إلى: فؤاد التكرلي صانع الطرائق السردية

الذي حفّزني لكتابة هذا المقال، هو رحيل الكاتب العراقي فؤاد التكرلي؛ الكاتب الكبير حقيقة لا مجازاً، ولستُ أنا من أسبغ عليه نعمة ذلك الحكم، بل إبداعه أولاً والأقلام المنصفة ثانية. ولم يُعرَف عن التكرلي أنه كان يلهث وراء الإعلام، بل الإعلام من كان يلهث وراءه. لا يمكن أن تدرس تاريخ المجتمع العراقي متجاوزاً ما كتبه التكرلي. خصوصية المجتمع العراقي تتشكل على نحو جماليّ أخاذ في رواياته. الزمان والمكان العراقيان ناطقان في رواياته، يتأمل شخصياته كأنه يدرسها بعمق ويشرّحها ويتقمصها ثم يُجري فيها دماً لتتمرد على كونها شخصية روائية مصنوعة من خيال الروائي، تتمرد لتتحول إلى كائن حقيقي يتحاور مع القارئ. الشخصيات وما تنطق به، والزمان والمكان وتحولاتهما، كل ذلك لم يكن صنعة جمالية خالصة بقدر ما هي خلق لشخصيات جدلية متعارضة الأفكار بشكل دائم، محمّلة بطاقة رمزية، ومعبّرة عن صراعات فكرية مختلفة. التكرلي قارئ متميز للاتجاهات الفكرية والفلسفية الحديثة، وقارئ واع للتطورات التي جرت على جنس الرواية وطرائق سردها، فامتص كل ذلك وضخّه في رواياته وقصصه ومسرحياته بشكل غير متكلّف أبداً. شخصياته إشكالية دائماً، ولا يكرر النموذج لأن الواقع العراقي في تغيّر دائم. إنه صانع الطرائق السردية. ومع ذلك، فإن هذه الوقفة غير مخصصة لتحليل أدب هذا الكاتب، بقدر ما هي كشف عن الطريقة التي يتبعها الكتّاب العرب في تلطيخ سمعة كل مبدع كبير. أستعمل (التلطيخ) هنا، بكل مضامينه وحساسيته الاجتماعية والأخلاقية.
هؤلاء الذين يمارسون مهنة التلطيخ، بالتأكيد هم أكثر ضرراً من ألد أعداء العرب، إنهم يقلعون بذرة الثقة في الوقت الذي يغرسون فيه بذرة الشقاق، هؤلاء هم الذين اختزلوا كل إبداع أسمهان مثلاً في: الجاسوسية. نعم، كانت تهمة الجاسوسية مزدهرة أيام انتعاش الدكتاتوريات العسكرية، وتغيّرت الآن في خضم المدّ الديني إلى تهمة أخرى هي: الكفر. يا بدع الورد يا جمال الورد... رسول العشاق... سمير المشتاق، الجملة التي تنفث في شرايين الصباح وفي مزاج الناس المتجهين إلى أعمالهم طاقة للعمل والحب والإبداع، رميت فوراً في مزبلة الخيانة، وأسدل الستار عليها. ولأن طه حسين أكثر صعوبة في المعالجة من عود أسمهان الرقيق، فقد اجتمعت عليه التهمتان معاً: الكفر، والجاسوسية. والقائمة طويلة ومحزنة، ولا أريد أن أبتعد كثيراً عن الموضوع. لأعود إلى فؤاد التكرلي.
استشاط الكاتب رشاد أبو شاور غضباً، عندما تمّ تعيين فؤاد التكرلي بمنصب مستشار ثقافي في بلده العراق، لأن هذا البلد كان ذات يوم بقرة حلوبا، أو مستعمرة من قبل رئيس أوحد وحاشيته المتكونة من عدد واسع من الجواسيس والمتثقفين العرب المطبلين والمزمرين وكتّاب التقارير ومستعملي المسدس إذا اقتضى الأمر لقتل العراقيين الخارجين على طغيان صدام. ولأن موهبة التكرلي وثقافته ورؤيته قد حَجَبتْ عن رشاد الأضواء يوم كان الاثنان يقيمان في تونس في التسعينيات، فقد أصرّها وأسرّها له، حتى أظهرها في مقال من مقالات مدّاحي النظام السابق الذين انكشف سيل لعابهم أمام الدولارات، وأمام أبواق الإعلام الدكتاتوري الذي كان يلمّع صورهم ويغطي على مواهبهم الضئيلة. دسائس الغيرة بين الموهوبين وفاقدي الموهبة معروفة في تاريخ الإبداع عموماً.
لكن قبل التوقف عند ماهية التهم التلطيخية التي مارسها أبو شاور بحق التكرلي، تعالوا أريكم كيف يفهم أبو شاور الثقافة العراقية، لنقرأ معاً ما كتبه بحق حميد سعيد قائلاً:
(هو أحد اثنين كبيرين ظلاّ مخلصين للشعر بعيداً عن المديح السياسي، والشعاراتية الآنيّة: هو وسامي مهدي، متميّزين عمّا عداهما مّمن حسبوا على حكم حزب البعث). رشاد أبو شاور ـ حميد سعيد: نشيد البلاد الطالعة من الرماد ـ السبت ٢٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٥ ـ موقع تجمع الأدباء والكتّاب الفلسطينيين).
هل يحتاج القارئ أن أعلّق، لا أظنني أكثر وعياً من القارئ المنصف فأقول إذا كان هذا الكاتب لا يعرف من هما حميد سعيد وسامي مهدي وما نوع (الأدب) الذي كتباه، فهل من المعقول أن يعرف القيمة الفكرية والرمزية والتجديدية لأدب التكرلي؟. لكن ماذا قال أبو شاور عن فؤاد؟. استمعوا إلى كلامه الذي أضعه بين هلالين وأعلّق عليه مباشرة حتى لا تتشتت الفكرة:
1- (كان فؤاد التكرلي - وهو كاتب مقّل جداً، ومتواضع الموهبة، وإن روّج له يساريون أرادوا توظيف اسمه لخدمة أغراضهم - يَسِرُّ لبعض زملائه أنه عُيّن في السفارة العراقيّة كمستشار إعلامي بأمر الرئيس صدّام حسين شخصيّاً).
لاحظوا معي أن (أبو شاور) يدين التكرلي هنا عبر مغالطتين: الأولى استعمال اسم صدام مرة للقدح ومرة للمدح، والثانية بناء الحكم على النميمة بدلالة قوله: يسرّ. ومن ناحية أخرى، هل يمكن أن يعدّ الإنسان خائناً بلده عندما يتعيّن في وظيفة مدنية في عهد الدكتاتورية؟. على هذا الأساس، يمكن أن نعدّ كل الكتّاب وأصحاب الوظائف في العالم العربي خونة، لأنهم موظفون في نظام عربي دكتاتوري من مغربه إلى مشرقه. وعلى هذا الأساس، فإن الشعب العراقي كله خائن لأنه ما من أمر يصدر بتعيين شخص إلا استناداً إلى قانون أو أمر شخصي موقع من قبل صدام. لكن (أبو شاور) عندما نشر (بيت أخضر ذو سقف قرميدي) ببغداد في العام 1974 ومن قبل وزارة الإعلام العراقية المرتبطة مباشرة بنظام الحكم، عندما كان العراقيون يتعرضون إلى قمع الحقوق والحريات، لم يجد في ذلك أية خيانه لمبادئه القومية، ولا لمواقفه الثقافية التي تجعل منه كاتباً يحترم قلمه ويحترم القارئ الذي يُصَدّر إليه كتاباته. لذلك ليس مستغرباً على عبقرية هذا الكاتب الموهوب أن يحكم على التكرلي بأنه ضعيف الموهبة. ثم ما علاقة الإبداع بكون الكاتب مقلاً، ألم يقرأ الإبداع العظيم في نصوص شعراء الواحدة في التراث العربي؟. ماذا ترك رامبو غير مجلد من أشعاره التي شغلت الدنيا؟ ماذا ترك جان دمو؟. ماذا ترك أبو القاسم الشابي؟ ماذا ترك المتنبي غير مجلد يحوي قصائده العظيمة؟. لنستمع إلى (أبو شاور) ثانية:
2- (التكرلي هذا تنقّل نقلات متناقضة، وسلك سلوكاً لا يليق بمثقّف وكاتب له قناعات، وهو بوضعه في منصب مستشار للطالباني يكون قد أخذ موقعه المناسب، فالطائفي في خدمة الأقليّاتي المعادي لعروبة العراق).
هكذا إذن، التكرلي خائن لأنه تمّ تعينه مستشاراً ثقافياً للرئيس جلال الطالباني. فإذا كان الأمر كذلك، أقول إن موقف العرب الرسمي والإعلامي يعدّ الخطاب السياسي للدكتور عدنان الدليمي زعيم جبهة التوافق خطاباً وطنياً وقومياً وإسلامياً، وهذا الرجل هو مستشار لدى الرئيس جلال، فلماذا الأمر هنا يجوز وهناك لا يجوز؟. أنا فقط أعرض المسألة أمام القارئ المنصف ليكتشف بنفسه التزييف والحقد على الشعب العراقي، بسبب إطاحته بنظام كان بمثابة الخزنة التي لا تنفد دولاراتها بالنسبة للمتثقفين والمطبلين المزمرين. هل يمكن أن نقول إن كل المثقفين من المستشارين وغير المستشارين ممن لهم علاقة عمل مع الرئيس محمود عباس خونة؟ هل يحق لنا هذا باعتبار أن الرئيس محمود يعترف بإسرائيل في حين لم يعترف أي مسؤول عراقي بإسرائيل؟.
ثم أريد أن أسأل أبو شاور ما الطائفية؟ ما العروبة؟ ما الأقليات؟. عندما يقمع السنة الشيعة هذه ليست طائفية، وعندما يطالب الشيعة بحقوقهم فهذه طائفية، عندما يقمع العرب الأكراد هذا ليس تعصباً قومياً وعندما يطالب الأكراد بحقوقهم هذا تعصب قومي، عندما يعتدي المسلمون على المسيحيين وباقي الأديان الأخرى هذا من حقهم المقدس وعندما يطالب المسيحيون وغيرهم باحترام حقوقهم فهذه عمالة للأجنبي، عندما تحتل حماس قطاع غزة محققة الانفصال بشكل عيني هذه ليست فيدرالية مدنسة وعندما يطالب العراقيون بالفيدرالية فتلك مطالب مدنسة، وعندما الزعماء العرب رايح جاي على إسرائيل هذه ليست خيانة وعندما يفكر الرئيس الأمريكي بزيارة العراق فإن خيم العزاء والبكاء تنصب على شتم نوري المالكي وجلال طالباني قبل مجيئه بتسعة أشهر، وعندما يزور بوش الدول العربية ويتقلّب على ريش نعامها ما بين السيوف الهدايا والرقص الشعبي والسهر في المنتجعات الخاصة والقبلات وأكل الثريد والعصيد والتلمظ بالعصير المركز المعمول من كل فواكه الكون، هذه ليست خيانة، وعندما تهبط طائرة بوش بشكل كئيب في بغداد فإن هذه هي الخيانة العظمى التي تستحق أن تفخخ لها أجساد الأطفال والنساء المجنونات ويكون الهدف سوق الغزل؛ ذلك السوق الخاص ببيع وشراء طيور الزينة، فتحصد أرواح الأبرياء. عندما تكون السيلية والقواعد الأمريكية في دول الخليج منطلقاً لضرب العراق هذه عروبة خالصة، وعندما يتعيّن التكرلي بوظيفة مستشار للرئيس هذه إهانة للعروبة. هذا هو معنى العروبة والطائفية والاقليماتية في عرف هؤلاء المتثقفين العرب للأسف. قميص الثقافة العربية أصبح بالياً ومهترئاً لابد من استبداله.
لنستمع إلى أبو شاور ثالثة:
3- (أتوقّف قليلاً لأذكّر بأن كاتباً عراقيّاً كبيراً يعيش في تونس منذ سنوات، غادر العراق باختياره، ولم يقدّم نفسه مضطهداً وهارباً بحياته، أقصد الصديق عبد الرحمن الربيعي، قد تعرّض لظروف صعبة، ومع ذلك فلم يحصل على الرعاية من السفارة العراقية، ومن السفراء العراقيين المتلاحقين، وعانى من ظروف قاسية، واعتمد على نفسه، وعلى مساندة الأصدقاء الفلسطينيين، والموقف (التونسي) النبيل بتعيينه في مجلة (الحياة الثقافيّة)، والكتابة في (الشروق) منذ سنوات).
لاحظوا كيف يعرض ويعرِّض بصديقه عبد الرحمن الربيعي، ويقدمه في صورة الشحاذ لا في صورة الكاتب الكبير كما يقول، الذي يُستكتَب ولا يمضي إلى الصحف عارضاً أدبه. ولاحظوا أيضاً التطبيل لهذه المسألة، والإلحاح على مساندة الأصدقاء الفلسطينيين، ترى ماذا نقول عن مساندتنا إلى مئات الآلاف من أخواننا الفلسطينيين؟. والله طيلة سنتين في عمّان ما التقيت بفلسطيني إلا وقال لي: إن لحم أكتافنا من خير العراق، من الطبيب إلى المهندس إلى المحامي إلى الأستاذ الجامعي إلى الكاتب إلى سائق التاكسي، وكان هذا الاعتراف يغرس ما بيننا المودة إلى هذه اللحظة إذ أتواصل مع أصدقاء فلسطينيين أحبهم ويحبونني.
لم تقتصر حملة التشويه على العرب بل اشترك فيها العراقيون كذلك، ففي العام 2005 أقيم ببغداد مؤتمر المثقفين العراقيين، وتوزعت جلساته على عدة أماكن، وهو مؤتمر كانت الغاية منه أن يعالج الخراب العظيم الذي لحق بثقافة هذا البلد عبر عقود من الدكتاتورية المقيتة، وعبر الممارسات الطائفية الجديدة، وممارسة العنف الأصولي والإرهابي، التي أجهزت على ما تبقى. وفي المسرح الوطني بالكرادة، كانت تناقش المقررات والتوصيات النهائية التي رفعها المشتركون، وكان التكرلي حاضراً بوصفه أحد رموز الثقافة العراقية، وفيما كان الرجل يجلس بهيبته المعهودة كان هنالك أديب عراقي يتزلف إلى أحد التيارات الدينية الحاكمة يصرخ بأعلى صوته شاتماً التكرلي، الذي ظل مبتسماً ومحافظاً على هدوئه وهيبته، لكنه كان يمتقع من الداخل كأن سكيناً تمزق أحشاءه، أو ستارة عمياء تنزل بينه وبين حلم عودته إلى وطنه. هكذا كان تكريم التكرلي فوق خشبة المسرح الوطني، التكرلي الذي تعتبر أعماله الروائية والقصصية والروائية صورة لتحولات المجتمع العراقي الذي لم يستقر على حال.
الكاتب العربي لم ينجُ هو الآخر من تلطيخ السمعة كذلك، فقد شمله شاء أم أبى، وسوف أسرد لكم شيئاً يسيراً من ذلك. طبعاً التلطيخ لا يتعلق بالقيمة الثقافية لمنجزه أبداً، بل بسبب تعارض في المصالح أحياناً، أو الغيرة القتالة، أو ضعف الموهبة، أو اتباع جمهرة من ( الكتبة) ذوي المواهب الهزيلة وسيلة التشهير والشتيمة بحق الكتّاب الكبار طمعاً في ترويج أسمائهم التي لا يمكن ترويجها لو تعاونت السي أن أن والبي بي سي والفوكس وسائر وسائل الإعلام الشهيرة. تبقى الذبابة تنظر إلى الأسد بحقد أعمى. وهكذا تصبح ممارسة التلطيخ، عملية قائمة على ستراتيجية: المرأة النمّامة. كم عندنا من النمامين لا المثقفين؟. وكم هو نصيب النميمة الثقافية في عالمنا العربي؟.
في العام 2003 وأثناء إقامة مهرجان جرش، كانت هنالك جلسة خاصة في فندق ماريوت في عَمّان جمعتني بشاعرين معروفين أحدهما من لبنان والآخر من سورية، انطلق الاثنان في تشريح جثة أدونيس الشعرية والثقافية معاً، واختزلاه في الآتي: ما عنده شيء يقوله بعد + راح يموت من كثرة الهرولة وراء جائزة نوبل. ماذا بوسعي أن أنطق عندما يختزل واحد مثل أدونيس في هاتين التهمتين، أخترت الإنصات تارة، وتغيير الموضوع تارة أخرى، فيما كان أحدهما يضع إمضاءه على آخر دواوينه الشعرية هدية منه لي. عدتُ إلى شقتي قرأت الديوان من الغلاف إلى الغلاف، فوجدتُ أن كلّ ما فيه لا يعادل جملة شعرية واحدة من جمل أدونيس. وشتان ما بين هذه الجلسة، والجلسة التي جمعتني بأدونيس والفنانة منى السعودي في الفندق نفسه، فقد بادر أدونيس بنفسه للاتصال بي وتحديد موعد للقاء، كان الرجل يسألني عن كل شيء يجري في العراق، يسألني عن ثقافة العراق، وعندما كنت أتحدث كان يصغي بأدب جمّ، وعندما كنت أنتقد القراءات التي قرأت نتاجه الشعري والفكري كان يسمو عن ممارسة الشتيمة، ويتحدث بلغة غاية في الشفافية والتواضع. وكان دائماً يريد أن يعرف كأنه تلميذ لا يشبع من المعرفة.
الإساءات مستمرة، والمبدعون لا ينقرضون. يبقى طه حسين وأدونيس والتكرلي و... مشاعل إبداعية لا يمكن حجبها بغربال الحقد الأعمى.
التكرلي رحل صامتاً، وظلت شخصياته الإشكالية التي خلقها من واقع عراقي إشكالي لا تكفّ عن الكلام، وهذا هو الإبداع. وهذا هو التكرلي الذي لم تظهر صورته في القمر، إنما تظهر باستمرار في شخوصه الذين خلقهم بعناية في سائر أعماله الإبداعية.
[email protected]

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه