وسط حالة الاختلاط والبلبلة الفكرية التي تسود منطقة الشرق الأوسط، قد يقرأ البعض مقالنا السابق بعنوان quot;عودي يا مصر مصريةquot;، أو ما يأتي في العديد من مقالاتنا من دعوات مناهضة لأيديولوجية العروبة وأيديولوجيا التأسلم السياسي، على أنها دعوة لانغلاق مصر على نفسها، بل وربما يذهب البعض في إساءة القراءة إلى حد اعتبارها دعوات ضد الشعوب التي يدخلها الخطاب السائد ضمن دائرة العروبة أو الإسلام، ورغم أننا سبق وأوضحنا حقيقة موقفنا في أكثر من مناسبة، إلا أن ما نرصده من ردود أفعال لدى البعض، يكشف أن الأمر مازال ملتبساً، خاصة وأن الساحة المصرية لا تخلو فعلاً ممن أوصلتهم المرحلة الماضية التي امتدت لأكثر من نصف قرن، بما حفلت من ويلات ونكبات، إلى الدعوة للنأي بمصر عن كل ما حولها ومن حولها، والهرب إلى ماضيها، الذي يتصورونه قابعاً هناك في حقبة بناة الأهرامات والعهود الفرعونية الإمبراطورية.
حقيقة الأمر ndash; وبأقصى قدر نستطيعه من الوضوح والتحديد- أننا ندعو إلى خطاب ثقافي مختلف، يهدف إلى تعميق التعاون والتكافل البنَّاء بين شعوب المنطقة على أسس جديدة، تقوم على استثمار المشترك الثقافي والاقتصادي والجغرافي بين تلك الشعوب، لتأسيس نهضة حضارية، توفر لأبنائنا وأحفادنا جميعاً مستقبلاً أفضل، بعد ما حاق بالمنطقة وشعوبها من تخريب جراء الثقافة التي تسيدت خلال الفترة الماضية.
يتحتم علينا جميعاً نحن شعوب تلك المنطقة البائسة أن نتفهم ونعتنق فكر العصر الذي نعيشه، وأن نتخلص من أي أفكار وأيديولوجيا أخرى تمت إلى الماضي، مهما كانت هذه الأفكار في زمانها تعد مجيدة وثورية وتقدمية، بعد أن أفرغها الزمن وعجلة التقدم التي لا تتوقف من مبرراتها، ناهيك عما فضح التطبيق العملي من فشلها في أوج الدعوة لها.
نستطيع القول -بقدر محدود من عدم الدقة- أن البشرية قد انتقلت منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين من طور الصراع والتناحر بين الكيانات والتكتلات باختلاف أنواعها، إلى طور التعاون فيما بينها، تحقيقاً لهدف إنساني مشترك، هو التقدم الحضاري ورفاهية الشعوب، رغم أن ما عرفناه بالكتلة الاشتراكية قد استغرقت أكثر من ثلاثة عقود قبل أن تعي هذه الحقيقة، وتعدل من توجهها ومسيرتها، لتتفق مع الطور الجديد، ذلك الذي نطلق علية اختصاراً لفظ quot;العولمةquot;، ليس الأمر هنا أمر دعوة لعصر جديد، إنما هو مجرد قراءة لواقع قد نما في رحم الماضي، ثم ولد وشب عن الطوق، وصار الواقع المعاش للشعوب المتقدمة والسائرة في ركب التقدم، بكل ما تضمه من بؤر مركزية وهوامش، وهو ليس كما يراه البعض مناصرة للعولمة أو مناهضة لها، وإنما هو الالتحاق بالعصر أو التخلف عنه رفضاً وعجزاً، وكل من الرفض والعجز ينبعان من أساس واحد، هو اعتناق أفكار الماضي، سواء تلك التي كانت صالحة في زمانها وتجاوزها الزمن، أو تلك التي كانت تفتقد لصلاحية التطبيق العملي من الأساس، وأنتجت ما أنتجت من كوارث وتخلف لأهلها، ومع ذلك ظلوا غير قادرين على مبارحتها والفكاك من إسارها، نتيجة لعدم تأهل تلك الشعوب لمسايرة روح العصر، ولافتقاد صفوتها لشجاعة اكتشاف واستيعاب مسالك ورؤى جديدة.
التكتلات القومية والوطنية كانت صالحة وربما ضرورية، في عصور تشكل تلك الكيانات بعد أفول العهود الإمبراطورية، التي من أهم علاماتها الإمبراطورية الفارسية ثم اليونانية والرومانية وأخيراً البريطانية، مروراً بسيطرة الكنيسة على كل أوروبا وملحقاتها من مستعمرات في أركان الكرة الأرضية، كان الصراع في تلك الحقبة هو السمة المميزة للعلاقات بين الشعوب، باعتباره طبيعة مرحلة في مسيرة البشرية، بغض النظر عن التقييم الأخلاقي لهذه النوعية من العلاقات، فكانت دعوات وصيحات التحزب الوطني والقومي خطوة للأمام، باتجاه الخروج من نموذج عهد ينصرم، وتقدماً نحو عهد جديد، وكانت منطقة الشرق الأوسط كفيلة بالمرور بتلك المرحلة، ثم التأهل للمرحلة التالية وهي مرحل التعاون بين الشعوب، لولا دعوة العروبة الزائفة والتعسفية، والتي اتسمت بملمحين أساسيين جعلا منها دعوة مدمرة لأصحابها ولكل من يتصل بهم من قريب أو بعيد.
الملمح الأول هو احتواؤها على شحنة عداء غير اعتيادية للآخر، سواء الآخر خارج المنطقة، أو الآخر الأصيل بالمنطقة ولا تنطبق عليه تمام الانطباق شروط العروبة التعسفية، مثل الأقليات الدينية والطائفية في مختلف الدول، والأقليات العرقية كالأكراد والأمازيع والأفارقة، فقد كان التخويف من الآخر، وتصويره كشيطان لا هم له إلا تدبير المؤامرات لتدميرنا وإضعافنا ونهب ثرواتنا هو عماد دعوة العروبة في تجييش الجماهير خلف خطابها، فيما خفَّت في ذلك الخطاب، أو غابت عنه الدعوة لعوامل التجاذب والتوافق بين الشعوب التي يستهدفها، بمعني أن دعوة التجميع العروبي بين الشعوب قامت على أساس التخويف من الآخر، مهملة جانب الترغيب في التجمع على أساس ما هو مشترك.
والملمح الثاني هو أن أيديولوجيا العروبة كانت تحمل دعوة لتوحيد شعوب يفوق ما يفرقها ما يجمعها، وكان السعي لتحقيقها عملياً يعني تجاهل الواقع أو لي عنقه حتى الكسر، من هنا كانت من منظور تاريخي دعوة للعودة للخلف، وليس للتقدم للأمام، من حيث كونها دعوة لإمبراطورية عربية جديدة، مثيلة لسائر الإمبراطوريات البائدة، التي قامت على الرغبة في التوسع والهيمنة على جثة حقائق الواقع، التي تجمع بقدر محدود وتفرق بقدر محدود كذلك.
وكانت التكتلات الدينية صالحة وربما ضرورية في عصور ظهور وتشكل الدعوات والكيانات الدينية الكبرى، وكان التفرقة الحاسمة بين الأنا والآخر ضرورية لنجاح تلك الدعوات، ولتشكل كياناتها القوية المستقلة، كما كان الصراع الذي أخذ في أحيان كثيرة صورة الصراع الدموي متوقعاً، باعتباره استجابة لطبيعة المرحلة، رغم تناقضه مع القيم الأخلاقية التي تبشر بها الأديان، لكن الحاجة لتلك التكتلات قد انقضت، بانقضاء مرحلة تشكل الكيانات الدينية، ووضوح معالم كل منها، ومعالم تميزها عن غيرها من كيانات دينية، وصار بمقدور الفرد الآن أن يتعرف عليها، وأن يختار من بينها ما يميل إليه، دون ما حاجة إلى تكتلات وصراعات.
لكن هنا في منطقة الشرق الأوسط كان وريث العروبة الداعية إلى السير باتجاه مضاد للعصر، هو أيديولوجيا التأسلم السياسي، والتي تحمل ذات الملمحين المدمرين اللذين كانا لدعوة العروبة، لكن بدرجة أشد وأكثر عنفاً ودموية، ملمح الكراهية والعداء للآخر إلى حد التقرب لله بذبحه والتمثيل بجثته، وامتداد تعريف الآخر إلى من يفهم جزئية من الدين ذاته، بمفهوم مغاير لذلك الذي يعتنقه حملة الخناجر والأحزمة الناسفة، ناهيك عن إشعال حروباً مقدسة مع العالم أجمع، وفق تصورات تاريخية لم تعد قائمة، فلسنا الآن بصدد معسكر كفر وشرك ومعسكر إيمان، وإنما نحن بصدد شعوب تبحث عن مكان لائق لها تحت الشمس، يتوفر فيه على الأقل الاحتياجات الضرورية للوجود الإنساني الكريم، كما تتضمن دعوة التأسلم السياسي ذات ملمح دعوة العروبة الثاني، وهو محاولة صنع إمبراطورية إسلامية، تجمع شعوب أشد اختلافاً فيما بينها، عن تلك التي شملتها دعوة العروبة.
من هنا كانت دعوتنا لتعود quot;مصر مصريةquot; مجرد دعوة للتخلص من الاختلاط والبلبلة والنكبات التي سببتها دعوات العروبة والتأسلم السياسي، ومحاولتهما جر شعوب المنطقة في عكس اتجاه مسيرة البشرية، أي إلى عهود التناحر والصراع والإمبراطوريات التعسفية، لكننا لا نعني بدعوتنا التوقف والتقوقع داخل حدود هويتنا المصرية، لنتخذ من باقي العالم من حولنا موقفاً عدائياً أو سلبياً، ونختبئ خلف هواجس التشكك والمؤامرة علينا من كل حدب وصوب، إنما لكي تنفتح عقولنا وقلوبنا لكل من حولنا من جيران، ولكل العالم الذي صار الآن قرية واحدة بالفعل وليس ببلاغة التشبيهات.
هي إذن دعوة لعلاقات جديدة عصرية، يسودها التعاون بين جميع الشعوب، كما يتخللها التنافس الشريف من أجل صالح الإنسان والإنسانية.
نذكر بالخير نزار قباني الذي قال:
كن يا حزيران انفجاراً..
في جماجمنا القديمة..
كنِّس ألوف المفردات،
وكنِّس الأمثال، والحكم القديمة
مزق عباءتنا التي بليت
ومزق جلد أوجهنا الدميمة..
أطلق على الماضي الرصاص..
كن المسدس..
والجريمة..
[email protected]

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه