إن التوغل التركي المحدود منذ أيام في بعض أراضي كردستان العراق يهدد بمخاطر جديدة على استقرار العراق، المهزوز أصلا، وربما سيسقط ضحايا أبرياء من الفلاحين سهوا بسبب القصف، وقد شاهدنا جسورا للفلاحين معطلة؛ كما أن عمليات حزب العمال، والرد العسكري، تهدد بنشر الكراهية حتى داخل العراق، بينما نحن في أحوج ما نكون إلى ترميم، وتقوية علاقات الوحدة الوطنية، التي عملت، وتعمل، جهات عديدة لتحطيمها.
إن الحالة المستجدة تطرح بشدة موضوعا حساسا، بدأ التوتر حوله منذ سنوات، وانفجر التوتر بشدة في أكتوبر الماضي، عندما تتابعت عمليات حزب العمال، الموجود في العراق، ضد المدنيين والعسكريين الأتراك، واتخذ البرلمان التركي قرارا يبيح للحكومة الرد العسكري داخل بعض مناطق كردستان العراق، وبالتحديد التوغل داخل منطقة قنديل، المنطقة التي يتمركز فيها مسلحو حزب العمال، [ ا* نظر الهامش رجاء].
لقد نشرنا في ذلك الوقت ثلاث مقالات عن الموضوع، كما نشر المقالات كتاب عراقيون آخرون، كان في مقدمتهم الدكتور عبد الخالق حسين، والأستاذ عادل حبة.
في مقالنا الأول، المنشور في 19 أكتوبر المنصرم تحت عنوان quot;العقل والحكمة في قضية حزب العمال الكردستانيquot;، وفي المقالين التاليين، أكدنا، مع الكاتبين الأخوين، على جملة من النقاط الأساسية التي تحتفظ بحيويتها ومصداقيتها اليوم.
إن تلخيص أفكارنا المتلاقية حول القضية هي كما يلي:
1 ndash; إن للشعب الكردي في تركيا، والعراق، وإيران، وسوريا، حقوقا قومية وثقافية يجب ضمانها وفقا لميثاق الأمم المتحدة في حق تقرير المصير، والمبادئ الديمقراطية، والقيم الإنسانية. إن للأمة الكردية المجزأة حق تقرير المصير بكافة درجاته، وحتى تأسيس دولة كردستانية واحدة، أسوة بشعوب وأمم أقل عددا، بينما يشكل مجموع عدد الأكراد أكثر من ثلاثين مليونا، منهم حوالي 15 مليونا في تركيا، وبناء على ذلك، فإن كفاح أكراد تركيا، كما أكراد إيران، وسوريا، من أجل ضمان حقوقهم، هو مشروع تماما.
2 - إن الطموح لتشكيل دولة كردستانية مستقلة هو حلم نبيل، وشرعي، ولكنه غبر قابل للتحقيق اليوم، فلا موازين القوى، ولا مواقف الدول المجاورة، بل ولا حتى مصالح الشعب الكردي اليوم، تسمح بذلك.
لقد برهنت التجارب، وكما أوضح الأستاذ عادل حبة، أن لكل جزء من الأمة الكردية ظروفه الخاصة من كل النواحي، فالأوضاع في العراق، وإيران، وتركيا، متباينة جدا، وإن حل القضية الكردية لكل من هذه البلدان يرتبط بقيام نظام ديمقراطي في ذلك البلد، نظام يؤمن بشرعية طموح وحقوق الأقليات القومية والدينية، وقائم على الوحدة الوطنية كخيمة مشتركة، وإن تلبية مطالب الكرد في الحكم الذاتي، وحتى لحد الفيدرالية، هو تقوية وتعزيز للوحدة الوطنية في كل بلد، وليس عامل انقسام ما دامت الديمقراطية راسخة، والوحدة الوطنية وطيدة. إن الديمقراطية الراسخة هي سبيل العلاج.
3 ndash; إن استغلال حزب العمال لضيافة الأكراد العراقيين الكريمة للاعتداء على دولة مجاورة لها علاقات وثيقة بالعراق كله، وبالأكراد خاصة، هو تجاوز على سيادة العراق أيضا، وانتهاك لقواعد اللجوء السياسي المقررة دوليا. إننا لم نكن لننتقد لو كان هذا الحزب يعمل من داخل تركيا نفسها، ولكن هذه المجموعة المسلحة لم تكتف بما تفعل، بل لقد هدد الناطق باسمها في شهر أكتوبر بنسف أنابيب النفط العراقي إلى ميناء جيهان التركي! تصوروا ما ينطوي عليه تهديد كهذا من استهتار بما سيلحق العراق وشعبه، ومنه إقليم كردستان العراق، من أضرار اقتصادية ومالية كبرى.
لقد ورد في مقالنا ليوم 19 أكتوبر الماضي:
quot; نحن نعتقد أن حزب العمال أمام خيارين: إما وضع السلاح جانبا، والعيش بأمان بين أكراد العراق، والكف عن عمليات عنف يعتبر معظمها من صنف الإرهاب، وهذا ما طالبهم به الرئيس العراقي، وهو أيضا زعيم حزب الاتحاد الكردستاني، مام جلال طالباني في صحيفة الفيجارو الفرنسية تاريخ 19 أكتوبر؛ أما الخيار الآخر، لو رفضوا، فهو مغادرة العراق، كما طالب الأخ هوشيار زيباري، وزير الخارجية، والذي أضاف قائلا: [عليهم ترك العراق لأهل العراق، وأن لا يجلبوا مشاكل إضافية لما نعانيه]...quot;
إن أية منظمة أجنبية موجودة في العراق يجب أن لا تقوم بعمليات مسلحة ضد بلد آخر، وأيا كان هذا البلد.
إن مما لابد من ذكره أيضا أن تركيا، وباستثناء حساسيتها في قضية كركوك، وهي قضية عراقية بحتة، لا تتدخل في الشؤون العراقية، ولا تسلح ميليشيات عراقية لنشر الفتن الدموية، وهو ما تفعله إيران.
4 ndash; أن يتعاطف أكراد العراق مع حقوق إخوانهم في تركيا مفهوم، وطبيعي، ومطلوب، ولكن التضامن الكردي ndash; الكردي لا يعني أبدا دعما بلا قيد و شرط، فلا تبرير للتضامن مع منظمة تستخدم أساليب الإرهاب، وتتجاوز على سيادة كل من تركيا، والعراق؛ ومن جهة أخرى، فإنه لا يمكن تحقيق أماني أكراد بلد من أراضي بلد آخر، فلا تجربة quot;مهابادquot; في إيران، ولا تجربة فيدرالية كردستان العراق، تبيح الوقوع في أوهام كهذه.
إن الخطب الحماسية منذ أكتوبر الماضي لكتاب وساسة أكراد عراقيين تنديدا بتركيا، حتى قبل التغلغل الراهن، وتمجيدا لما يعتبرون نضالات قومية عادلة يقوم بها حزب العمال، لا تخدم، لا قضية أكراد تركيا، ولا قضية أكراد العراق. إن المطلوب هو العكس، أي تقديم النصائح لقادة حزب العمال للكف عن العمليات المسلحة من داخل العراق، واللجوء للأساليب السلمية داخل بلدهم التركي من أجل حقوقهم، وتعزيز الديمقراطية. صحيح أن تركيا لم تكن حملا وديعا مع الأكراد، الذين عانوا صنوف القهر الدموي، والتمييز العنصري، والحملات غير الإنسانية، ولكن الأوضاع قد تغيرت جزئيا نحو الأحسن في السنوات الأخيرة، وهو ما سنبينه.
إننا نأمل أن يخف التوتر القائم اليوم بسبب التغلغل التركي، وأن يلعب الساسة الأكراد، وبالأخص حكومة كردستان، دورا أكثر فاعلية للمساهمة في حل الأزمة مع تركيا، هذه الأزمة التي يجب أن تساهم في حلها الحكومتان العراقية والتركية، جنبا مع حكومة كردستان، التي يجب أن تضع الحزب العمالي أمام أحد الخيارين اللذين أشار لهما كل من السيد رئيس الجمهورية، والسيد وزير الخارجية، كما مر ذكره، وعلما بأن الرجلين كرديان، ولهما مراكز هامة في الحزبين الكردستانيين وفي الدولة العراقية. إن تنفيذ الحزب المذكور لأساليب تصنف كإرهابية جعلت كلا من الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، أن يعتبرا هذه المنظمة ضمن التنظيمات الإرهابية، ومعنى ذلك أن ما تقوم به باسم القضية الكردية ليس له أي غطاء وتأييد دوليين، بينما استطاعت الحركة الكردية في العراق استقطاب المجتمع الدولي، ناهيكم عن كل شرائح المجتمع العراقي.
5 - إن الكفاح المسلح في أيامنا، حتى لو لم يتبع الإرهاب، لا مردود له غير الفشل، وردود الفعل العنيفة جدا، وهذا ما توقفنا عنده في مقالينا عن quot;الفاركquot; في كولومبيا، وقد فصل الدكتور عبد الخالق في الموضوع في مقالته بعنوان quot;عبثية الكفاح المسلحquot; بتاريخ 20 أكتوبر المنصرم، وهو بصدد حزب العمال الكردستاني. إن فيدرالية كردستان العراق ما كانت لتقوم لولا دعم وغطاء الولايات المتحدة، وكل الغرب، في أعقاب هزيمة صدام في حرب الكويت.
لقد اتخذت الحكومة التركية في السنوات الأخيرة إجراءات لصالح أكراد تركيا، ويوجد اليوم في برلمانها 20 نائبا كرديا، ولذلك نعتقد أن هناك إمكانيات أخرى للتوسع في هذه الحقوق ولكن بأساليب العمل السياسي السلمي والبرلماني، وبذلك أيضا ستضعف تدريجا ردود الفعل العنصرية في تركيا تجاه الشعب الكردي، إذ أن أساليب العنف والإرهاب قد قوت لأبعد الحدود مثل هذه النزعات بسبب إراقة الدم التركي، وخصوصا المدنيين.
6 - إن توسع التغلغل التركي في بعض أراضي كردستان العراق، وبقاءه طويلا،،سيشكل انتهاكا صريحا للسيادة الوطنية العراقية، وهو ما يتعارض مع القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة.
إن القضية الكردية في تركيا لن تحل بالعنف، بل باتخاذ تدابير ديمقراطية مهمة لصالح الأكراد، و إجراءات اجتماعية واقتصادية لرفع مستوى معيشتهم، وتحسين أوضاعهم، والتوسع في منح حقوقهم القومية، والإدارية، والثقافية، وهذه نقطة مهمة أكد عليها منذ أيام وزير الدفاع الأمريكي.
نقول أخيرا إن من مصلحة العراق، وتركيا، وأكراد البلدين، التوصل السريع جدا لانفراج الأزمة، ورفع كل غيمة عن العلاقات العراقية ـ التركية.
[ * الهامش: يذكّرنا الكاتب عادل حبة بتاريخ الحزب المذكور في مقالته ليوم 21 أكتوبر 2007 بأن الحزب تأسس على الأراضي السورية، وبدعم مادي وعسكري من المخابرات السورية، وفتحت له معسكرات كبيرة على الأراضي السورية، واللبنانية، إلى أن انفجرت الأزمة بين تركيا وسوريا، وتراجعت الحكومة السورية عن موقفها الداعم لحزب العمال الكردستاني، وسهلت سوريا على تركيا تسليم زعيم الحزب أوجلان؛ ومن المهم أن نضيف أن عبد الله أوجلان، السجين حاليا، قد ناشد من السجن قيادة وأعضاء حزبه بالكف عن العمل المسلح، وانتهاج الأساليب السلمية، ولكن المتشددين في الحزب رفضوا هذا الموقف العقلاني لرجل ذي تجربة سياسية غزيرة، ومخلص لقضية شعبه.]
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه