أم المؤمنين عائشة والوعي الجسدي
لم تكن رضي الله عنها وأرضاها بالانثى التي تكبت أنوثتها، بل كانت الانثى التي تمارس أنوثتها في حضن الشرعية ا لتي ما فتئت أن تلح بأن تحسن المرأة تبعلها.
هي الأنثى الخالدة...
خَلدت بإنوثتها الجميلة، وكم كانت حاجة الرسول الكريم إلى من يداري حرمانه الأبوي والأمومي بما يلغي آثاره الموجعة في أعماق نفسه العزيزة، فما كان من الله تعالى حتى رزقه بهذه الأنثى الرائعة.
كانت سلوته...
وكانت حبيبته...
بل كانت دلاله...
فهي أحب الخلق إليه، وقد اجتمعت لديها خلاصة التجربة الإنسانية تتصعّد في روحها النشطة، وما أشك لحظة إنّه تقدير العزيز العليم... فاستوحت منها ما يعزّز في إرادتها وهي تلتقي زوجها الحبيب كلَّ ما يستوجبه اللقاء من حميم روح وفورة حس وهيام عاطفة...
ترى هل كانت السيدة الجليلة جاهلة بمزاج وروح زوجها الكريم؟
أحقا لم تفقه حسه وعاطفته وشعوره وضميره؟
إذن أين تذهب تجربة النبوة الرائعة وهي تعيش في كنفها وحضنها وحميمها؟
ثم...
ألم تكن في غاية الذكاء؟
كان من عادة السودان يلعبون الدرق والحراب، فسالها سلام الله عليه (تشتيهن ان تنظري، قالت نعم...)...
إنّه سؤال التجربة التي فاقت تجارب العالم كله، وهو جواب التجربة ذاتها بعد أن تلقنتها عائشة بكل ذكاء ومهارة...
قالت: نعم..
هي رغبة محمد أيضا... فلم تكن أمنا لا تعرف حقا أبينا، هو سر لا يسابق سرا أخر، بل سر واحد يجري في ا لدمائين والجسدين والضميرين والروحين... الجواب معلن مسبقا في عمق النبي، والسؤال لم يكن في طي الغيب بالنسبة لعائشة الكريمة، كلاهما خبر الاخر، بل كلاهما حبَّ ا لاخر حب السرمدية للازل، وحب الازلية للسرمد.
لا أتحدث عن سؤال بعينه وجواب بعينه، بل اتحدث عن ذخيرة الشعورين وقد تبادلا الهاجس الكامن فلا يحتاج إ لا إلى سؤال عابر ليجد جوابه الحاضر.
تقول الرواية (فاقامني وراءه خدي على خده lsquo; وهو يقول: دونكم بني أرفدة،حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت نعم، قال اذهبي).
هي لغة الحب والدلال، وليست لغة الرضا من طرف واحد، ولا لغة الموافقة العرضية، بل لغة الجسد الواحد.
لم يُرْضِها أو يترضّاها، ولم تُرْضِه أو تترضّاه، بل هي لغة القبول عن وعي بسنة الحياة، وهيام بلذة اللقاء الشفاف، وما تقوله سيدتنا بحق وحقيقة ليس نقلا لمشهد بحد ذاته، ولا إعلانا لأولوية حازت عليها وتشرفت بها على غيرها، بل هو درس لنا نحن أ بناؤها وبناتها، أن نتعلم لغة (الخدود)، ببهجة صافية، وروح مرحة، وود يكشح عنا هموم هذه الدنيا وعنائها، درس في الحقوق المتبادلة، حق خدها وحق خده، تماها ليجدا لذة العبق الطاهر...
ويا لطهارة محمد...
ويا لطهارة عائشة...
هو... صلوات الله عليه مادام الكون يسبّح للحب...
هي... رضوان الله عليها، مادام الحب منتصرا... وسوف يبق منتصرا...
ليس هناك ما يرغمها على أن تسفر عن هذا اللقاء (الخدودي) الجميل، فهي الكفوءة بلقب أم المؤمنين، تحدت الفراغ، ورغبت أن تملأه بصوتها الجهوري الكريم، ولكنها مسؤولية الانثى تجاه ألاناثي، بل مسؤولية الام الواعية تجاه أبنائها وبناتها...
لم يكن لقاء خدود في الجوهر، بل لقاء حب عميق.... عميق... عميق... يكشف لنا عن دور الايمان بالله ومحاضنه العفيفة في تصميم الحياة، وتحويل لحظات من عمرها العابر إلى تاريخ مسطور في داخل النفوس، وعبرة تتخطى جدران الازمنة القاسية.
(... حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلتُ: نعم! قال: فاذهبي)...
أقسم إنها أغنية جبرائيل...
وأقسم أ ن ملائكة الله كانت تبتسم...
ترى كم منّا تشرّب من هذا الدرس الحيوي... الجسدي... الروحي.... العفيف.... الدافي... الحنين...؟
درس لنا...
دلالها من غيرتها، وغيرتها من دلالها، وكلاهما من أنوثتها الفائقة، وكل ذلك من روحها الحلوة بامتياز، ومحمّد كان أهلا ليفهم كل ذلك (بأبي وأمي لانت يا رسول الله خير لي ابي زرع لأم زرع)!
كم كان هناك من حب إذن؟
وكم كان هناك من تلاحم روحي وجسدي في آن واحد؟
تقول الرواية (... وكنت أغتسل أنا وهو في إناء و احد ولم يكن يصنع ذلك باحد من نسائه غيري).
ترى أي جرأة حميدة هذه؟
وهي جرأة تعلمنا أدب الكلام في أصعب المواقف، وأحرج المواقف، وأدق المواقف، وهي جرأة تعلمنا قيمة الجسد، وتنبهنا إلى إن الجسدين الذكوري والانثوي سواء في دفق الوجود، وكلاهما لبنة في تشييد متعة الحياة، ولم يكن الماء هو الذي يجمع بين جسدين طاهرين، بل الجسدان يجلمعان ماءهما معا، لانهما في الأساس جسد واحد، تداخلا حتى ضاعت معالم الخطوط الفاصلة مبنى ومعنى.
كان صحابة رسول الله صلى ا لله عليه وآله وصحبه وسلم يتعنون أم المؤمنين يسالون حنكتها وتجربتها وعلمها في كيفية معاشرة الازواج، وكانت تجيب صراحة المعهود بالمقصود، والراصد لاهداف السائل، عن دراية بطبائع البشر، وذكرى ماثلة في خيالها، عن واقع كان غنيا بالمعنى والمبنى، لا يتوارى نقاء الوصف ولا صراحته وراء وصف مرفوض بحكم الشريعة والضمير، وصراحة تمانع أن تنزلق على لسان عفيف.
تقول الرواية(عن عائشة: كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب، وأتعرّق العرْق وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ) ـ رواه مسلم ــ
مرة أخرى تحدثنا أم المؤمنين الطيبة عن لقاء جميل بين جسدين طاهرين، فموضع الفم في أ كل او شرب هو الفم ذاته، وهو قد تشرب برائحة ذلك الفم وخلجاته ودفقات حسِّه، ترى هل كان مستحيلا على رسول الله صلى الله عليه وصحبه وسلم ان يشرب من غير موضع ذلك الفم الطاهر العفيف؟ ليس ذلك صعبا، ولكنّه الحب الذي يصنع أفانين الطرائق للذوبان المتبادل، ليس هو طبع فم على موضع فم، بل هو طبع فم على موضوع فم، وبين الأمرين مسافة كبيرة، بل مسافة نوعية.
موضع فم الحبيب طيب وحنان، وتجسيد للفم في عالم التكوين، فها هما الفمان العفيفان الكريمان يلتقيان حتى خارج حريمهما الجسدي!
فإي فن جسدي هذا؟
جسدان يلتقيان خارج حريمهما...
ثورة الحب!
وما أروعك يا نبي الله!
وما أروعها تلك الحميراء الكريمة!
أمنا...
ولست معنيا بصاحب كلام لا يفقه فن الكلام...

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه