من مفكرة سفير عربي في اليابان

تعتبر شارلوت برونتي من أشهر روائي الأدب الانجليزي في القرن التاسع عشر. فقد ولدت في عام 1816 من عائلة أيرلندية، وعاشت يتيمة بأحد المدن الانجليزية، بعد أن فقدت والدتها بمرض السرطان وتوفى معظم إفراد عائلتها بمرض السل. وقد أحبت أستاذها المتزوج، حينما كانت تدرس في مدينة برسل البلجيكية، لتعيش حياتها تعاني من لوعة نشوة الحب الضائع. وتزوجت من صديق لوالدها بعد أن قاربت السابعة والثلاثين، لتتوفي بعد سنة من زواجها وهي حامل. وقد عبرت عن قصة حبها في روايتها جين أير والتي تعتبر من روائع الأدب الانجليزي. وتروي هذه القصة حياة فتاة يتيمة يقوم بتربيتها خالها القاسي القلب، لتنتقل بعدها في عهدة رجل غني يقوم بإرسالها لمدرسة حكومية لتعاني من وحشية مديرها، ولكن تصر أن تكمل دراستها لتصبح مدرسة فيها. وتنتقل بعدها للعمل كمدرسة في بيت رجل غني، لتكتشف بعد فترة بأن هذا الرجل يحبها ويريد الزواج منها. وتصاب بالحزن الشديد حينما تكتشف بأن حبيبها متزوج من ألامرأة المصابة بالجنون والموجودة في بيته. فتترك المنزل لتهيم بين فاقة الجوع ولوعة الحب. ويضحك لها القدر بأن تتعرف على قس يساعدها للعمل بمدرسة خيرية، وتورث ثروة طائلة بعد وفاة عمها الغني. فتسافر مع ابن عمها الذي رفضت الزواج منه للهند. لترجع بعد فترة لتكتشف بأن زوجة حبيبها قد ماتت، بعد ان حرقت بيته وتسببت في فقدان نظره. فتتزوج من حبيبها الأعمى والمشوه لتعيش سعادة حقيقية. ويضحك لها القدر مرة أخرى بأن يسترد حبيبها نظره بعد سنتين من زواجهما وليرى مولودها الأول.
تلاحظ عزيزي القارئ كيف حاولت السيدة برونتي أن تعوض عن نشوة حبها الضائع برواية حب تنتهي بحياة عائلية سعيدة. والسؤال لعزيزي القارئ ما الفرق بين النشوة والسعادة؟ فهل النشوة مفهوم مادي والسعادة مفهوم روحي؟ فحينما يقابل أحد عشيقته أو يحتسي كأس من الخمر، أو يربح صفقة في القمار، أو يستلذ بوجبة دسمة من اللحم الأحمر المملوء بالشحم والمغطى بطبقة من الجبن السويسري مع البطاطس المقلية بالسمن البلدي، يكون في غاية النشوة، أم تغتبط روحه بالسعادة؟ يقول الراهب البوذي ديلجو رينبوش: quot;الباحث عن السعادة في النشوة والغنى والقوة والشهرة والبطولة هو كالطفل الساذج الذي يحاول مسك قوس قزح متخيلا بأنه معطف يريد أن يلبسه.quot; فإذا لم تكن النشوة هي السعادة، فما هي السعادة إذا.
لقد حاولت شارلوت برونتي أن تتفهم معنى السعادة حينما عبرت عنه في رواية لها قائلة: quot;أستغربت حينما سمعت طبيبي يتكلم عن زراعة السعادة! فقلت له: هل تزرع السعادة؟ كيف يمكنك ذلك؟ فهل السعادة بطاطة لتزرع وتغذى بالسماد وتروى بالماء؟quot; والسؤال لعزيزي القارئ هل فعلا ممكن أن نشبه السعادة بزراعة البطاطة؟ فهل نحتاج لجهد كبير لكي نزرع السعادة في نفوسنا، وتغذيها باللطف وحسن الخلق، ونرويها بالتفاؤل والرحمة والبهجة لتتفتح أزهارها وتتشعب جذورها في أروحنا؟
لقد حاولت مجلة الاكيونومست البريطانية إن تبحث عن بعض الإجابات لموضوع السعادة في مقالها سر السعادة الذي نشرته في التاسع عشر من يناير عام 2008. فقد بحثت المجلة في المعلومات الصادرة من قاعدة معلوماتية عالمية مختصة بالسعادة، وقد ساهمت الدول الغربية في إنشائها وحددت مركزها بمدينة روتردام الهولندية. وقد وضحت الأبحاث الناتجة عن هذه القاعدة المعلوماتية بأن السعادة مرتبطة بعوامل شخصية واجتماعية مختلفة. فمثلا الاستقرار العاطفي والعائلي والعقائدي يلعب دورا في سعادة الإنسان. فالمتزوجون والمتفائلون أكثر سعادة من العزاب والمتشائمين. والشخصيات المتفتحة اجتماعيا والمحافظة عقائديا أكثر سعادة من الشخصيات المنغلقة واللبرالية. والممرضات أكثر سعادة من موظفي البنوك. كما أن المتدينين والناشطين جنسيا وخرجي الجامعات والقريبين من مواقع وظائفهم أكثر سعادة من أقرانهم. وعلقت المجلة بأن الأغنياء يطربون بالحياة أكثر من الفقراء ولكن طربهم لا يزيد من سعادتهم.
ودرس علماء النفس والاقتصاد والاجتماع في الولايات المتحدة سبب قلة السعادة بين أفراد الشعب الأمريكي مع أنهم يتمتعون بمجتمع الحرية والفرص والغنى. ويعتقد العلماء بأن السبب الرئيسي مرتبط بظروف اجتماعية عدة، وبالاعتقاد بان السعادة استحقاق طبيعي لا يحتاج للعمل الجاد. فمن المعروف بأن الشعب الأمريكي يعمل ساعات طويلة ويصارع الحياة لكي يصبح سعيدا، ويعاني مجتمعه من معضلات اجتماعية كثيرة. فقد تضاعفت نسبة الطلاق في السنين الأخيرة، وزادت نسبة الانتحار بين المراهقين لثلاثة إضعاف، وارتفعت نسبة الجريمة لأربعة أضعاف، وزاد عدد السجناء لخمسة أضعاف، كما زاد نسبة أمراض القلق والكآبة. كما يشتكي المجتمع الأمريكي من ثقافة الاستهلاك والتزمت الديني والفساد السياسي والسلبيات المرافقة للتطور التكنولوجي. ويعلق الفيلسوف الاجتماعي الأمريكي أريك هوفر بأن الشعب الأمريكي مهووس بالبحث عن السعادة، مع أن في رأيه بأن البحث عن السعادة هو السبب الرئيسي لانعدام السعادة في المجتمع. كما لاحظ هوفر بأن الشعب السويسري هو من أكثر الشعوب سعادة. ويعتقد هذا الشعب بأن سبب سعادته هو جمال طبيعة بلاده، وكفاءة حكوماتها، ودقة مواعيد مواصلاتها، وقلة نسبة البطالة بين شعبها، بالإضافة لنظافة حماماتها. بينما ارتبطت السعادة في الدول الإسلامية (ممثلة بدولة قطر) بالإرادة الإلاهية. وينشغل الشعب التايلاندي بالعمل لكي يكون سعيدا، ولذلك ليس لديه الوقت لمعرفة معنى السعادة. كما تعتقد شعوب الدول الأقل سعادة، كجمهوريات السوفيتية السابقة، بأن قلة سعادتها هو نتيجة للشعور العام بعدم الثقة في مجتمعاتها، وانتشار الوساطة والفساد والغيرة. ويعتبر الشعب البريطاني بان السعادة هي صناعة مستوردة من الولايات المتحدة فكما قالها احد الانجليز quot;نحن لا نصنع السعادة في بريطانيا.quot;
وقد كتب جان جاك روسو يقول: quot;كل إنسان يريد أن يكون سعيدا، وليستطيع أن يحقق هذه الرغبة علية معرفة ما هي السعادة.quot; فهل من الممكن أن نعرف السعادة؟ فهل هي شعور عاطفي أم أحساس قناعة؟ أم السعادة طمأنينة نفسية بتوفر الصحة وحاجيات الإنسان الفسيولوجية كالشراب والغذاء والجنس والملبس والمسكن، والحاجيات النفسية كالعمل المنتج والأمن المجتمعي؟
كتب العالم الفرنسي ماثيو رتشارد في كتابه السعادة يقول: quot;حينما كنت في العشرينات لم تعني كلمة السعادة لي الكثير. فقد كنت نموذجا للشاب الباريسي، أشاهد أفلام انشتين وماركس، اعزف الموسيقى، اخرج في مظاهرات جامعة السوربون وأحب الرياضة ومشاهدة الطبيعة. فلم أعرف كيف أقيد حياتي بل كنت العبها يوما تلو اليوم الآخر. ولكني أحسست بأن هناك طاقات يمكن أن تزهر في داخلي، ولكن لم اعرف كيف أحقق ذلك.quot; ويتذكر الكاتب حديث لبعض زملائه بعد تخرجهم من الجامعة، حينما سئلت زميلته عما تريد أن تفعل بعد تخرجها. فردت بأنها تريد أن تكون سعيدة. فأستغرب أحدهم فسألها: quot;كيف يمكن لشخص موهوب مثلك ألا يريد إلا أن يكون سعيدا.quot; فردت بقولها: quot;ولكني لم أقل كيف أريد أن أكون سعيدة. فهناك طرق كثيرة للسعادة: الزواج والأطفال والوظيفة والمغامرة، ومساعدة صديق وإيجاد طمأنينة النفس الداخلية.quot; ويعتقد رتشارد بأن كلمة السعادة هي كلمة مبهمة، مع إنها تعرف الكفاءة التي يعيشها الإنسان كل لحظة من حياته. كما يعرفها علماء الاجتماع بأنها الدرجة التي يقيم الشخص كفاءة حياته ايجابيا، ودرجة حب الإنسان لحياته التي يقيدها.
وقد ناقش العلماء الجهد الذي يحتاجه الإنسان ليخلق السعادة في شعوره الداخلي. فكتب العالم الفرنسي لوكا كافالي سفوقزا يقول: quot;السعادة لا تأتي عفويا فهي ليست هدية يجلبها الحظ السعيد ويأخذها الحظ التعيس. فخلق السعادة تعتمد على الشخص نفسه، فهي لا تأتي بين ليلة وضحاها، بل تبنى تدريجيا بالجهد والمثابرة والصبر يوم تلو اليوم الآخر، ولذلك يحتاج كسبها للجهد والوقت الكثير. ولكي نصبح سعداء نحتاج لمعرفة كيف يمكن ان نغير انفسنا.quot; ويعتقد العلماء: quot; بأن العمل الجاد والمضني لتغذية الانفعالات الايجابية في نفوسنا، سيمكنننا من أن نهيئ حقول لزرع ورود السعادة في نفوسنا وأذهاننا. ومع أن الجهد الجسمي له حدوده الفسيولوجية ولكن آفاق الذهن واسعة لزراع زهور الحب والرحمة في القلوب والتي تجلب الغبطة والسعادة.quot;
والسؤال لعزيزي القارئ هل تحتاج مجتمعاتنا العربية لقاعدة معلوماتية لمعرفة مفهوم السعادة في مجتمعاتنا، ونسب انتشارها، والعوامل اللازمة لزيادتها؟ وهل ترافقت مجتمعاتنا الموصوفة بالتدين بزيادة الشعور بالسعادة، أم تحولت لمجتمعات تلهث وراء الربح المادي السريع، فاهتمت بالعلوم المادية وتناست العلوم الروحية والسلوك الإنساني الجميل المترافق معها؟ وما مدى ارتباط السعادة بالعلاقات الزوجية؟ وهل تحتاج ظاهرة الطلاق المنتشرة في مجتمعاتنا لوقفة تأمل؟ فقد لفت نظري مقال بصحيفة إيلاف الالكترونية عن مشكلة الطلاق، والتي بدأت في التزايد بمجتمعاتنا العربية وبشكل مخيف، لتتراوح نسبها بين 30% وحتى 60%. ولنتصور عزيزي القارئ ما يرافق هذه الظاهرة من الحزن والألم للأزواج، والمعاناة الحياتية للأطفال ماديا وعاطفيا وروحيا. فما الذي يحول حلم الزواج الجميل لتعاسة الم ومعاناة، وجروح تنزف من سكين الاختلافات والخلافات العائلية، لتنتهي بندب أبدية تؤثر في الذهن والروح؟ وهل تترافق هذه الظاهرة بزيادة نسب الفقر والاضطرابات النفسية والجريمة بين أطفال مجتمعاتنا؟ وما هي سبل الوقاية من مأساة الطلاق؟ وهل السعادة الزوجية قسمة مكتوبة أم اختيار متأني مدروس؟ وهل الزواج السعيد مشروع شراكة يحتاج لتدريس وتدريب؟ وما دور العائلة والمدرسة في تهيئة الشباب لزواج سعيد؟ وما هي نسب الشباب الذين تهيئهم المدرسة والعائلة لهذه المسئولية؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه