-1-
ليس غريباً ولا مستهجناً ظهور حاكم ديكتاتور، وجزّار مغوار في التاريخ العربي. ففيما عدا عهد الخلفاء الراشدين (31 سنة) وعهد عمر بن عبد العزيز (3 سنوات) كان تاريخ الحكم العربي تأريخاً أسود بمجمله، ارتُكبت فيه أبشع الجرائم السياسية. ومن يقرأ quot;موسوعة العذابquot; بأجزائها السبعة التي كتبها عبود الشالجي، والتي يشيب لها الولدان، يدرك أن من بين 1500 سنة من الحكم العربي، لم يعدل الحكام العرب إلا خلال 34 سنة فقط (العهد الراشدي وعهد عمر بن عبد العزيز) وباقي هذه السنوات الطوال؛ أي 1466 سنة كان الشعب العربي واقعاً، وما زال، تحت أقسى وأفظع عهود الاضطهاد، والتعذيب، والفسولة (الرداءة)، والبغي، التي شهدها التاريخ الإنساني.
فهل يُوجد في التاريخ البشري شعبٌ تأصّلت فيه العبودية، وأصبح دمه عبارة عن مزيج من الطغيان، والخوف، والاستبداد، والقسوة، والفسولة، والبغي، جَداً عن جَد، وأبا عن أب؟
بل إن الذين ماتوا قبل أن يدركهم الجلادون، نُبشت قبورهم، ومن وُجد جثمانه سليماً، جُلد مئات الجلدات وعُلِّق على الأعمدة حتى أكلته الطير تماماً. ومن وُجد وقد أصبح جثمانه رماداً أو تراباً، ذرّوه في مهب الريح، ولم يسلم.
وهذا ما فعله العباسيون بالأمويين.
-2-
بالأمس فطنت مصر إلى ضرورة تكريم جزّاري الوحدة المصرية ndash; السورية، في العيد الخمسين للوحدة quot;المظفرةquot;، أمام ضريح quot;الزعيم الراحل خالد الذكرquot; جمال الناصر. وكان من بين الأبطال المُكرّمين الجزّار quot;البطلquot; عبد الحميد السرّاج، الذي كان يرأس المخابرات السورية العسكرية (الشعبة الثانية) قبل الوحدة. وبعد الوحدة أصبح ذراع عبد الناصر الأيمن في سوريا، ورُقيَّ حتى أصبح نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة في سوريا.
وسبب تكريم عبد الحميد السرّاج، أو بالأصح عبد الحميد الجزّار، يعود إلى كثرة ما قتل وأفنى من بشر من أجل عيون الوحدة المصرية ndash; السورية quot;المبجلةquot;، ومنهم فرج الله الحلو، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني (كان لبنان في عهد فؤاد شهاب يُحكم من سوريا. والمعارضون اللبنانيون للحكم المصري ndash; السوري، كان يسري عليهم ما يسري على مواطني الجمهورية العربية المتحدة). فقد قبض السرّاج الجزّار على العصفور الحلو (الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني) بناء على أوامر من (الريّس خالد الذكر) في القاهرة، وأودع السجن لمعارضة الحزب الشيوعي اللبناني للوحدة المصرية- السورية quot;المباركةquot;.
لم يكتفِ الجلاد السرّاج بسجن العصفور الحلو، وإنما قام بوضعه عارياً في (البانيو) لا لكي (يُحمّمه) بشامبو المشمش الذي تشتهر به الشام، ولكن ليصب عليه الأسيد المُذيب للحديد. وبعد أن أذاب الجلاد السرّاج العصفور الحلو في الأسيد، حملوا الخليط (أسيد+ لحم+ دم + عظم الحلو) ودلقوه في نهر بردى، لكي يختلط بماء النهر الجاري، ويختفي تماماً. وهذه قصة ثابتة، رواها كثير من الرواة، ومنهم السياسي السوري العريق أكرم الحوراني في مذكراته (الجزء الرابع، ص 2737)، وكتبها المحامي والكاتب السوري ميشيل شماس، ونشرها في الموقع السوري المعروف (كلنا شركاء) على الانترنت.
وهذه ليست هي الحادثة الفريدة والوحيدة في سجلِّ البطل الجزّار عبد الحميد السرّاج. فقد تحدث كثيرون وفضحوا عهد وحدة الإرهاب في سوريا ومصر، ومنهم المؤرخ المصري المعروف حسين مؤنس في كتابه (باشاوات وسوبر باشاوات) وفيه تحدث عن كيفية تدريب الكلاب على مضاجعة السياسيين والقضاة بالقوة في سجون مصر. كذلك تحدثوا في الشام عن خلع الأسنان، وانتزاع الأظافر، وانتزاع شعر المعارضين شعرة شعرة.. واحدة.. واحدة، في سجون دمشق، ويا بخت الأصلع منهم!
وما التعذيب الذي يتعرض له سجناء المعارضة السورية الآن، إلا من هذا التراث الإرهابي quot;الخالدquot;.
-3-
إلى هنا وكل شيء كان عادياً. ولكن ما أثارني، وكان سبب استغرابي حقاً، هو هذه الضجة الكبرى، التي قامت نتيجة تقليد نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة وسام الشرف قبل أيام، في الذكرى الخمسين لقيام الوحدة quot;المباركةquot;. وتذكرت تساؤل الشاعر أحمد شوقي في قصيدته:
إلامَ الخُلف بينكم إلامَ وهذه الضجةُ الكبرى عَلامَ؟
فعلى ماذا إذاً تريدون ndash; أيها المحتجون الكُثر من المعارضة السورية ndash; أن نمنح عبد الحميد السرّاج وسام الشرف، وهو الذي كان جزّار عبد الناصر في القطر العربي السوري؟
فلا حرباً قاد وانتصر!
ولا أرضاً محتلة استرجع!
ولا اقتصاداً مزدهراً حقق!
ولا حرية أباح وسمح!
ولا ثقافة الديمقراطية نشر!
ولا وحدة قامت وعمّرت!
فلمَ كل هذا الضجيج، وهذا الاحتجاج؟
وما هو الجديد الذي جاء به الجزّار السرّاج؟
وما هو الغريب والمستهجن الذي قام به الجزّار السرّاج؟
وضع الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في الأسيد.. بسيطة!
فالسرّاج الجزّار فعل، أقل بكثير مما فعله الأوائل من أجداده العظام.
-4-
لنقرأ مشاهد عابرة، ذكرها عبود الشالجي في موسوعته (موسوعة العذاب) عن أجدادنا العظام من الحكام:
-فزياد بن أبيه (سياسي أموي مشهور ساهم بتثبيت حكم بني أمية، وكان والياً على البصرة في عهد معاوية بن أبي سفيان) عذّب الناس، ودفنهم أحياء، وبنى عليهم الحيطان، وقطّع أطراف النساء (الجاحظ، الحيوان، ج5، ص 588،589).
-وعبيد الله بن زياد (من أشهر ولاة الأمويين، كان والياً على خراسان في عهد معاوية، ثم والياً على الكوفة والبصرة، وهو الذي أمر بقتل الحسين بن علي) كان يرمي الناس من شاهق، ويقتل الرجل، ويبعث برأسه إلى زوجته أو ابنته، ويرمي الرأس في حجرها.
-الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قتل ألف ألف إنسان (مليون بني آدم) كما ذكر الإمام أبو الفرج زين الدين الحنبلي في (لطائف المعارف، ص 141).
-الخلفاء العباسيون: المنصور، والمتوكل، والقاهر، وأتباعهم كانوا ينعّلون الناس بنعال الدواب؛ أي يدقون (الحذوة) في أرجل الناس كما الدواب. وكانوا يسمّرون الناس في الحيطان، ويسّلون أظافرهم، ويشرّحون لحومهم بجرّ القصب المشقوق على أبدانهم، كما ذكر أبو علي أحمد بن مسكويه في (quot;تجارب الأمم وتعاقب الهممquot;، ج2، ص 14 ).
وهناك الكثير من الصور التي يمكن الرجوع إليها في (موسوعة العذاب)، وأنا لا أستطيع نقل المزيد منها الآن، فقد بدأت أتقيأ.
السلام عليكم.
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه