اتفق العرب المعدلين والممانعين سواء بسواء كالعادة على ما ينبغي ألا يتفقوا عليه أو لم يتفقوا على ما لا يجب أن يتفقوا عليه،فبعد أن أوصى وزراء الداخلية العرب على ضرورة مناهضة الإرهاب وأجمعوا على التصدي لكل التنظيمات المتشددة ومقاومة الجريمة المنظمة والتجارة بالمخدرات والأطفال هاهم من جديد وزراء الإعلام العرب يتفقون أيضا باستثناء قطر ولبنان على وضع ضوابط تقيد المادة الإخبارية المعروضة على الفضائيات العربية بحيث تحظر كل مادة تتعرض بالتجريح والثلب للحكام والرؤساء والزعماء التاريخيين والحاليين. وبالتالي سيقع منع كل برنامج يهاجم الرموز الدينية والمقدسات الحضارية ويعاقب انطلاقا من هذا الإجراء الوقائي الجديد أي صحفي أو محلل سياسي أو إعلامي محترف في أية قناة فضائية أو صحيفة أو مجلة أو موقع الكتروني عن حريته في استخدام عقله وممارسته النقد والقراءة والتأويل للأحداث من أجل تشخيص الأسباب واستخلاص الدروس والوقوف عند الأمراض وطرح الإشكاليات واقتراح الحلول واستشراف المستقبل.
ربما دقت الأنظمة العربية ناقوس الخطر والتهديد التي يمثله الإعلام الحر والفضائيات النقدية الهادفة على أمنها القومي وتدخلها في سيادتها الوطنية الإبداعي وهو كذلك يتناقض مع مكاسب الانسانية التي حملتها العولمة وخاصة ضرورة الإبقاء على السموات مفتوحة ومنابر الإعلام مستقلة وإلزامية التعامل معها بطريقة ديمقراطية حضارية ولكن ذلك يثبت بشكل ملفت للانتباه ما تمثله الفضائيات من قدرة على التأثير في الناس والتوجيه نحو تغيير الواقع والفعل في التاريخ. فعوض أن يتناقش الوزراء العرب على توفير شروط تحقيق الأمن القومي العربية والسيادة على البر والبحر والجو وعلى سبل تطوير المنظومة الإعلامية والارتقاء بالرسالة الإخبارية الى المستوى اللائق به والحرص على الجودة والأصالة والاعتزاز بالهوية وترسيخ قيم السلم والتثاقف مع الآخر ويرفعون الحواجز والعراقيل من أمام المراسلين والكتاب نراهم يفعلون العكس ويشرعون القوانين التي تحرم وتحدد وتمنع وتهدد وتتوعد كل ما من يعارض أو يحاسب أو يكشف الحقائق والمعطيات الدامغة.
البعض من الدول رفض هذا الإجراء واعتبره نكوصا والعودة بالإعلام الى الوراء وهذه الدول هي قطر التي تضم قناة الجزيرة التي كثيرا ما حوصرت ومنع مراسليها وحوكم صحفييها في العالم واتهموا بمساعدة الإرهاب مثل تيسير علوني وسامي الحاج وطارق أيوب شهيد الإعلام والدولة الثانية هي لبنان التي تضم عدة قنوات مستقلة مثل المنار التي تمثل إعلاما مضادا لوجهة النظر الاسراتئيلية والتي منعت من البث على القمر الصناعي Hotbird وما انفكت تقدم مادة إعلامية راقية وملتزمة.
بقية الدول وافقت على القرار بل ألحت على تفعيله بسرعة لتعكس هيمنة دول الاعتدال والتعديل على الموقف الشعبي العربي المناهض للتطبيع والهيمنة الغربية والمعتز بانتمائه العربي الإسلامي ومن المعلوم أن الإعلام الفضائي العربي يسيطر عليه رجال الأعمال الخليجيين وتمتلك السعودية القمر الصناعي Arabsat ومصر تملك القمر الصناعي Nilsat وبما هاتين الدولتين كانتا من السباقين لإصدار قرار وضع الضوابط فلا نظن أن مستقبل الإعلام العربي الحر سيكون بخير اذا ما وقع اعتماد المذكرة بشكل نهائي وعندما يبتلع الرأسمال السلطوي ما تبقى من الهواء الطلق من البرية.
ماهو منطقي أن الفضائيات العربية تعاني من العديد من الأمراض وتهزها عدة تناقضات وخاصة الفضائيات الغنائية التي تخاطب الجسد والحواس وتفسد أخلاق الشباب وتعتدي على الأنماط الثقافية الأصلية وأيضا الفضائيات الإيمانية الي تبشر بتصور أحادي الجانب ومذهبي للدين الرحب والشريعة السمحاء وكذلك الفضائيات الإخبارية السياسية تلعب في بعض الأحيان دور إشعال الفتن والتحريض الطائفي والإيديولوجي.
لكن المطلوب ليس تقليم أظافر منتجي هذه الفضائيات أو إغلاقها والحجز عليها كما حدث مع بعض منها في الماضي وكما تعرض البعض الآخر للتهديد بالقصف وتصفية إعلامييها بل نقده نقدا بناءا ومساعدتها على التطور والارتقاء بمادتها وذلك عن طريق مساعدتها المادية وتوفير مناخ من الحرية والأمن والسيادة الضروري لكي تمارس مهنتها على أحسن وجه.
إن ما ينبغي التنبيه على مخاطره ومعاتبة الإعلام الفضائي والمكتوب عليه هو فراغ المحتوى وصنمية الصورة وتفاهة البرامج والسقوط في الأخطاء اللغوية واللجوء الى الدمغجة والدعاية والبروباغاندا والسب والقذف والانحدار الأخلاقي واستخدام الإغراء والإشهار من أجل الترويج والتجارة والربح.
انه من الضروري أن يتقيد الجميع بضوابط من أجل صيانة ميثاق شرف الإعلام العربي واحترام الهوية العربية الإسلامية والرموز الحضارية والمحافظة على مصداقية المهنة ولكن ينبغي ألا يعني ذلك محاصرة للإعلام وتقييد لنشاط الفضائيات وتخويف للطاقات وقمع للقدرات من أجل تشجيع الإعلام التابع وتفريخ الأقلام الموالية والبرامج التي تخدم وجهة النظر الرسمية فتكون السلطة الرابعة خير دعامة للجمع بين السلطات الثلاثة الأخرى بقبضة من حديد.
ماهو بديهي أن النقد والمحاسبة ظاهرة صحية تتعرف من خلالها الأنظمة على أخطائها وتكون مجبرة على تلافيها كما أن المعارضة ضرورية من أجل صنع المستقبل وتقدم الشعوب ومجتمعات دون معارضة هي مجتمعات ميتة وأفرادها كأعجاز نخل خاوية وبالتالي يجب أن يعمل الإعلام على صيانة ملكة النقد ومأسسة المعارضة في المجتمع العربي من أجل إطلاق مسيرة الإصلاح السياسي والاستئناف الحضاري.
أرجو أن يراجع المسؤولون الإعلاميون العرب حساباتهم ويعدلوا تصوراتهم للعلاقة بين المنظومة الإعلامية والمجتمع السياسي وأن يدركوا أن مصير شعوبهم رهين بناء مؤسسة إعلامية حرة ومستقلة تنتمي الى دائرة المجتمع المدني وأنهم اذا ما تمكنوا من السيطرة على الإعلام المكتوب فانه من المضيعة للوقت أن يحاولوا حجب نور الشمس عن الناس في عالم السموات المفتوحة، فمن سينقل نبض الشارع وسيقول الحقيقة وسيعبر عن مشاكل الناس بصدق دون إعلام محايد؟ وأي الإعلام هذا الذي يريدونه يكون خاليا من النقد والمعارضة؟ أليس من الواجب أن يكون ثمة للعرب فضاء إعلاميا مفتوحا اذا ما أردنا اللحاق بركب الأمم المتقدمة واذا ما سعينا الى نبذ روح التعصب والجمود؟

* كاتب فلسفي

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية