غريب لحد الفزع حال الشعوب العربية خاصة تعلقها وركضها وراء القشور في هذه الحياة، فالشعوب الأوربية والأمريكية والعديد من ألآسيوية تتسابق من أجل الاختراعات العلمية وتطوير الحياة البشرية، هذه الاختراعات التي نعيش عليها كشعوب عربية من الدواء إلى الورق وآلآت الطباعة التي لولاها لما عرفنا كيف نطبع كتاب الله القرآن، الذي من خلال تحريف مضامينه ندعو على وضد أولئك المخترعين لأنهم أحفاد القردة والخنازير، وفي العقود الثلاثة الماضية تحديدا اخترعت النخبة من العلماء والدعويين والفقهاء والنواب ملهاة جديدة لهذه الشعوب، وهي توزيع الصفات والشهادات من نوع: شهيد، بطل، مقاوم ، ومناضل وغيرها من نعوت اللغة العربية، فبدلا من توجيه الجهود والطاقات لدى تلك النخبة نحو تخفيض نسبة الأمية ولا أقول محوها لأنه من أول المستحيلات في ظلّ هكذا شعوب وأنظمة، تركض هذه النخبة ليلا ونهارا في توزيع الصفات تلك، وتفتعل معارك من أجلها لا تقل شراسة عن معاركهم المصطنعة في الدفاع عن الرسول والإسلام، متناسين أن ممارساتهم تلك هي أشد الإساءات للرسول والإسلام، وأولها مباركتهم لأنظمة الاستبداد والمستبدين من الحكام ، والدعاء لهم بالنصر في خطبة كل صلاة جمعة لأنهم أولي الأمر حسب تعريف أولئك النخبة من الدعاة والنواب خاصة القادمين من التيارات الإسلامية في مختلف أنحاء الوطن الموصوف بـquot;العربيquot;.
صدام، ابن لادن، الزرقاوي، عماد مغنية.. والقادم أعظم
الفصل الجديد من هذه الملهاة المضحكة المبكية هو ما أثاره نواب كويتيون (عدنان عبد الصمد وأحمد لاري) على خلفية فتحهم مجلس عزاء يوم السادس عشر من فبراير الماضي لـquot;عماد مغنيةquot; في حسينية الحسين بمنطقة السالمية، وصرف شهادة علنية موثقة معتمدة له بأنه quot;شهيدquot; ورفع النائب ومؤيدوه أعلام حزب الله هاتفين بحياة (الشهيد عماد مغنية) و راعي شهادته (حسن نصر الله)، وبالسقوط والموت لأميركا وإسرائيل ، وقد نسي عبد الصمد أن يقول للمعزين ماذا فعل عند احتلال (الشهيد!) صدام حسين لوطنه الكويت عام 1990 ، وكيف عاد للكويت فرحا مبتهجا مع الدبابة الأمريكية التي طردت القاتل صدام وجيشه ودباباته من الكويت. ووسط فرح وهياج عبد الصمد هذا quot; هدّد وزير الداخلية الكويتي بالمساءلة الدستورية نظير تصريحاته السخيفة التي وصفت مغنية بالإرهابي quot;، واتهم عبد الصمد quot; وسائل الإعلام الكويتية بأنها تدار من المخابرات الأمريكية من أجل تشويه شخصيات المقاومة quot;، ولنا أن نتخيل هذه المسخرة التي تريد أن تصادر عقولنا ونصدق ادعاءه حول أن ما يزيد على ثلاثين صحيفة ومجلة وإذاعة وفضائية كويتية، لا موضوع ولا شاغل لها سوى تشويه شخصيات المقاومة ،متناسيا عن قصد أو غباء أطنان الصفحات التي كتبتها الصحافة الكويتية دعما للمقاومة الفلسطينية واللبنانية من خلال أقلام كتاب كويتيين وطنيين وعروبيين وإسلاميين. وهو بصرفه شهادة الشهيد (بكافة اللغات خاصة اللغة الفارسية) لعماد مغنية يتناسى أن الغالبية العظمى من الشعب الكويتي لا يمكن أن تنسى الجرائم التي ارتكبها عماد مغنية لحساب أجندات إقليمية بحق الشعب الكويتي ، ويكفي تذكير عبد الصمد وعصبته بعناوينها:
الجريمة الأولى: التخطيط وتوفير الدعم للعمليات الإرهابية التي شهدتها الكويت في ديسمبر من عام 1983، واستهدفت عدة منشآت وسفارات أمريكية وفرنسية وكويتية، وألقي القبض على سبعة عشر شخصا من المشاركين في تلك العمليات من بينهم إلياس صعب المكلف شخصيا من عماد مغنية، وتم الحكم على إلياس صعب واثنين من المشاركين الرئيسيين بالإعدام في عام 1984 إلا أن الحكم لم ينفذ.
الجريمة الثانية: المشاركة في عملية خطف طائرة quot;إيرباصquot; كويتية إلى طهران عام 1984، والمطالبة بالإفراج عن السبعة عشر معتقلا في الكويت ، والملاحظ أن عملية الخطف هذه تمت فور الحكم على الثلاثة السابقين بالإعدام والتوجه بالطائرة لطهران وليس لعاصمة أخرى، وبقيت الطائرة محتجزة في مطار طهران ستة أيام دون الرضوخ من حكومة الكويت لمطالبهم، ولما يئس الحرس الثوري الإيراني من إمكانية الرضوخ لمطالب الإرهابيين، أنهى العملية بمسرحية مكشوفة من خلال الإدعاء أنه قام باقتحام الطائرة وتحرير الركاب دون أية كلمة حتى اليوم عن الإرهابيين الخاطفين، وقد أكدّ العديد من الركاب بعد ذلك أنه لم تكن هناك عملية اقتحام حقيقية بل مجرد مسرحية مكشوفة، لأن الحرس الثوري الإيراني لو كان صادقا لحاكم الإرهابيين الخاطفين أو سلّمهم لدولة الكويت.
الجريمة الثالثة: محاولة اغتيال أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح في الخامس والعشرين من مايو عام 1985، وأصيب فيها الأمير بجروح خفيفة وقتل عشرة من حراسه جرّاء السيارة المفخخة التي تمّ تفجيرها في موكبه، وعلى إثرها تمّ اعتقال ستة من عملاء استخبارات الحرس الثوري الإيراني، وحكم عيهم بالإعدام وأودعوا السجن المركزي في الكويت، وقد تأكد أنهم هربوا من السجن أثناء غزو البائد صدام حسين للكويت في آب 1990، وقامت السفارة الإيرانية بإيصالهم إلى إيران. ولمزيد من التفاصيل حول هذه الحادثة وغيرها من عمليات الغدر الإيراني ، يراجع التحقيق الذي كتبه صباح الموسوي في الرابع والعشرين من ديسمبر 2005.
الجريمة الرابعة: خطف الطائرة الكويتية (الجابرية) في أبريل عام 1988 ، وكانت متوجهة من بانكوك إلى الكويت وعلى متنها 111 راكبا غالبيتهم من المواطنين الكويتيين، وتمّ إنزالها أولا في مطار مشهد الإيراني حيث تمّ تزويد الخاطفين بالسلاح وإرهابيين جدد، ثم توجه بها الإرهابيون الخاطفون إلى مطار لارنكا القبرصي حيث تمّ قتل الشابين الكويتيين عبد الله محمد حباب و خالد اسماعيل أيوب بدر ورمي جثتيهما في ساحة المطار، ثم توجه بها الخاطفون إلى الجزائر حيث انتهت العملية هناك، ولم يتم القبض على الإرهابيين الخاطفين ضمن صفقة ما زالت تفاصيلها مجهولة.
بعد كل هذه الجرائم الإرهابية الوحشية بحق الشعب الكويتي، هل يمكن لأي مواطن كويتي لديه ذرة من ضمير وانتماء وكرامة أن يعتبر عماد مغنية شهيدا وبطلا حتى وإن تمّ على يديه وقدميه تحرير الجولان والقرى السبعة ولواء الإسكندرونة.
سوابق مماثلة من حَمَلة التوكيل الإلهي
وما يمكن ملاحظته أن عبد الصمد في هذا الخروج عن الإجماع الكويتي يحذو حذو نفس المدرسة من نواب حملة التوكيل الإلهي في الأردن الذين وحدهم يملكون حق صرف شهادات (الشهيد) وتوزيع مفاتيح الجنة ، فقد سبقوه في مطلع حزيران 2006 إلى الذهاب إلى بيت عزاء الإرهابي المجرم القاتل أحمد الخلايلة المشهور قتلا وإجراما ب (أبو مصعب الزرقاوي) الذي تم اصطياده وقتله في العراق في الثامن من حزيران 2006 ، وفي بيت العزاء قام النواب الأربعة المنتمين لحزب جبهة العمل الإسلامي (محمد أبو فارس، وعلي أبو السكر، إبراهيم المشوخي، و جعفر الحوراني) بإصدار واعتماد شهادة (شهيد) للمجرم الزرقاوي، وزاد على ذلك فضيلة الملا محمد أبو فارس بأن أكّد أن هذا المجرم (سيشفع يوم القيامة لثمانين من أنصاره ومريديه)، أي أن له الحق لدى الله تعالى بأن يشفع لثمانين قاتلا ومجرما مثله فيدخلهم معه الجنّة. وكان موقف النواب الأربعة المخزي هذا تحديا لمشاعر الغالبية العظمى من الشعب الأردني الذي فقد 60 قتيلا وأكثر من 100 جريحا في تفجيرات الفنادق الشهيرة في العاصمة الأردنية في التاسع من نوفمبر2005 التي نفذها المجرم الزرقاوي، وتحديا لمشاعر الشعب الأردني رفض الملا أبو فارس اعتبار قتلى تلك التفجيرات شهداء ولم يحاججه أحد في ذلك ، فمن يملك محاججة أو نقض شهادة حملة التوكيل الإلهي ومفاتيح الجنة.
خلفية طائفية... أم ماذا؟
هذا الخلاف حول إصدار شهادات (إرهابيين) أم (شهداء)، هل يخضع عند حملة التوكيل الإلهي العرب لمواقف فكرية إيدولوجية أم عقائدية طائفية؟. في البداية أود التأكيد أنني لست طائفيا على الإطلاق، وأنا مع المظلومين المضطهدين ومع العدل والإنصاف للجميع سنّة أو شيعة أوإيزيدية أو فيلية أو بهائية أو مسيحية أوهندوسية... للجميع بغض النظر عن دياناتهم وطوائفهم ومعتقداتهم، لأنني مؤمن بقوة بأن الإنسان إنسان بسلوكه (الدين المعاملة) بصرف النظر عن ديانته وطائفته، و أن الله تعالى هو وحده المسؤول عن عقيدة وطبيعة إيمان الشخص (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (إن الله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء). لذلك فسبب سؤالي هذا (خلفية طائفية أم ماذا؟)، هو رصدي لهذه الظاهرة العربية بامتياز الذي قادني لملاحظة ما يلي:
أولا: كل الذين اعتبروا صدام حسين شهيدا وبطلا وقائدا مؤمنا هم من الشخصيات السنّية ، وفي مقدمتهم وعلى رأسهم إسلاميو حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن الذين ما زالوا يحتفلون بذكرى (استشهاده)، وقد طلبوا في عيد الأضحى الماضي من أنصارهم وأتباعهم والراغبين في شهادات دخول الجنّة أن تكون أضحياتهم على روح (القائد الشهيد المؤمن صدام حسين)، ورفعوا بذلك يافطات علنية لعدة أسابيع على جدران مبنى مجمع النقابات في العاصمة عمّان ومدينة إربد شمال الأردن. هذا ومن خلال رصدي ومتابعتي لم أجد أي شخصية دينية أو فكرية شيعية أصدرت شهادة (شهيد) لصدام حسين، وربما كان ذلك لأن كل جرائمه بحق العلماء والفقهاء والقيادات الدينية، كانت بحق الشيعة منهم وقد نشرت في كتابي (سقوط ديكتاتور) قوائم موثقة بإعدامه 25 شخصا من أسرة آل طعمة ، و عشرات من آل عنوز، و 25 من علماء وفقهاء أسرة الحكيم، وعشرات من عائلة القزويني من بينهم العلامة آية الله السيد محمد صادق القزويني الذي أطلقت عليه منظمة العفو الدولية لقب quot; أكبر سجين سياسي في العالم ، و 66 من عائلة الحلو، وغيرهم من عائلتي الصدر والخلخالي، وعند استعراضي لقوائم محامي صدام لم أعثر على أي محام شيعي تقدم للدفاع عنه ، وعند إعدامه لم يحزن عليه أي شيعي أو كردي.
ثانيا: الذين أطلقوا على القاتل أبو مصعب الزرقاوي صفة (شهيد) وتوكيل بالشفاعة لثمانين في الجنة، هم أنفسهم الذين أعطوا نفس الصفة والشهادة لصدام حسين ، في حين أن هؤلاء (الملا محمد أبو فارس وإخوانه البررة) لم يصدروا أية كلمة أو أية صفة بحق عماد مغنية ، في حين أن الذين تحركوا لإعطائه صفة الشهيد وفتحوا الحسينيات لتأبينه وتقبل العزاء في موته هم النواب الشيعة في الكويت ، ولبنان موطنه بطبيعة الحال خاصة حزب الله الذي كان عضوا في قيادتة الأولى ، بينما هؤلاء في لبنان والكويت لم يصدروا أية شهادة بحق أبو مصعب الزرقاوي وربما لم يسمعوا بموته، بينما القيادات الدينية الشيعية في العراق عبرت عن فرحها وسعادتها العارمة بموت القاتل المجرم أبو مصعب الزرقاوي.
وهذا ما سيحدث أيضا،
عند موت أسامة بن لادن (إن كان حيّا فعلا) أو أيمن الظواهري أو أيا ممن يطلقون على أنفسهم أمراء الجهاد في العراق أو المغرب العربي، فلن يبكيهم ويصرف لهم شهادات شهيد و توكيلات بالشفاعة سوى الشخصيات السنّية التي فعلت الشيء نفسه مع صدام والزرقاوي، و لم تفعله مع عماد مغنية.ماذا يعني ذلك؟
إن ذلك يعني حسب رصدي وتحليلي أن مسألة التصنيف إلى شهيد وقاتل ومقاوم ومجرم و إرهابي، تعود للخلفية الطائفية بنسبة عالية و إلا لماذا تناسى محمد أبو فارس وإخوانه وكل محامي صدام من كافة الجنسيات العربية مقتل عماد مغنية؟. بينما تغنوا وبكوا وضحّوا من أجل صدام والزرقاوي؟. ونفس السؤال: لماذا تناسى عدنان عبد الصمد في الكويت مقتل صدام والزرقاوي وفتح حسينية ليبكي ويلطم على موت عماد مغنية؟. ربما يقول البعض بالنسبة لصدام لأنه احتل وخرّب وطنه الكويت، والرد على ذلك إن عماد مغنية أيضا ارتكب جرائم فظيعة بحق شعبه الكويتي ، فلماذا عدم البكاء على موت صدام واللطم على مقتل عماد مغنية؟
ملاحظة ونقطة نظام
من المؤكد أن هناك من سيحتج ويصرخ بأنني بهذا الطرح أغذي النعرات الطائفية، وبدوري أقول لهم كما أكدت قبل سطور بأنني لست طائفيا، وتشخيصي هذا مجرد احتجاج على الطائفيين الذين هم من يغذون الطائفية بممارساتهم التي ذكرت تنويعات منها، و إلا ما معنى أن القاتل المجرم الزرقاوي (الشهيد عند البعض) هو من أصدر فتوى (وهو لم يكمل المدرسة الثانوية) قبل موته تطالب بقتال المسلمين الشيعة، ولم تصدر أية إدانة أو رفض لها من أي عالم أو فقيه أو مفتي سنّي، على الأقل من باب أن هذا القاتل الزرقاوي غير مؤهل ولا يحق له إصدار الفتاوي. لذلك فهؤلاء أصحاب الشأن هم من يغذون الطائفية والصراع الطائفي بقصد أو من خلال سكوتهم. والدليل على ذلك تلك المواقع العديدة على شبكة الانترنت التي تهاجم الشيعة ونظيرتها التي تهاجم السنّة، فمن وراء تلك المواقع؟ إنها ليست الموساد ولا المخابرات البرازيلية، ولكنهم مجموعات من كتاب وعلماء العرب بدليل نشرهم الدراسات الموثقة من وجهة نظر كل فريق، والاستشهاد بمصادر الطرف الآخر التي لا يصل إليها إلا المتخصصون، الذين يستخدمون تخصصهم في بث الفرقة والنعرات الطائفية.
وبالتالي نستطيع تصور إلى أية هاوية ستنحدر هذه الشعوب طالما جهدها الأساسي ضائع في الخلاف على التصنيف بين إرهابي وشهيد، وصرف شهادات دخول الجنة والحرمان منها ، وغالبية من يقود هذه الحملات يسيرون في الاتجاه المعاكس لتوجهات شعوبهم ، من عدنان عبد الصمد إلى محمد أبو فارس ومن لفّ لفهم ودار في حلقاتهم، وفي الوقت ذاته نحن الجماهير الغلبانة التي بالكاد نفكّ الخط وبقية جماهيرنا الأميّة التي لا تقرأ ولا تكتب، وتسمعكم فقط عبر الفضائيات التي جعلتكم أشهر من نانسي عجرم وهيفاء وهبي... نسمع من منكم؟ ونتبنى أية صفة: شهداء أم إرهابيين؟ أم من الممكن أيها الملالي حملة التوكيل الإلهي ومفاتيح الجنة أن يكون الشخص شهيدا وإرهابيا في نفس الوقت كما في حالة صدام والزرقاوي وعماد مغنية حسب تصنيف كل فريق منكم؟. لذلك وإزاء هذه الملهاة المبكية لم يبق لنا سوى الدعاء: اللهم أجرنا مما هو أعظم، إن كان هناك ما هو أعظم مما نعيش!!.
[email protected]
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه