا بأن فلسطين كانت يوما بلا شعب..دولة من وراء جدر، دولة بلا جدر ومشروع خاسر بلا جدارة.

[email protected]

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه