عندما يلتقي النّاس في
جلسات أو لقاءات عابرة، فعادة ما يتجاذبون أطراف الحديث عن حال هذه الدّنيا على كافّة المستويّات، الشّخصيّة منها والعامّة. يتحدّث النّاس بدءًا بالسّياسة والثّقافة والاجتماع وانتهاءً بكلّ ما يخطر على بال، فما على الكلام جُمرك، كما يُقال. والفلسطينيّون في هذه الدّيار، كغيرهم من الأغيار، هم أيضًا يتجاذبون أطراف الحديث ذي الشّجون، فيحكون ويحكون. وquot;الحكي يجرّ الحكيquot;، كما تقول العامّة.
وها أنذا أسترجع في هذه المقالة من خفايا الذّاكرة بعض ما علق فيها من تلك الأحاديث مع بعض القوم لأدوّنها هنا للقارئ الكريم لما فيها من دلالات بعيدة المدى تعبّر عن مكنونات ما بطن في دواخل هؤلاء هي خلاف ما ظهر على الملأ. لن أذكر هنا أسماء الأشخاص الّذين قضى البعضُ منهم نَحْبه، ومضى البعض منهم خلفَ ما هداه إليه قلبه ولا يزال حيًّا يُرزق. ليست الأسماء بذات أهميّة في هذا السّياق الّذي نحن بصدده الآن، بل ما تمثّله تلك المقولات الصّادرة عنهم من واقع معاش يشي بالكثير من الرّياء وانعدام الصّراحة في العلن خلاف ما بطن، هذا إن لم نرغب في وصف كلّ ذلك أصلاً بالوقاحة.

كيف ردّ محرّر الجريدة الأوّل؟
في الماضي غير البعيد، ولكثرة اهتمامي بما يجري على الساحة الفلسطينيّة من أمور دأبت على نشر مقالات تتطرّق إلى جوانب كثيرة ممّا تشهده السّاحة الفلسطينيّة من مستجدّات وتحوّلات. في البداية رحّب المحرّر بالمقالات وكان سعيدًا بنشرها. لكن، وبعد أن بدأت وضع النّقاط على الحروف مشيرًا إلى جوانب الخلل في السّياسة الفلسطينيّة والسّلوك الفلسطيني، وعلى وجه الخصوص كلّ ما يتعلّق بالفساد وغيره من الأمور الّتي قد تهمّ العباد، فقد شعرت أنّ المحرّر قد بدأ يتذمّر من طبيعة المقالات. كنت أتحدّث مع المحرّر بهذا الشّأن بين فينة وأخرى. بعد مدّة من الزّمن اكتشفت في الحقيقة أنّي كنت ساذجًا إلى أبعد الحدود عندما كنت أظنّ أنّ الحال الفلسطينيّة تختلف عن حال سائر البلاد العربيّة من ناحيّة حريّة التّعبير والتّعدّديّة الفكريّة. لقد صُدمت عندما كنت أتحدّث إلى المحرّر في إحدى المرّات، وكان الحديث حول مقالة لي لم تُنشر بسبب ما احتوته من مضامين. وبعد أن ذكّرته بما قال لي من أنّ حريّة التّعبير مكفولة في الصّحيفة، ردّ قائلاً: يا أخي، أنتم في إسرائيل وضعكم مختلف وتستطيعون الكتابة والتّعبير عمّا تريدون، بينما نحن هنا لدينا أمور لا نستطيع نشرها. فقلت له: أليست هذه هي الحريّة السّياسيّة والفكريّة الّتي يطمح الفلسطينيّون بالوصول إليها؟ فكان ردّه: يا عزيزي، أعطني بطاقة هويّة إسرائيليّة، ولتذهب فلسطين إلى الجحيم. بعد هذه الإجابة، وصلت إلى قناعة بأنّ شيئًا لن يتغيّر في الحالة الفلسطينيّة، وتوقّفت عن الكتابة للصّحيفة.

وكيف ردّ محرّر الجريدة الثّاني؟
وفي الماضي غير البعيد أيضًا، دأبت كعادتي على نشر مقالات متنوّعة في صحيفة أخرى، ومحرّرها أديب quot;كبيرquot;، وفلسطيني quot;كبيرquot; وعربي quot;كبيرquot;، كما دأب على التّعريف بنفسه بين فينة وأخرى هنا وهناك، كما علمنا من غير واحد من النّاس. لكن، ما لنا ولهذه الأمور؟ على كلّ حال هذه ميزة عربيّة لا مثيل لها عند سائر شعوب الأرض. فالعرب كلّهم كبار، فلا صغير لديهم ولا يافع، بل كلّهم كبار. هكذا يولدون وهكذا يعيشون إلى أن يغيبوا عن الأنظار بقضاء الواحد القهّار. لكن، لنضع هذه القضيّة جانبًا الآن.
مهما يكن من أمر، فقد شعرت في ذلك الماضي غير البعيد بحاجة ماسّة إلى التّركيز على قضيّة القدس العربيّة المحتلّة إذ استشعرت من خلال مشاهداتي لما يجري على السّاحة العربيّة والفلسطينيّة أنّ هنالك إهمالاً لقضيّتها ولأهلها، إن لم يكن الأمر أبعد من ذلك بكثير. ومرّة أخرى رأيت أنّ هذا المحرّر قد بدأ هو الآخر يتذمّر من مضامين المقالات الّتي تتّهم القيادات الفلسطينيّة بالتّفريط بقضيّة القدس وعدم إيلائها الاهتمام اللاّزم. وبعد مضيّ فترة حاولت الاستفسار عن عدم نشر مقالة أو أكثر، فجائني الردّ بأنّهم في الصّحيفة (وهي صحيفة عربيّة إسرائيليّة تدّعي الوطنيّة الفلسطينيّة) لا يرغبون في نشر مقالات من النّوع الّذي ينتقد عرفات وفساد سلطته. وعندما سألت المحرّر: وماذا بشأن القدس وقضيّة التّفريط بها؟ فكان ردّه: quot;فلتذهب القدس إلى الجحيمquot;. وهكذا، ذهبت القدس إلى الجحيم، وأمّا أنا فقد توقّفت عن الكتابة في تلك الصّحيفة.

وكما أسلفنا، فإنّ الحديث
ذو شجون. فما بالكم لو حكيت لكم ما يردّ به المثقّفون؟ في بحر السّنوات الأخيرة، وعلى وجه التّحديد بعد ما جاءت به quot;أوسلوquot; من مستجدّات على السّاحة الفلسطينيّة، وبعد أن أفرغت السّلطة الفلسطينيّة القدس من كلّ شيء عملاً بالاتّفاقات الموقّعة مع إسرائيل، وهذه الأخيرة اغتنمتها فرصة سانحة للانقضاض على المدينة ابتغاء تغيير أحوالها حتّى أضحت المدينة العربيّة مجرّد حارات مقطّعة الأوصال. وفي هذه الأثناء كنتُ عزمت على التّنبيه إلى الحال الكئيبة الّتي آلت إليها المدينة، ولكن لا حياة، بل على الأصحّ لا حياءَ، لمن تنادي. في تلك الأيّام طُلب منّي كتابة مقالات لصفحات الرّأي في صحيفة quot;معاريڤquot; العبريّة، فكتبت غير مرّة محذّرًا من السّياسات الإسرائيليّة في المناطق المحتلّة (وللعلم فقط: لم يحدث أن رُفض نشر مقال رغم حدّة الكلام تجاه السّياسات الإسرائيليّة، بخلاف الصّحافة العربيّة، حتّى تلك العربيّة الصّادرة داخل إسرائيل)، حتّى إنّي أشرتُ بالاسم إلى الانتفاضة القادمة الّتي لا ريب فيها وسميّتها quot;انتفاضة القدسquot;، قبل عامين من نشوب انتفاضة الأقصى -القدس- ذاتها.
ورغم كلّ ذلك، وفي تلك الأثناء كنتُ أسمع غير مرّة من أكاديميّين ومثقّفين فلسطينيّين، وبعد سنوات الفساد السّلطوي الفلسطينيّ مقولات تشي بالكثير من الاكتئاب واليأس. فغير مرّة كنت أسمع من البعض من هؤلاء المقدسيّين أنّ ما يفرحهم هو حقيقة أنّ القدس ليست جزءًا من السّلطة الفلسطينيّة، وذلك بسبب كلّ ذلك العفن الّذي اتّسمت به هذه السّلطة. وغير مرّة كنت أسمع أنّ هذه السّلطة قد جلبت معها، وبصورة مركّزة، كلّ عفن العالم العربيّ إلى فلسطين.
ومرّة أخرى، هؤلاء يبوحون بمثل هذا الكلام سرًّا. أمّا في العلن فإنّهم يقولون أشياء أخرى. لقد صُذمت غير مرّة لرؤية هذه الحال، حتّى كدتُ أظنّ أنّ هذا الرّياء هو ميزة، أو طينة، أو ربّما جينة عربيّة.

وماذا بعدُ؟
في سني الطّفولة الأولى، وعلى وجه التّحديد في ليالي الشّتاء، وبينما الأطفال يتحلّقون حول موقد النّار للاستدفاء، كانت الجدّة تروي الحكايات والخرافات على مسمع منّا قبل الخلود إلى النّوم، وعادة ما كانت تنهي الحكاية الشّيّقة بجملة: quot;هذه حكايتي حكيتها، وفي عُبّكم حطّيتهاquot;، فنركن بعدها إلى النّوم الدّافئ الهانئ.
وها أنذا كالجدّات أقول للقرّاء العرب، والفلسطينيّين منهم بخاصّة: هذه حكايتي حكيتها، وفي عبّكم حطّيتها.
والعقل وليّ التّوفيق!

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية